10 حكايات مصرية منسية: سعد زغلول «حرامي حلة»
تمتلك مصر زخمًا تاريخيًّا مدهشًا يندر أن تجده في أي دولة أخرى، ومهما تعدّدت محاولات تقديم حواديتها وتاريخها تبقى فيه صفحات كثيرة مجهولة لم نُحط بها علمًا. قدَّم الكاتب أيمن عثمان في مُؤلَّفه «تراث مصري» حفنة من هذه الحواديت المجهولة من تاريخ مصر الاجتماعي، انتقينا لكَ بعضها وقدَّمناها في هذا التقرير لتعطينا لمحات لم نكن نعلمها عن مصر خلال القرن التاسع عشر.
1. الإنجليز يراقبون الأفلام
أعلن السير جون مكسويل قائد جيش الاحتلال البريطاني في مصر الأحكام العرفية والحماية على مصر بعدما دخلت تركيا الحرب ضد روسيا عام 1914م، بهدف السيطرة على الحالة العامة داخل القطر المصري، ومن بينها السيطرة على الأمور التي تخاطب العقول وتحرك الأذهان حتى لا يستغلّها «أعداء البلاد» في الدعاية لأنفسهم.
لأجل هذا تم إنشاء قسم للرقابة يتبع وزارة الداخلية ومنه تشعب قسم للرقابة على الأفلام، وترأّس هذا القسم أول رقيب مصري على الأفلام السينمائية هو بهجت الشوربجي.
الزهور القاتلة هو أول فيلم تمنعه الرقابة، وجاء في حيثيات المنع أن القرآن ظهر مقلوبًا في بعض المشاهد بسبب جهل صنّاعه الإيطاليين باللغة العربية، ومن بعدها توالت الأعمال السينمائية التي اعترضت الرقابة على عرضها، منها فيلم «النبي» الذي كان يهدف إلى تشخيص النبي محمد في فيلم من بطولة يوسف وهبي، وفيلم أولاد الذوات الذي منعت الرقابة عرضه لفترة بسبب خوفها من حدوث اضطرابات في العلاقات السياسية الفرنسية حيث دارت أحداث الفيلم عن رجل مصري تزوج من فتاة فرنسية مستهترة، فاعترضت فرنسا عن الصورة التي شبهت بها السينما المصرية بناتهن. وحدث الأمر ذاته مع فيلم ليلى بنت الصحراء، الذي كاد أن يقطع العلاقات بين مصر وإيران حيث صور كسرى ملك الفرس رجل متعدد العلاقات النسائية، همه الأول الركض وراء الحسناوات.
2. لعنة الترام
كانت وسائل المواصلات الشعبية المتوفرة للمصرين هي الدواب (منها الحمار). ولكن عام 1896 دخل الترام مصر. تلك العربات الغريبة التي تسير من غير وقود ولا تجرها الدواب. الأمر الذي جعل الناس يخافون هذا الشيء الجديد فأصبح يتجول خاليًا في العتبة بلا ركاب.
وكانت عندما تتحرك في الميدان يستعيذ المارة بالله من هذا العفريت ويطلبون منه أن يرحمهم منه. وبذلت الحكومة مجهودات عظيمة لتثبت للمصريين أن الترام يسير بالكهرباء، وأنها أسرع وأفضل وأكثر نظافة من الحمار الذين اعتادوا ركوبه.
قامت جريدة صوت الأمة عام 1947 بعمل حوارات صحفية مع الجمهور المصري عن النوستالجيا التي تعصف بأذهانهم وتذكرهم بما مضى، ومن بين المواضيع التي ناقشتها كانت «كيف تعرف المصريين على الترام كظاهرة جديدة داخل المجتمع؟»، وعند سؤالهم لأحد المواطنين المعاصرين لتلك الفترة، قال الشيخ رجب، إنه ذات يوم بينما كان يتمشى مع أصدقائه طارت مسبحته ووقعت على شريط الترام وحذره من معه بعدم لمسها لأنها أصبحت مكهربة، وكلما مرَّ أحدٌ تحسّر على المسبحة جميلة الشكل التي أصابتها لعنة الترام، وهكذا ظلَّ واقفًا ينظر إليها في حسرة حتى جاء الترام من بعيد، فأوقفها الخواجة الذي يرتدي القبعة (سائق الترام)، ونزل والتقطها حيث أًعجب بمنظرها، فأخذها لنفسه دون أن يتكهرب.
