ماذا يحدث بين إخوان الأردن؟
ليس من المعتاد أن ترسل برقيات المخابرات حول مواضيع كمباريات كرة القدم، لكن في الأردن الوضع مختلف. ففي عام 2009، ووفقًا لتسريبات ويكيليكس، أرسل القائم بأعمال السفارة الأمريكية في الأردن برقية إلى واشنطن حول أحداث شغب وعنف جرت إبان مباراة بين فريقي الوحدات والفيصلي. وفي الحقيقة فإنه يندر أن تجري مباراة بين الفريقين دون أن تشوبها أحداث العنف المتبادل في المعتاد. العنف بحد ذاته ليس هو الذي دفع القائم بأعمال السفير الأمريكي لإرسال البرقية، وإنما ما وراء هذا العنف.
يعد فريق الفيصلي -المسمى نسبة إلى فيصل الأول أول ملوك الأسرة الهاشمية- الفريق الأكثر شعبية بين المواطنين المنتمين للقبائل الكبيرة في شرق الأردن، بينما يمثل فريق الوحدات -المسمى نسبة إلى أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين- الفريق الشعبي لدى المواطنين من أصل فلسطيني. العنف بين مشجعي الفريقين لا يعود في معظمه إلى المنافسة الكروية بقدر ما يعود إلى هذه المفارقة؛ فتاريخيًا كانت القبائل الكبرى شرق الأردن تمثل الداعم الأساسي للعائلة الهاشمية الحاكمة والمستأثرين بالمناصب الهامة في الدولة، بينما يتم عادة تهميش المواطنين من أصل فلسطيني وإقصاؤهم عن مراكز صنع القرار.
النزاع القائم وسط الإخوان في الأردن لا يمكن فصل أسبابه عن هذا السياق أيضا. تأسست جماعة الإخوان المسلمين في الأردن على يد الحاج عبد اللطيف أبو قورة وعدد من رموز وأعيان المملكة عام 1945، وحضر حفل افتتاح دار الإخوان الملك عبد الله الأول بنفسه. تذبذبت العلاقة بين النظام والإخوان طوال عهد الملك الحسين بن طلال من التقارب والترحيب حينًا إلى الاعتقالات والتضييق أحيانًا أخرى، إلا أن هذه العلاقة لم تتدهور قط إلى درجة السوء التي وصلت لها علاقة الإخوان بالأنظمة العربية الحاكمة الأخرى إذ لم يحدث أن ألغي تصريح الجماعة أو تعرض أعضاؤها لأحكام بالإعدام كما حدث في مصر مثلا.
بإمكاننا إرجاع هذه الظاهرة لدى حالة إخوان الأردن -بالإضافة إلى الطبيعة الإصلاحية المحافظة التي تتميز بها التجربة الإخوانية- إلى كون معظم قيادات الجماعة وجميع مراقبيها السابقين منتمين إلى قبائل شرق الأردن مما أبقى دومًا على نوع من العلاقة الودية مع النظام الأردني. ورغم الفصل من الوظائف والاعتقالات التي طالت مراقبي الجماعة أنفسهم عدة مرات، إلا أن النظام حرص دومًا على عدم إبعاد الإخوان عنه كليا، مبقيًا على شعرة معاوية بينهما.
فبينما تم تعديل قانون الانتخابات خصيصا ليقلل عدد المقاعد التي بإمكان الإخوان الحصول عليها في مجلس النواب إلى الحد الأدنى، إلا أنه في المقابل فقد وصل الإخوان إلى رئاسة مجلس النواب، وشاركوا في أوائل التسعينات في الحكومة متولين خمسًا من الوزارات، ولم يكد مجلس الأعيان الأردني المعين من قبل الملك يخلو من أحد قيادات الإخوان البارزة المنتمين لقبائل شرق الأردن طوال تلك الفترة.
في التسعينات توترت العلاقة بشدة بين النظام والإخوان نتيجة اعتراض الجماعة الواسع على توقيع معاهدة وادي عربة مع إسرائيل عام 1994، وتلا ذلك قرارها مقاطعة انتخابات عام 1997. بعدها بعامين، توفي الملك الحسين وأعقبه على العرش ابنه الملك الحالي عبد الله الثاني -الذي كان قد قضى معظم حياته في بريطانيا والولايات المتحدة- لتدخل العلاقة بين الإخوان والنظام الأردني حقبة جديدة.
أعلنت الحكومة الأردنية قانون، الطوارئ وعلقت أعمال البرلمان، ثم شاب انتخابات عامي 2003 و 2007 اتهامات واسعة بالتزوير الحكومي ضد مرشحي جبهة العمل الإسلامي (الذراع السياسي لإخوان الإردن).
