يوم ثارت «قرطبة»!
اتَّسمت الأندلس بالقلاقل والثورات قبل مجيء «عبد الرحمن الداخل» (138- 172هـ)، الأمير الأموي الهارب من بطش العباسيين، تارة حين يثور البربر على حكم الأمراء المعيّنين من قبل الأمويين، وتارة حين يقتتل العرب قيسية ويمانية ضد بعضهما البعض، وتارة العرب ضد البربر، وفي ظل هذا التشظي الاجتماعي، والانهيار السياسي المصاحب لسقوط الأمويين في المشرق، كانت الأندلس تعيش حالة من الولادة السياسية الجديدة على يد «الداخل».
بين فرنجة الخارج وفتن الداخل
وطّد عبد الرحمن الداخل الأوضاع السياسية والأمنية في الأندلس، وأعاد بعث الأمويين من جديد في الغرب الإسلامي، وسار من بعده ولده «هشام بن عبد الرحمن» على سياسة والده حتى وفاته في عام 180هـ، وعهد بالحكم من بعده إلى ولده الأمير «الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل» الذي اشتُهر فيما بعد باسم الحكَم الرَّبَضي (180 – 208هـ).
اتخذت إستراتيجية «الحكم بن هشام» في الحُكم مسارين أساسيين، الأول: مقاومة الفرنج في شمال الأندلس، وهو ما بدأ منذ اعتلائه للعرش سنة 180هـ؛ حيث أمر حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث بجهاد الفرنج في قشتالة القديمة، فتمكن من الاستيلاء على قلعة قلهُرة الواقعة على نهر إيبرو، وأثخن في بلاد البشكنس «نافار»، وعاد مثقلاً بالغنائم والسبي.
أما المسار الثاني فقد أُجبر عليه «الحَكَم» إجبارًا، حين اضطر إلى مقاومة بوادر الخروج والثورة التي أخذت تتفتح حوله من كل صوب، وكان الثغر الأعلى «أراغون» موطن الخطر وشرارته الأولى؛ إذ كان والده «هشام بن عبد الرحمن الداخل» قد نفى أخويه سليمان وعبد الله إلى العدوة المغربية حين اعتلى العرش خوفًا من النزاع حوله، فاتجه الأخوان سرًا إلى الثغر الأعلى في سرقسطة، بل اتجه عبد الله بن عبد الرحمن الداخل إلى فرنسا طالبًا العون من العدو اللدود شارلمان الأكبر، الذي رأى في هذا الطلب فرصة سانحة للتدخل في شئون الأندلس، ولقهر قوة خصومه الأمويين الذين قهروا قواته في شمال الأندلس من قبل، لكن «الحكَم» لم يسمح بهذا العبث، وأظهر قوته ونهضته تجاه هؤلاء المتحالفين ضده، وسرعان ما عادت سرقسطة ووشقة ولاردة وغيرها إلى الطاعة الأموية.
لكن الأخوين سليمان وعبد الله لم يستسلما، وجمعا الأنصار هذه المرة من الشمال واتجها إلى قرطبة، والتقوا مع القوات الأموية في مكان يُسمى «فنجيط» في شوال سنة 182ه،ـ فهُزم سليمان، ثم التقى الفريقان ثانية بالقرب من منطقة «إستجّة» في صفر سنة 183هـ، فهزم سليمان مرة أخرى بعد قتال عنيف، وفرّ في أصحابه متجهًا إلى ماردة، فبعث «الحَكَم» الجندَ في أثره، فطاردته حتى قُبض عليه، وجيء به إلى الحكم الذي أمر بإعدامه، وطيف برأسه في قرطبة، وهرب عمه عبد الله إلى بلنسية غير أنه سرعان ما أرسل يطلب الأمان، فأمّنه الحكَم، وبهذا انتهت أقوى الفتن الداخلية أثرًا في مستهل ولايته، على أن هذه الفتنة الداخلية لم تكن أول المتاعب التي واجهها الحكَم.
