هل نعرف ما هي «الخلافة»؟
الخلافة، تلك الراية التي حُكم باسمها الملايين عبر مئات السنين. الغاية التي تكسرت من أجلها النصال على النصال. فُتحت باسمها البلاد، وسفكت من أجلها الدماء. يُصور المتحمسون لها اليوم تاريخها بالنقاء والصفاء، ويعتبرونها المخلص من كل شر واقع بنا، ويُصور النافرون منها اليوم حقبها بأنها الأسوء والأفسد عبر التاريخ، مستشهدين بمن يدعون «الخلافة» اليوم، وتثار الخلافات صباح مساء حولها.
هل هي مظهر تاريخي عرفه المسلمون في الحكم قديمًا ولا يصلح للتطبيق الآن، أم أنها واجب شرعي يجب أن يوجد في الأمة؟ هل تعتبر «داعش» فعلًا نموذجًا حقيقيًا لدولة الخلافة كما أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أنه تنظيم إرهابي دموي يسئ إلى الإسلام؟
الحكم على الشيء فرع عن تصوره، هكذا قال علماء المنطق، فلا يمكن الحكم على أمر –فكرة كان هذا الأمر أو سلوكًا- بأنه أمر حسن أو قبيح إلا بعد إدراك أبعاده المختلفة إدراكًا جيدًا يسمح بإطلاق الأوصاف المناسبة له والدالة عليه.
ومن هنا فلا يمكننا تبني فكرة الخلافة والدفاع عنها من جانب، أو مهاجمتها ورفضها من ناحية أخرى إلا بعد معرفة معناها، وشروط القائمين عليها، وما ينبغي أن تكون عليه، ثم معرفة التطبيقات المختلفة لهذه الفكرة ومدى اتفاقها أو اختلافها مع القيم النظرية التي يجب أن تكون هذه التطبيقات قد انطلقت منها.
وعليه فإذا أردنا معرفة معنى الخلافة؛ فعلينا الرجوع إلى علم جليل القدر هو علم السياسة الشرعية، وهو علم تغذيه علوم كثيرة كعلم أصول الفقه، علم الفقه، علم الفلسفة، علم الاجتماع، وعلم الإدارة والتدبير وغيرها.
نتوقف الآن مع تعريف الخلافة في أحد الكتب التي اعتنت بالمدخل الفقهي للسياسة، وهو كتاب «الأحكام السلطانية» للإمام أقضى القضاة الماوردي المتوفى 450 هـ، فنجده يبدأ الباب الأول من الكتاب ببيان الإمامة فيقول:
ويقول الإمام السعد التفتازاني في متن «مقاصد الطالبين في علم أصول عقائد الدين»، في الفصل الذي عقده للإمامة قال:
إذن فالخلافة في الأصل تعني وراثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ربنا سبحانه وتعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. وجعل مهمة هذا النبي الأساسية هي تلاوة آيات الله لتزكية نفوس عباد الله، وتعليمهم ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم.
ثم هو إلى جوار تلاوة الآيات والتزكية والتعليم؛ يقوم على ضبط أحوال الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو المربي والمعلم والقائد العسكري والمصلح الاجتماعي، وإليه مرجع الأمور كلها في الكيان السياسي لدولة الإسلام. وهذا هو الفارق الجوهري بين الإسلام والعلمانية. ولعلنا نتعرض لهذا في مقام آخر إن شاء الله تعالى.
فإذا رحل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدنيا، كانت مهمة الخليفة من بعده أن يحفظ أدوار النبوة في الأمة. وقد طرحنا في لقاء سابق سؤالا مهما هو: لماذا لم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم شخص الخليفة من بعده؟ وقلنا إن منهج النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بأمر السياسة؛ هو وضع الأطر الحاكمة والقواعد الكلية وترك التفاصيل للأمة تدبرها وتجتهد بشأنها حسب ما يتجدد في واقعها من أحداث.