3. المشخصاتية
المقصود بفن التشخيص هو التمثيل. عرفته مصر مع قدوم الحملة الفرنسية كأحد وسائل الترفيه عن الجنود. وقد تم تأسيس أول مسرح على يد اثنين من رجال البعثة العلمية للحملة الفرنسية، وسُمي بـ«مرسح الجمهوربة والفنون»، ومن هنا ارتبط لفظ مرسح بالمسرح لفترات طويلة من الزمن، كما كان ينطقها العامة آنذاك.
قدّم المسرح العديد من أعمال فولتير وموليير على مستوى الطبقة الراقية، أما الطبقة الشعبية فكانت تطلق على المشخصاتية كلمة أولاد الرابية، أما النساء فكنَّ لا يُمثلن إطلاقًا لذلك كانت الأدوار النسائية تُسند إلى الرجال أيضًا!
وعُرف عددٌ من الممثلين بلقب «أصحاب الرمز»، لأنهم كانوا يقدمون المواضيع غير المسموح التطرق لها بالشكل المباشر تلك المتعلقة بالسلطة أو الحكم. فكانت أدوارهم في ظاهرها شيئًا ساذجًا وفي باطنها إسقاط سياسي. واستخدموا هذه الطريقة حتى لا يتعرضوا للمساءلة القانونية.
انضمت طوائف جديدة إلى مهنة المشخصاتية منها القرداتية وباعة حب العزيز واليانصيب والعاملون في كي الطرابيش، حيث امتهنوا التمثيل ليلًا بعد الانتهاء من عملهم صباحًا.
وظلت تلك المهنة بهذا الشكل حتى عام 1876م حيث جاءت فرقة سليم خليل النقاش السورية إلى مصر فحدثت النهضة المسرحية على أيديها، عندما أسس فرقة الروايات العربية ومن بعدها تكونت العديد من الفرق المسرحية ونالت استحسان الخديو آنذاك. ومع ذلك لم يكن يُسمح للفرق الشعبية المكونة حديثًا أن تقف للتمثيل على خشبة مسرح الأوبرا غير الأجنبية منها.
حينها كان التمثيل النسائي مقتصرًا على السوريات أو الجنسيات الأخرى غير المصرية حيث كانت النظرة إلى المشخصاتية أنها مهنة متدنية ولايصح للسيدات المصريات أن يعملن بها. ولكن الست منيرة المهدية هي من كسرت هذه القاعدة لتصبح أول مصرية تمتهن التمثيل إلى جانب الغناء، ومن بعدها انطلقت المصريات للدخول في عالم التمثيل.
4. ترقيم المنازل
قبل عام 1847م لم تعرف مصر ترقيم المنازل فكان الذي يبحث عن عنوان يقضي نهاره كله وربما ليله أيضًا باحثًا عن منزل صديقه، وكل ما يعرفه عنه هو اسمه ومنطقة سكنه فقط. هنا تبدأ رحلة البحث بمساعده المارة وسكان المنطقة، فأدى ذلك إلى كثرة الشكاوى وتذمر المواطنين، الأمر الذي جعل الحكومة تشعر بوجود مشكلة وتسعى لحلها.
أصدر محمد علي باشا مرسومًا بضرورة ترقيم المنازل وكتابة أسماء الشوارع، وراعى أيضًا مشكلة انتشار الأمية في مصر فتم تمييز اللافتات بالألوان المختلفة، فهذا شارع ذو يافطة حمراء وذاك خضراء وهكذا.
أما عن الأسماء ذاتها فكانت تحمل الاسم العالق بالذهن سواء أسماء الأشخاص أو الحكايات أو وصف المكان، فنذكر مثلًا تسمية الزمالك بهذا الاسم لأنها تعني باللغة التركية «العشش»، حيث كانت الزمالك مأوى للذئاب والعقارب والثعابين ولم يرد أحد العيش فيها حتى جاء عبد النعيم محمدين من قنا عام 1897م واشترى قطعة أرض بهذه المنطقة، وكانت زهيدة السعر وقتها، فاستصلح الأرض وطهّرها من الحيوانات وزرع فيها، ومن بعدها استقدم الفلاحين ليعاونوه في مشروعه الجديد. فاشترى المزيد والمزيد من الأراضي وأصبح عمدة للمنطقة.
وبعدما تحولت الزمالك لجنة خضراء لفتت نظر الأثرياء، فتهافتوا على شراء أراضيها التي تُمكنهم من العيش بعيدًا عن ضوضاء المدينة، ومع الوقت تحولت إلى حيٍّ للأثرياء والأعيان وكبار الفنانين.