من انقلاب الفقهاء إلى ثورة جماهير قرطبة
أمام تلك المتاعب المتوالية على الساحة الإقليمية في مواجهة الفرنج، وفي الساحة الداخلية في مواجهة الفتن والقلاقل، اتسم الحكَمُ الأموي بالصرامة والقوة والحزم، بما أثّر على سياسته تجاه الطوائف الاجتماعية المختلفة وعلى رأسها الفقهاء.
لقد احتل الفقهاء المالكية منذ زمن أبيه هشام بن عبد الرحمن الداخل مكانة ونفوذًا كبيرًا على المستويين السياسي والاجتماعي، لكن الحكَم لم يرض أن يتسع هذا النفوذ فينال من هيبته ونفوذه، لذا شرع عدد من هؤلاء الفقهاء من الحط من شأن الأمير، وكان على رأسهم راوي الإمام مالك وأحد نظرائه – كما يقول ابن القوطية- الفقيه «طالوتُ بن عبد الجبار المعافري»، وكانت حجتهم في ذلك أن الحكم كان قاسيًا صارمًا طاغيًا، وأنه يكثر اللهو والشراب، وأخذت هذه الدعاية السلبية تعمل عملها في أهل العاصمة قرطبة، خاصة المناطق التي كانت في خارج أسوار المدينة البعيدة نوعًا ما عن قبضة الأمن الأموي، وهي المناطق التي كان يُطلق عليها «الأرباض» جمع ربض.
وزاد من خطورة هذه الحركة انضمام بعض الأعيان والفقهاء الكبار إليها، بل وانضمام عدد من أبناء الأسرة الأموية سرًّا، واتفقت هذه المجموعة على زيادة الدعاية، وتأليب الجماهير، بل وتعيين أميرا جديدا خلفًا للحكم إن نجح انقلابهم، وهو «محمد بن القاسم المرواني»، لكن هذا المرواني كان السبب الرئيس في إنقاذ رقبة قريبة الأمير الحكم الأموي؛ فقد أخبره بعزم المتآمرين، وبأسمائهم، وبموعد تحركهم، فقبض على عدد كبير منهم، وأنزل عقوبة الإعدام في 72 منهم، وكان إعدام هذا العدد الكبير قسوة ظاهرة منه، وكان من بين القتلى عمّاه مسلمة وأمية ابنا عبد الرحمن الداخل، فأثار قتل هذا العدد الكبير من الفقهاء ورؤساء الأسرة الأموية نقمة في النفوس، وغضبًا في الصدور.
ولم تمض أشهر على هذه الحادثة حتى تحركت الجماهير في ثورة من الغضب العارم، وثارت العامة في الرَّبض “«الضاحية»، وتحركت نحو القصر الأموي للاستيلاء عليه، وتعيين بديل للحكم الذي كان خارج قرطبة في مواجهة أخرى، لكنه عاد مسرعًا وأمر جنوده وشرطته بسحق هذه الثورة، فعاثت العساكر الأموية نهبًا وقتلاً في الثائرين، وإحراق موطن الثورة ربض شقندة في رمضان سنة 202هـ، فهرب الثوار، وانجلى معظم أهل الربض عن مساكنهم في بلاد الأندلس، وكثيرون منهم هربوا من الأندلس إلى الأسكندرية في مصر، لكن العباسيين الذين كانوا يحكمون مصر آنذاك، أمروا واليهم «عبد الله بن طاهر» بطرد هؤلاء الثائرين الأندلسين، فاتجهوا صوب جزيرة أقريطش «كريت»، وكوّنوا نواة دويلة إسلامية في البحر المتوسط استمرت قرنًا فيما بعد، حتى قضى عليها البيزنطيون حين استولوا على الجزيرة.
الثورة القرطبية.. بالوثائق
من حسن حظنا أن وثيقة صدرت من «الحَكَم الربضي» إلى عمّاله وموظفيه في طول بلاد الأندلس وعرضها عُقيب ثورة ربض قرطبة، هذه الوثيقة جاء على ذكرها «ابن حيّان» مؤرخ الأندلس في كتابه الأشهر «المقتبس»، واستلّها الدكتور محمد ماهر حمادة في كتابه «الوثائق السياسية والإدارية في الأندلس وشمالي إفريقية»، وهي تكشف لنا وجهة نظر السلطة الأموية لهذه الثورة، وكيف تم وأدها، وهي تقنيات لا تزال متبعة بعد 1200 عام في أصول الحكم، وأدوات السلطة إلى اليوم.