واجتهادها هذا في إطار نصوص الوحي الشريف قرآنًا وسنة؛ يجعل للمصيب من المجتهدين أجران، وللمخطئ أجر واحد. فما هي الأطر الحاكمة والقواعد الكلية التي يجب على المسلمين الالتزام بها في اختيار من سيقوم في مقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أول صفة: هي العلم التام المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، لأن العلماء كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هم ورثة الأنبياء.
ولأن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر. يقول الإمام الجويني ضياء الدين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف إمام الحرمين رضي الله عنه المتوفى 478 هـ في كتابه المسمى بــ«غياث الأمم في التياث الظُّلَم» المشهور بـ «الغياثي»: «الشرط أن يكون الإمام مجتهدًا بالغًا مبلغ المجتهدين، مستجمعًا صفات المفتين، ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف».
والمقصود بالعلم المؤدي إلى الاجتهاد نعرفه من معرفة معنى الاجتهاد وشروطه في علم أصول الفقه. نحن هنا نتحدث عما ينبغي أن يكون عليه الأمر، وعن المعاير والصفات التي يجب أن يتصف بها الخليفة، وليس عن التجارب التاريخية التي تحققت فيها هذا الشروط أو لم تتحقق.
الصفة الثانية التي يجب أن يتصف بها الإمام: هي العدالة على شروطها الجامعة، بمعنى التقوى والأخلاق والورع. إذ لا يوثق بفاسق في الشهادة على دراهم معدودة، كما يقول الإمام الجويني فكيف يولَّى أمور المسلمين كافة؟ والأب الفاسق مع فرط إشفاقه على ولده لا يُعتَمدُ في مال ولده، فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى فاسق لا يتقي الله؟ ومن لم يقاوم عقلُه هواه ونفسَه الأمارة بالسوء، ولم ينتهض رأيه بسياسة نفسى، فكيف يصلح لسياسة وتدبير خطة الإسلام؟
وثالث الصفات: أن يكون صاحب رأي وفكر وحكمة وخبرة إدارية تمكنه من سياسة أمر الرعية، وتدبير المصالح الكبرى للأمة. هذه الصفة تأتي بالعقل الوافر والذكاء المتّقد، بالإضافة إلى التدريب والتطوير المستمر عن طريق التجارب ومصاحبة أهل الرأي والخبرة.
رابعًا: سلامة الأعضاء والحواس من العاهات التي تمنعه من مباشرة عمله.
خامسًا: الشجاعة والنجدة والقدرة على مباشرة القتال بنفسه.
وبهذه الصفات الخمسة الواجب توفرها في الخليفة (العلم، والتقوى والورع، والعقل والحكمة، والشجاعة، وسلامة الأعضاء) يستطيعُ الخليفةُ القيام بمهمته الكبرى، وهي النيابة عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم في رعاية شؤون الدين والدنيا.
ويمكن إجمال هذه الصفات في الصفتين الواردتين في قول الله سبحانه وتعالى، على لسان ابنة الرجل الصالح وهي تتحدث عن سيدنا موسى عليه السلام:
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (سورة القصص: 26)
وكذلك ما جاء في قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف وهو يخاطب عزيز مصر:
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (سورة يوسف: 55).
وكذلك ما جاء في قوله سبحانه على لسان نبي بني إسرائيل وهو يخاطب قومه مبينًا سبب اختيار طالوت ليكون ملكًا وقائدَا لهم:
{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} (سورة البقرة: 247).
فهاتين الصفتين هما القوة والأمانة أو الحفظ والعلم أو العلم والجسم، واجتماع هاتين الصفتين في الناس قليل. فالغالب أننا نجد قويًا ناقص الأمانة، بل وفيه فجور مع قوته! أو أمينًا ناقص القوة، بل وفيه عجز ووهن مع أمانته، فماذا نفعل إذا كان الحال كذلك؟
هذا ما نحاول الإجابة عنه في اللقاء المقبل إن شاء الله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.