كان المراقب العام للجماعة إبان تلك الفترة (1994-2006) هو المحامي عبد المجيد ذنيبات الذي ترك منصبه للأستاذ سالم الفلاحات. وفي ظل التصعيد المتزايد والمتبادل بين النظام وقيادة الجماعة، اختار مجلس الشورى الشيخ همام سعيد ليخلف الفلاحات بعد عامين فقط كمراقب عام للإخوان.
يصطلح المتابعون للشأن السياسي الأردني على تقسيم قيادات إخوان الأردن إلى صقور وحمائم. يمثل تيار (الحمائم) قيادات الجماعة المنحدرين من قبائل شرق الأردن والمحتفظين بعلاقة ودية تاريخية مع النظام الأردني. يأتي على رأس قائمة قيادات الحمائم المراقبان السابقان عبد المجيد ذنيبات وسالم الفلاحات والقيادي التاريخي عبد اللطيف عربيات -الأول والثالث كانا عضوين بمجلس الأعيان- بالإضافة إلى مؤسس مبادرة «زمزم»، رحيل الغرايبة.
منذ العام 2008، وفي ظل تصعيد النظام لهجته ضد الجماعة، سيطر تيار «الصقور» على معظم مفاصل الجماعة وحزبها السياسي (جبهة العمل الإسلامي). ويعرف الصقور بأنهم في معظمهم ذوو أصول فلسطينية، كالشيخ همام سعيد مراقب الجماعة الحالي، أو ذوو علاقة مميزة مع حركة حماس الفلسطينية كالأستاذ زكي بني ارشيد نائب المراقب الحالي، والذي حكمت عليه مؤخرا محكمة أمن الدولة الأردنية بالسجن سنة ونصف مع الأشغال الشاقة بتهمة «تعكير صفو العلاقات مع دولة أجنبية» إثر انتقاده لسياسات دولة الإمارات تجاه الربيع العربي والحركات الإسلامية.
مع مرور الأيام بدأت أزمة تنمو وتكبر بين التيارين في الجماعة. الحمائم الأسنّ والأقرب للنظام شعروا بالتهميش من قبل قيادة الصقور الجديدة المتنفذة ولم يخفوا امتعاضهم من الخط المتشدد الذي تنتهجه قيادة الصقور تجاه النظام. بإمكاننا القول أن تيار الحمائم كان دومًا أكثر «أردنة» وولاء للبيت الهاشمي الحاكم من تيار الصقور.
مع الربيع العربي، ارتفعت أسهم تيار الصقور في الجماعة وشاركت الجماعة في الحراك الذي زامنه احتجاجات واسعة على الفساد والاستبداد في الأردن، وكان الظهور الإخواني في المظاهرات الاحتجاجية المختلفة بارزًا للغاية؛ إلا أن الوضع انقلب إثر موجة الثورة المضادة.
شن النظام الأردني هجوما حادا على الجماعة وكال لها الاتهامات حتى على لسان الملك الأردني نفسه. في العام 2013، تطور الأمر إلى خروج مبادرة «زمزم» التي أطلقها رحيل الغرايبة -المحسوب على الحمائم- بينما كان عن يمينه ويساره على المنصة كبار رجالات النظام الأردني ووزراؤه السابقون.
رأت الجماعة أنها المستهدف من وراء هذه المبادرة، وأن إطلاقها بممالأة النظام ليس إلا لإحداث صدع كبير في جسم الجماعة، الكيان السياسي الأقوى في وجه النظام الحاكم. زامن ذلك ارتفاع أصوات شخصيات بارزة محسوبة على الحمائم مطالبين بإقالة القيادة الحالية وانتخاب قيادة جديدة، ووصل الأمر إلى الاتهام بوجود «تنظيم سري داخل الجماعة على صلة بحركة حماس». كان من أعلى تلك القيادات صوتًا، المراقب السابق وعضو مجلس الإرشاد العالمي عبد المجيد ذنيبات، الذي كاد يتعرض للفصل من الجماعة إثر قبوله تعيين الملك له في مجلس الأعيان المعين رغم قرار الجماعة بمقاطعة المجلس احتجاجًا على سياسات النظام؛ إلا أنه في النهاية اضطر ممتعضا أن يقدم استقالته من المجلس.