جاء في تلك الرسالة على لسان الأمير الحكم: «إنه لما كان يوم الأربعاء الثالث عشرة من رمضان، تداعى فسقة أهل قرطبة وسفلتهم، وأذنبتهم من الشرطانيين، على غير مكروه سيرة، ولا قبيح أثر كان منا فيهم، فأظهروا السلاح، وتليّنوا الكفاح، وهتفوا بالخَلَعان، وتأنقوا بالخلاف، ومدوا عنقًا إلى ما لم يجعله الله له أهلاً من التأمير على خلقه، فلما رأيتُ ذلك من غدرهم وعدوانهم، أمرت بشد جدار المدينة، فشُد بالرجال والأسلحة، ثم أنهضتُ الأجناد خيلاً ورجالاً على من تداعى من الفسقة في أرباضها، فأقحموا الخيل في شوارعهم وأزقتهم، وأخذوا بفوهاتها عليهم، ثم صدقوهم الحملات، وكوّروهم بالسدات المتواليات، فما صبر العبدان أن كشفوا السوءات، ومنحوا أكتفاهم المتواليات، وأمكن الله منهم ذوي البصائر المؤيدات، فأسلمهم الله بجريرتهم، وصدعهم ببغيهم، وأخذهم بنكثهم، فقتلوا تقتيلاً، وعموا تدميرًا، وعروا تشويهًا وتمثيلاً؛ جزاءً عاجلاً على الذي نكثوه من بيعتنا، ودفعوه من طاعتنا، ولعذاب الآخرة أخزى وأشد تنكيلاً».
هذا الخطاب الواضح الذي يكشف ما أنزلته السلطة في المتمردين، كان بمثابة البيان الإعلامي لكافة أصقاع الأندلس الأخرى، رغبة من السلطة في رفع الغطاء عن المتمردين من أي متعاطف يبغي الثورة، وتخويفًا في الوقت ذاته لكل من تحدثه نفسه بعمل شبيه بهذا.
وعلى الرغم من العقاب الأليم الذي أنزله «الحَكَم» في الفقهاء وبعض رجالات الأسرة الأموية فضلاً عن جماهير أهل ربض قرطبة وضواحيها، فإن في الوقت ذاته لما ظهر له قائد هذه الثورة «طالوتُ بن عبد الجبار»، وعلم بمكانه، وأحضره إليه، وعرف ما كان في نفسه من التحريض وأسبابه، لم يُنزل به العقوبة بل عفا عنه، قال ابن القوطية مؤرخ هذه الفترة على لسان الحكم حين واجه الفقيه طالوت: «والله لقد بعثتُ فيك وما في الأرض عقابٌ إلا وقد مثلتُه بين يدي لأوقعه بك، فأنا أُعلمك أنَّ الذي ابتغضني لك قد صرفني عنك، فانصرف في حفظ الله آمنًا، والله لا تركتُ برَّك، وما كنت عليه في جانبك حياتي إن شاء الله».
ومات الفقيه طالوت بعد ذلك بعدة سنوات، فخرج الحكم مشيعًا له، وكان قد ندم كما يذكر ابن القوطية على ما أنزله من العقوبة في أهل الربض في أخريات عمره، ومات الحَكَم وهو سيد الأندلس ورجلها الأول، والشوكة الأقوى في حلق الفرنج في الشمال، وذلك سنة 208هـ، وخلفه على حكم الأندلس من بعده ولده «عبد الرحمن الأوسط».
- ابن القوطية: تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري، الطبعة الثانية – القاهرة، 1989م.
- ابن حيان: المقتبس، جمع وتحقيق محمود علي مكي، لجنة إحياء التراث العربي – القاهرة، 1994م.
- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، من الفتح إلى بداية عصر الناصر، الجزء الأول، طبعة مكتبة الأسرة – القاهرة، 2001م.
- محمد ماهر حمادة: الوثائق السياسية والإدارية في الأندلس وشمالي إفريقية، دراسة ونصوص، مؤسسة الرسالة – بيروت.