ميلان كونديرا: عاش الحياة كحقيقة وكتب عنها كحلم
لم يكُن «ميلان كونديرا» أديبًا بالمعنى الذي ربما قد يتفق عليه الجميع، فهو لم يكتب في حياته سوى عشر روايات تقريبًا، كما أنه لم يلتزم بالشكل الروائي المتعارف عليه، فبدت رواياته أقرب إلى المقطوعات الموسيقية، كأنها تُخفي بين ثناياها معانٍ غير منطوقة، ولكن لا تُخطئها القلوب المُختارة.
الروائي الفرنسي التشيكي المولود في مدينة «برنو» التشيكية في الأول من أبريل/نيسان عام 1929، لم يُغلّف رواياته فقط بالغموض الشاعري، ولكن حياته كذلك لم تكن أقل غموضًا، فنحن لا نعرف عنه سوى القليل، برغم شهرته الواسعة، وجمهوره العريض حول العالم، ولكن دومًا ما كان يختار لنفسه البقاء في الظل.. وربما لا يكون ذلك غريبًا، فهو كونديرا، مّن كشف عن الكائن الذي لا تُحتمل خفّته.
المزحة: بداية المأساة
نشر «كونديرا» أولى رواياته عام 1967 تحت عنوان «المزحة»، والتي انقلبت حياته بعدها رأسًا على عقب، وكأنها كانت نبوءة تحقق نفسها بنفسها، دارت الرواية حول مزحة كتبتها إحدى الشخصيات الرئيسية لمحاولة التقرُّب من فتاة معجب بها، لكن تلك المزحة الخفيفة تحولت إلى جريمة كبيرة، قادت ذلك الشاب المسكين إلى مصير مأساوي.
كانت الرواية في الأساس تتناول نقدًا لاذعًا للنظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، ولكن بعد الغزو السوفييتي لتيشكوسلوفاكيا في العام التالي على نشر الرواية، تحولت مزحة كونديرا إلى مأساة، تمامًا كما كتب عنها كونديرا، فأصبح كونديرا من المنبوذين داخل المجتمع، أو بالأحرى من أعدائه، ومنعت كتاباته من التداول لمدة خمس سنوات.
اضطر بعد مضايقات جمة إلى مغادرة بلاده عام 1975 متجهًا إلى فرنسا، حيث نال الجنسية الفرنسية عام 1981، بعد أن أُسقطت عنه الجنسية التشيكوسلوفاكية عام 1978.
ويبدو أن ذلك الجرح ترك ندبة عميقة في شخصية «ميلان كونديرا»، فقد طالب ذات مرة بألا يوصف سوى بأنه فرنسي فقط، رافضًا ذكر أصوله التشيكية، رغم إنه تراجع عن ذلك الموقف لاحقًا بعدما استرد جنسيته التشيكية عام 2019، أي قبل رحيله عن عالمنا بأربعة أعوام فقط.
الكائن الذي لن تُحتمل خفّته
أشهر روايات «ميلان كونديرا» وأكثرها كشفًا عن عميق أفكاره وأسلوبه الأدبي المميز، فهنا لا يروي «كونديرا» قصته بالأسلوب المعتاد، حيث تبدو كحلم أكثر من كونها واقعًا، فلا يتبين تسلسل زمني واضح للأحداث، ولكن التسلسل الزمني للمشاعر يبدو أكثر وضوحًا، فتظهر الرواية كالأحلام تمامًا، حيث لا نعرف الوقت ولا ندرك الأماكن، ولكننا نعرف تمامًا كيف كانت مشاعرنا، كنا سعداء، أو خائفين، أو مندهشين، دون أن نعرف أين أو متى.
بالتأكيد كان ذلك جزءًا من فلسفة «كونديرا» الذي رأى أن التاريخ أسقط الإنسان وتجاوزه تمامًا، بعد أن كان محور الفكر ومركز البحث منذ أن وضعه الفيلسوف الفرنسي «رينييه ديكارت» على رأس أولوياته في القرن السابع عشر إبان عصر النهضة، إلا أن ذلك قد تغيّر بمرور الزمن، حيث قضت الفلسفة الحديثة وعلومها التجريبية على مركزية الإنسان وجعلت منه كائنًا منسيًا، لا وزن لحياته أو لمشاعره، ولم يهمّ أي نشاط بشري لنجدة الإنسان سوى فن الرواية، الذي حمل على عاتقه هذه المهمة الشاقة.
يظهر ذلك جليًا في الرواية التي كانت السبب الرئيس في تحول «كونديرا» إلى أديبًا عالميًا، حيث ينقب فيها عن أعمق مشاعر الإنسان وأكثرها حساسية، وربما أكثرها اشمئزازًا أيضًا، ليستنتج أن ذلك الكائن الذي صنع هذه الحضارة العظيمة عبر عشرات القرون، وشيد كل تلك البنايات، وأنتج الفنون والعلوم والفلسفات، يستحيل رمادًا على هامش الزمن، وتتحول ذكراه إلى مجموعة من الأفكار التي لا تمت له بصلة، إلى أن ينساها التاريخ للأبد.