5. تعاطفك لوحده مش كفاية
التبرعات كانت في تاريخ مصر الحديث هي أحد الحلول التي اعتمد عليها المجتمع في علاج مشاكل الصحة ومحو الأمية وكفالة اليتامى وأخيرًا لدعم الاقتصاد المصري، وتم التعبير عن تلك الظاهرة بشعار «تعاطفك لوحده مش كفاية»، في إشارة إلى أن المشاركة المادية هي الحل العملي الذي ينقذ الأمر وليست المشاركة المعنوية فقط.
تبرع الأثرياء عام 1902م لإنشاء الإسعاف المصري في مواجهة أزمة الكوليرا، وأقيمت حملة تبرعات عام 1908م لبناء الجامعة الأهلية، علاوة على الحملة التي أطلقها الزعيم محمد فريد عام 1909 لمحو أمية القرى والنجوع وغيرها المئات من حملات التبرع، وبفضلها أُنشئت مؤسسات ظلت قائمة حتى اليوم.
أبرز الآثار المعاصرة لحملات التبرع هي مستشفى «مبرة محمد علي»، والتي أسستها الأميرة عين الحياة أحمد، والتي استطاعت من خلال جهودها لجمع الأمور عبر إقامة حفلات فاخرة لجمع التبرعات، وبالنهاية نجحت في إنشاء عدة مستوصفات وسيارات إسعاف تجوب الشوارع وتوزع دواءً مجانيًا، كما أقامت مدرسة لتعليم الفتيات التمريض.
6. مظاهرات ضد العميد
للمبدعين دائمًا جمهوران؛ جمهور مؤيد ومشجع وجمهور معارض ورافض، ولم يشهد التاريخ المصري خلافًا على شخصية مشهورة بقدر ما حدث مع الكاتب طه حسين. حيث نُظمت مظاهرات تُنادي بفصله من الجامعة ومحاكمته وإجباره على إشهار إسلامه حتى وصل الأمر إلى مجلس الأمة وأصبحت الحكومة طرف في الأزمة؛ إما محاكمة طه حسين وإما سحب الثقة منها.
والسبب هو أن كتاب طه حسين الشهير «في الشعر الجاهلي»، والذي صدرت ضده عشرات الكتب، وتزعم أن طه حسين طعن في نسب النبي، ومن أشد هذه الكتب لهجة هو كتاب «تحت راية القرآن» لمصطفى صادق الرافعي.
جريدة السياسة كانت هي المنبر الوحيد المؤيد له وسمحت لطه حسين بنشر وجهة نظره من خلالها، وهنا قال إنه لا ينكر القرآن ولا يهاجم الأديان، بل يعتمد على المنهج الديكارتي في كتابه للبحث عن الحقيقة، كما أكد أنه لا يُنكر النبي إبراهيم وابنه إسماعيل.
7. هنا القاهرة
حتى عام 1927م لم يكن في مصر إذاعة محلية إلا تلك التابعة للبريطانيين، والتي تخدم أهدافهم وسياستهم ولا يسمعها إلا الأثرياء. ولكن على يدي حبشي جرجس أنشئت أول إذاعة أهلية مصرية، والتي مرت بعدة صعوبات إنتاجية حتى وصلت إلى مرحلة الاستقرار بِاتخاذ مقرٍّ لها في حدائق القبة مع الشريكين أحمد فريد الرفاعي وإسماعيل وهبي.
كانت الإذاعة تبث القرآن الكريم والإعلانات التجارية والأغاني، ومن بعدها تعددت المحطات الإذاعية ومن ضمنها محطة مصر الملكية ومحطة عرابي وراديو فيولا وغيرها. دارت بينها حرب سجال بهدف الانتشار واستخدمت كل الحروب المعنوية ومنها بث الشائعات حتى صدر قرار بإغلاق كافة المحطات الأهلية ودمجها في محطة حكومية واحدة.
وفي عام 1934م صدرت أول إذاعة مصرية رسمية ولكن تحت إدارة مدير بريطاني، بينما كان أغلب العاملين فيها مصريين. أما عبارة «هنا القاهرة» فأول من نطق بها هو المذيع محمد فتحي.
اشتملت فقرات هذه الإذاعة على القرآن الكريم والأغاني التي قدمتها أم كلثوم ومحمد عبد المطلب وفريد الأطرش، بالإضافة إلى الديالوجات التمثيلية من المسرحيات العالمية والمونولوجات.
8. منفى عرابي
تنتهي معرفة جميع المصريين الزعيم أحمد عرابي بخبر نفيه إلى جزيرة سيلان، أما ما بعدها وعن حياته الأخرى في المنفى فلا يعرفها أحد تقريبًا. والحقيقة أن عرابي عاش 20 سنة بالمنفى بعيدًا عن وطنه بصحبة 6 آخرين من قادة الثورة العرابية.
استقبل سكان الجزيرة عرابي وزملاءه في الميناء التي رست فيها السفينة التي تحمله عام 1883م. وأطلقوا عليه لقب «البطل عرابي»، وفي مدينة كولمبو مارس الرجل دورًا اجتماعيًا هامًا بعدما دعا سكان الجزيرة إلى تعلم اللغة الانجليزية حتى يأمنوا شر أهلها واستجابوا له في النهاية بعد أن عارضوه في أول الأمر، كما كوّن حملة تبرعات لبناء مدرسة الزاهرة وأصبح عرابي أول رئيس فخري للمدرسة.
أثناء وجوده في الجزيرة أمطره السكان بالعديد من الأسئلة الدينية من منطلق الدعاية البريطانية التي شوّهت سيرته وصوّرته على أنه مسلم متعصب قام بثورة في مصر ليحارب العقيدة المسيحية، وأنهم (الإنجليز) اضطروا لاحتلال مصر؛ لدرء خطة عرابي التعصبية ضد المسيحيين، وهذا ما نفاه عرابي أثناء وجوده معهم بسماحه أخلاقه ورده الوسطي على الأسئلة الدينية الموجهه له.
9. الزعيم حرامي الحلة
عندما اندلعت ثورة 1919 كان هناك حراك كبير على المستويين السياسي والشعبي. وكعادة أي ثورة تنقسم فيها الآراء بين مؤيد ومعارض، وبما أن سعد زغلول كان قائد الثورة فبالضرورة أن تنقسم الآراء حوله أيضًا، كلٌّ حسب أهوائه الشخصية أو مصالحه الخاصة.
ومن بين عشرات الجرائد والمجلات التي تناولت موضوعات الثورة كانت جريدة الكشكول هي العدو اللدود لسعد زغلول، والتي استعانت بأمهر الرسامين لرسم كاريكاتير يشوه سمعته، علاوة على مجلة «الاثنين والدنيا» التي نشرت تحقيقًا بعنوان «سعد زغلول متهم بسرقة حلة».
والقصة أن سعد زغلول في بداية حياته كان يسكن في غرفة واحدة مع اثنين من طلبة العلم من الأزهر؛ الأول هو الهلباوي باشا نقيب المحامين لاحقًا والثاني هو الشيخ حسين. كان الأخير هو الأكبر سنًا فتولى شئون الغرفة، وبعد فترة اكتشف سعد زغلول والهلباوي أن مخزون الطعام ينقص وكانت مشكلة بينهما وبين الشيخ حسين، وتركا له الغرفة وانتقلا إلى غيرها. الأمر الذي ضايق الشيخ حسين ورفع إلى إدارة الأزهر شكوى مفادها أن الهلباوي سرق منه حلة نحاسية.
مرت السنون، وبعد اندلاع ثورة 1919م استغلت الجريدة تلك الحادثة بعدما عدّل الشيخ حسين اتهامه زورًا نحو سعد زغلول، ومن هنا أصبحت قصة سعد زغلول حرامي الحلة ذائعة الصيت.
10. الأرصدة الإسترلينية
يحكي الكتاب أن بريطانيا سرقت المال العام المصري لدعم مصالحها الخارجية دون أي محاسبة أو ردِّ لهذه الأموال بسبب استهتار المسؤولين المصريين.
السبب وراء هذا الدين كان قيام الثورة العربية بقيادة الشريف حسين ضد الدولة العثمانية وكانت بريطانيا تدعم تلك الثورة فزودتها بالتمويل اللازم للمواجهة، وهو الإجراء الذي تمَّ على حساب الاقتصاد المصري بعدما امتدَّت يد بريطانيا إلى السبائك الذهبية التي أودعها البنك الأهلي في خزانته مقابل سندات تعترف بالدين، وظل البنك يُصدر أوراق البنكنوت بدون غطاء من الذهب بل يُصدرها معتمدًا على السندات، التي بلغت 430 مليون جنيه إسترليني ولم تُرد حتى الآن.