تحولت المبادرة والاعتراضات إلى شقاق حقيقي امتد عبر جسد الجماعة كله إلى صفوف الشباب أنفسهم، بينما النظام الأردني لا يتوانى عن إظهار دعمه لموقف الذنيبات ومبادرة (زمزم). في ظل هذا الوضع الشائك، تقدّم عدد من قيادات الجماعة التاريخية، كـ عبد اللطيف عربيات وسالم الفلاحات، بمبادرة للتوفيق بين الآراء ورأب الصدع بين الفريقين، إلا أن أيًا منهما لم يبد التزامًا حقيقيًا بتلك المبادرة.
كان مجلس شورى الجماعة لا يرى في عبد المجيد ذنيبات ومن معه إلا أنهم أداة يستخدمها النظام الحاكم ليشق صفوف الجماعة ويتخلص منها كأكبر قوة معارضة له، بينما رأى ذنيبات والغرايبة ومن معهم أن قيادة الجماعة تقودها إلى مسار صدامي غير مطلوب مع النظام وقد تكون عواقبه وخيمة.
مع مطلع هذا العام، أخذت الأزمة منعطفًا حادًّا لتصل بالجماعة إلى وضع ربما هو الأخطر في تاريخها. تقدم عبد المجيد ذنيبات وعدد من الشخصيات المتفقة معه بطلب لـ «تصويب الوضع القانوني للجماعة» تحت إشراف «هيئة قيادية مؤقتة تدير المرحلة الانتقالية» مكونة من الذنيبات ومن معه، وسارعت الحكومة الأردنية إلى إعلان قبولها الرسمي لهذا الطلب وسط تهليل من وسائل الإعلام الموالية للنظام.
عقد مجلس شورى الجماعة اجتماعًا أقال فيه الذنيبات والموقعين معه على ذلك الطلب، وأصدر بيانًا هاجم فيه ما قاموا به من «عبث بالمركز القانوني المحفوظ للجماعة» معلنًا استهجانه «قبول الحكومة للطلب المقدم بهذا الخصوص، ورفض أي تدخل في شؤون الجماعة الداخلية».
الجدير بالذكر أن قيادة الجماعة تستند إلى أنها تعمل في الأردن بالفعل وفق التراخيص القانونية التي حصلت عليها منذ عامي 1946 و 1953. حاولت قيادات الإخوان العالمية التدخل، فالتقت بقيادات مختلفة من الجانبين للوصول إلى حل يحافظ على الجماعة في مواجهة التهديد الكبير الذي أصبح يمس تماسكها ووضعها القانوني في الأردن.
في مقابلاته الصحفية الأخيرة تعليقًا على موافقة الحكومة على الطلب الذي قدمه، صرّح الذنيبات بأن الغرض من التصرف الذي قام به وبقية الموقعين على الطلب هو «إنقاذ جماعة الإخوان في الأردن من مصير الحل الذي لاقته جماعة الإخوان في مصر»، وإعلان أن الجماعة «أردنية» لا علاقة لها ببقية فروع الجماعة في العالم. اللطيف والمثير للاهتمام أن تلك التصريحات أتت من العضو الوحيد من إخوان الأردن في مكتب الإرشاد العالمي.
اتهمت قيادات الجماعة -بما فيهم شخصيات بارزة من تيار الحمائم كالفلاحات وعربيات وحمزة منصور- ذنيبات بأن ما فعله لا يعدو كونه «اختطافًا للجماعة» و«انقلابًا على قيادتها المنتخبة»، بينما صرح ذنيبات مؤخرا لوكالة CNN الإخبارية أنه بموافقة الدولة على طلبه فـ «لن يكون هناك صدام لأننا سنكون بثوب شرعي، ومن يستنكف عن الالتزام معنا في الجماعة فأمره للدولة، وسيصبح حينها أي نشاط يمارس خارج هذا الإطار غير قانوني، وسنعزل القيادة الحالية أولا».
الأيام الأخيرة كانت حافلة بالأحداث المتسارعة بالنسبة لإخوان الأردن. الليلة الماضية خرج مراقبها العام همام سعيد على شاشة قناة اليرموك معلنا مبادرة لتشكيل «مكتب تنفيذي توافقي» بين التيارين، اقترحت له أسماء كـ عبد اللطيف عربيات، سالم الفلاحات، وإسحاق الفرحان. أكد همام سعيد في كلامه أن موضوع «الوضع القانوني للجماعة» مستقر وسليم، والتلويح به ليس إلا ملف ضغط تضعه الحكومة على الطاولة متى ما توترت العلاقة بين الإخوان وبين النظام، ثم وجه كلامه للملك الأردني قائلا: «إن رسالة الإخوان لم تتغير طوال السبعين سنة الماضية، ليس هناك من مبرر إذا لأن تتغير سياسة النظام معها».