الجاني أم المجني عليه؟
بتأسيس «ميلان كونديرا» لروايته على جعل الإنسان في المركز، يتطرق بعمق إلى موضع الإنسان من العالم، وبالطبع لمعاناته التي لا تنتهي، والتي تبدو كجزء أصيل من الوجود، فلا يرى «كونديرا» أن الإنسان مسؤولًا بحق عن المعاناة التي كتبت عليه في العالم.
وهنا يستخدم «كونديرا» نظرية العود الأبدي الشهيرة للفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» ولكن على نحو معكوس، حيث يتساءل «نيتشه» عما سيكون حال العالم إذا ظلت أحداثه تتكرر مرارًا كما هي دون توقف وإلى الأبد، ولكن «كونديرا» وعلى النقيض، يرى أن الواقع هو العكس من ذلك تمامًا، أن مشكلة العالم هي في غياب العود وليس في حضوره، وتلك تحديدًا هي مأساة الإنسان.
حيث تكمن الفاجعة في أن حياة الإنسان تسير في خط مستقيم على الدوام، دون أي انحناءات تكرارية، ولا فرصة لاسترجاع حدث معين ثم إصلاحه، أو حتى التعلم من أخطاء التجارب السابقة، فكل حدث وكل موقف هو فريد في حد ذاته، ولا تتشابه أي من المواقف مهما بدت كذلك، لأن الذي حدث في الماضي هو جزء من الماضي، أما الحاضر فله معطياته التي تحكمه، مهما كانت صغيرة وغير واضحة.
لذلك لا يتسنى للإنسان أي فرصة لإصلاح الأشياء أو التعلم منها، فيكون إلزام الإنسان بتحمل مسؤولية أخطاءه وهفواته مجرد ثقل عبثي جديد من الأثقال العبثية المتراكمة التي وضعتها الحضارة على عاتق الإنسان لتصنع منه كائنًا عقلانيًا خالصًا يستطيع تحمل الثقل رغم حقيقة هشاشته، أو بالأحرى خفّته.
ولكن رغم ذلك يضع «كونديرا» استثناءًا واحدًا للقاعدة التي أقرها، ألا وهو المعرفة، حيث يرى أن الجهل هو الخطيئة الوحيدة التي تقع على عاتق الإنسان، فلا يمكن أن يتنصل الإنسان من المسؤولية تجاه جهله، لأن بذلك تصبح كل الحماقات مبرأة سلفًا.
ولكن ألا يبطل هذا الاستثناء القاعدة التي وضعها «كونديرا» من الأساس، فالمعرفة اصطلاحًا تشمل كل أنواع المعارف التي يمكن للإنسان أن يعيها في عالمه.. ربما يكون ذلك صحيحًا، وربما لا، ولكن الأكيد أن «كونديرا» قصد هذا التناقض، فلطالما لعب على إبراز التناقضات التي تسيطر على حياة الإنسان، وربما حتى تحكمها.
حفلة التفاهة: رسالة الوداع
كانت أخر ما نشره «ميلان كونديرا» في حياته، رواية «حفلة التفاهة»، والتي صدرت عام 2014، ليعلن بعدها الروائي الهرم أنه اعتزل الكتابة ليتفرغ إلى الصمت.
فبعد أن امتدح «كونديرا» البطء في الرواية التي حملت ذات الاسم، ينتهي به الحال إلى التفاهة، التفاهة التي لطالما ارتبطت بالمعاني السلبية، يراها «كونديرا» من منظور مغاير كعادته، التفاهة التي هي المعادل النظري للسخرية أو الفكاهة، وهو الذي ميّز فن الرواية عن الفلسفة بأن الفلسفة تحلل العالم من خلال مفاهيم نظرية، بينما الرواية مهمتها تكمن في تقديم العالم بروح الفكاهة.
وبرغم ذلك، يتطرّق «كونديرا» إلى العديد من الأفكار الفلسفية، كعلاقة الإنسان بالسلطة، وعلاقة المحب بمحبوبه، ويربطها جميعًا بخيوط عبثية تنطوي على التفاهة في عمقها، حتى وإن بدت غير ذلك.
فالتفاهة عند «كونديرا» أوسع من المفهوم الشائع، حيث يراها انعكاسًا لما أسماه روح الدعابة اللانهائية، الذي اقتبسه مما قاله الفيلسوف الألماني «فريدريك هيجل» عن الدعابة، حيث لا يمكن رؤية التفاهة على حقيقتها إلا من خلال عدسة روح الدعابة اللانهائية، والتي لا يمكن من خلالها إلا مراقبة غباوات الناس غير المحدودة، والسخرية منها.
لتكون الخلاصة النهائية التي أراد «كونديرا» أن يتركها قبل أن يركن إلى السكون الأبدي هي أن العالم الذي نعيش فيه ونحارب من أجله، ونتخلى عن إنسانيتنا لنحقق انتصارات محدودة وفق قواعده، لا نستطيع وصفه إلا بالتفاهة، تفاهة لا نهائية ينسينا إياها صخب الحياة وسرعتها.
ويترك لنا رسالة بالتأكيد ستعيش أطول مما عاش صاحبها: