محتوى مترجم
المصدر
Foreign Affairs
التاريخ
2015/10/09
الكاتب
صمويل شاراب

نجم عن ذلك التطلع تراخٍ خطيرٌ على نحو محتمل تجاه الأزمة. حيث يمثل الصراع المتجمد؛ النتيجة متوسطة المدى الأقل احتمالا بالنسبة لأوكرانيا. والمرجح بشكل أكبر كثيرا هو أن روسيا ستستخدم القوة لتحقيق تسوية وفق شروطها، والتي ستشمل إعادة دمج «دونباس» الخاضعة لسيطرة المتمردين إلى أوكرانيا، كما ستمنح المناطق الأوكرانية ذات النزعات الروسية سيطرة غير متكافئة على السياسيات الوطنية.

وبدلا من الضغط من أجل تحقيق تصور النزاع المتجمد الذي لن يتحقق غالبا، على الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وأوكرانيا أن يفعلوا كل ما بوسعهم لخفض التكاليف الاقتصادية والإنسانية إلى أدنى حد في حال تحقق تلك النتيجة الأكثر ترجيحا.


الحل النهائي الروسي

انفصال «دونباس» سيقلل من تأثير موسكو علي كييف، وسيحتم علي روسيا دفع فاتورة إعادة الإعمار في الدولة الجديدة

من السهل تصور إلى أي مدى تروق فكرة الصراع المتجمد للحكومة الحالية في «كييف». حيث سيؤدي ذلك بشكل فعال إلى فصل «دونباس» الخاضعة لسيطرة المتمردين، عن بقية البلاد، ما يحوِّل الخطوط الأمامية الحالية للنزاع إلى خطوط حدودية بحكم الوضع القائم. ونتيجة لذلك الانفصال، ستفقد دونباس نفوذها في السياسات الوطنية الأوكرانية، وبالتالي ستخفِّض بشدة تأثير موسكو على كييف. وفي غضون ذلك، ستجبر روسيا على دفع فاتورة جهود إعادة الإعمار الضخمة الضرورية لمنع الانهيار الاجتماعي الاقتصادي في الدولة الجديدة الخاضعة لوصايتها.

ولكن ذلك التصور غير مرجح، لأن خيار الصراع المتجمد ليس مقبولا لدى موسكو. يتمثل هدف روسيا في تمكين المناطق ذات الميول الروسية في أوكرانيا عبر هيكل دستوري جديد من أجل تأسيس نفوذها في كييف، وبالتالي فإن فصل تلك المناطق عن بقية أوكرانيا سيكون بمثابة قبول بالهزيمة.

بالفعل اتخذت موسكو عددا من الخطوات لتجنب تلك النتيجة. على سبيل المثال، لم يؤدِّ هجوم روسيا الأخير في يناير/كانون الثاني بدونباس إلى السيطرة على المزيد من الأراضي، بل أدى إلى ما يطلق عليه «اتفاقية مينسك الثانية»، التي جعلت التحول السياسي الأوكراني الذي ترغب موسكو في تحقيقه محورا لعملية حل الصراع.

دعت الاتفاقية إلى إجراء انتخابات محلية في دونباس، وإلى عودة العلاقات الاقتصادية بين مناطق سيطرة المتمردين وبقية أوكرانيا، وإلى الإصلاح الدستوري بعد التفاوض مع المتمردين، ما قد يمنح أراضي المتمردين استقلالا واسع النطاق داخل أوكرانيا. وفق شروط الاتفاق، يرهن التنازل الروسي الأهم –إرجاع سيطرة موسكو على الحدود الأوكرانية الروسية إلى كييف– بتطبيق كييف لذلك التغيير الدستوري.

حتى الآن، لم تمضِ العملية السياسية التي دعت إليها اتفاقية مينسك الثانية حسبما خططت موسكو. فعلى سبيل المثال، لم تجرِ الانتخابات المحلية، بل مررت كييف مادة يوم 17 مارس/آذار جعلت إجراء تلك الانتخابات مستحيلا بشكل فعال. حيث رهنت المادة الجديدة تحقيق المزيد من الاستقلال المحلي وإجراء الانتخابات برحيل التنظيمات المسحلة غير القانونية (ليشمل ذلك على نحو مفترض الانفصاليين أنفسهم، إلى جانب القوات النظامية الروسية) من أوكرانيا.

علاوة على ذلك، لم تتفاوض كييف مع الانفصاليين بشأن الانتخابات المحلية، حسبما نصت اتفاقية مينسك الثانية، وحددت منطقة الاستقلال الذاتي المعزز بطول الحدود، ما يتجاهل المكاسب التي أحرزها الانفصاليون هذا الشتاء، خصوصا حول «ديبالتسيفو». رغم أن الرئيس الأوكراني «بيترو بوروشينكو» قد دعى لإجراء انتخابات على مستوى البلاد يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أنه أعلن عدم إجرائها في المناطق الانفصالية. وفي تلك الأثناء، أعلن الانفصاليون عن خطط لإجراء انتخابات خاصة بهم قبل أسبوع.

فرضت أوكرانيا حصارا اقتصاديا علي مناطق المتمردين، فرفضت تقديم المعاشات والخدمات الاجتماعية لمن يعيشون هناك

كذلك لم تتحقق التنازلات الاقتصادية التي توصلت إليها كييف في الاتفاقية. حيث أقامت أوكرانيا حصارا اقتصاديا على المناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين، ورفضت تقديم المعاشات والخدمات الاجتماعية الأخرى لمن يعيشون هناك، وفي يوم 11 يونيو/حزيران، أعلن بوروشينكو عن أن العلاقات الاقتصادية مع مناطق الانفصاليين لن تعود قبل استعادة أوكرانيا للسيطرة الكاملة على حدودها الخارجية. وفي يوم 18 يونيو/حزيران، أحكمت كييف حصارها على دونباس الخاضعة للمتمردين، لدرجة منع دخول أي إمدادات سوى الإنسانية منها.

وعلى نحو مماثل، فشل الإصلاح الدستوري في المضي قدما حسبما تطلعت موسكو. حيث تضمنت الإصلاحات التي أعلن عنها بوروشينكو في الأول من يوليو/تموز، نصوص تهدف إلى تعزيز اللامركزية في أنحاء البلاد، وشملت انتقال بعض السلطات –مثل الإشراف على الميزانية وتخطيط التنمية الاقتصادية– إلى المسؤولين المحليين.

وتمثلت الإشارة الوحيدة، في الإصلاحات المقترحة، إلى دونباس الانفصالية في أن تعزيز الحكم الذاتي سيحدد وفق قانون منفصل، والذي تم تمريره بالفعل في سبتمبر/أيلول 2014. علاوة على ذلك، لم تتفاوض السلطات الأوكرانية مع الانفصاليين بشأن تلك الاصلاحات. مر مشروع القانون عبر تصويت مبدئي يوم 31 أغسطس/آب، وسط ردود أفعال حملت طابعا قوميا، وسيجرى التصويت النهائي لاحقا من العام الحالي.

دعمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي موقف الحكومة الأوكرانية المنطوي على رفضها للتفاوض مع الانفصاليين حتى إجراء انتخابات شرعية ومراقبة وقف إطلاق النار بشكل كامل. وأشادت واشنطون وبروكسل بالإصلاحات الدستورية المقترحة من جانب أوكرانيا كعلامة على التزام كييف بالمعاهدة. إلا أن رأي الغرب لا يهم كثيرا. بل يعتبر تقييم روسيا للسياسات الأوكرانية هو العامل الأهم في تقرير مستقبل الأزمة.

ووفق جميع الروايات، كان التقييم سلبيا، فقد أدانت وزارة الشؤون الخارجية الروسية الإصلاحات الدستورية المقترحة، وطالب بوتين كييف بإجراء محادثات مباشرة مع الانفصاليين حتى في غياب انتخابات معترف بها ووقف كامل لإطلاق النار.


الإصلاح بالقوة

في ضوء سخط موسكو البادي تجاه نتائج تقدم تنفيذ الاتفاقية، يرجح أن تتخذ إجراءات لتغيير الوضع القائم. يتمحور التساؤل الوحيد حول طبيعة تلك الإجراءات. هناك احتمالان واضحان، يتضمن كلاهما استخدام القوة، وتكبيد الشعب الأوكراني تكاليف إنسانية واقتصادية كبيرة.

يشتمل التصور الأول على تمديد أو تكثيف معتدل للعنف: أي حالة لا حرب ولا سلام، بل صراع محسوب ومتأجج دون تصعيد كبير. وفق ذلك التصور، سيمتص ذلك الوضع الكثير من رأس المال السياسي للحكومة الأوكرانية، ما يترك كييف غير قادرة على المضي قدما بصدد إصلاحات سياسية واقتصادية حاسمة. ستستخدم موسكو إجراءات اقتصادية مثل فرض عقوبات، وقطع إمدادات الغاز، لضمان أن الاقتصاد الأوكراني سيظل في وضع مضطرب، وسيغامر القليل من المستثمرين بالعودة إلى أوكرانيا.

ووفق هذا التصور، ستقيد روسيا أنشطتها العسكرية حتى لا تثير ردة فعل غربية أكثر قوة، إما في صورة فرض عقوبات إضافية أو تقديم مساعدات عسكرية لكييف، ومن المرجح أن تعتمد على انهيار عقوبات الاتحاد الأوروبي مع الوقت. باختصار، سيمثل ذلك الوضع حرب استنزاف، والتي ستنتصر فيها موسكو في النهاية.

يفترض ذلك التصور ثقة موسكو في أن الوقت في صالحها، وأن روسيا لديها الصبر الإستراتيجي المطلوب لانتظار الانتصار في نهاية المطاف. ولكن لا يجب أن يعتمد المراقبون على سيطرة الهادئين في موسكو – فقد تميز سجل الكرملين منذ بدء الأزمة بالسلوك المتهور، مثلما حدث في اجتياحه للقرم بعد أيام قليلة من الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش. لذلك يجب اعتبار التصعيد الكبير للأنشطة العسكرية تصورا ثانويا محتملا.

أثبت التصعيد كونه تكتيكا ناجحا لروسيا مرتين منذ بدء الأزمة، في أواخر أغسطس/آب 2014، ومجددا في أواخر يناير/كانون الثاني 2015، عندما عززت موسكو بشدة دعمها للانفصاليين في دونباس، وأجبر بوروشينكو في المرتين على التماس تحقيق السلام، ما نتج عنه؛ أولا معاهدة مينسك الأولى، ثم معاهدة مينسك الثانية.

من المؤكد أيضا أن التصعيد له مخاطره، فعلى سبيل المثال، قد يعزز الغرب نظام عقوباته أو قد يقدم مساعدات عسكرية مميتة لأوكرانيا. إلا أن موسكو أولت القليل من الاهتمام لتلك المخاطر منذ بدء الأزمة، ومن المؤكد على نحو أكثر ترجيحا أن تستمر على نسق مشابه في المستقبل.

تعتبر النتائج بعيدة المدى لهذين التصورين متشابهة للغاية. ففي حال تطبيق أيا منهما، ستجبر أوكرانيا على إعادة إدماج دونباس وفق الشروط الروسية. بعبارة أخرى، ستضطر كييف إلى تقديم تنازلات، مثل منح الحكم الذاتي للمناطق الانفصالية وإنهاء الحصار على الجبهة، وستنسحب روسيا فقط بعد أن تصبح واثقة من متانة التسوية.

يكمن الاختلاف الرئيسي بين التصورين في الوقت، ففي التصور الأول، قد يستغرق الحل النهائي شهورا أو حتى سنوات حتى يتحقق، بينما في الثاني، سيتحقق بمجرد أن يعطي بوتين الأوامر. وفي الحالتين، ستعاني أوكرانيا، حيث ستواجه المزيد من الدمار والموت في الشرق، وسيتابع الاقتصاد الأوكراني تدهوره، وسيستمر ظهور تعهدات كييف بإجراء إصلاحات وبتطبيق الحكم الرشيد ككلمات فارغة على نحو متزايد.


إيجاد أرضية مشتركة

تميز سلوك الكرملين، منذ بدء الأزمة الأوكرانية، بالتهور ومن ذلك اجتياحه للقرم بعد أيام من الإطاحة بالرئيس الأوكراني

لأن الحل النهائي بالنسبة لموسكو في كلا الحالتين هو تطبيق معاهدة مينسك الثانية وفق الشروط الروسية، ولأنها تبدو مستعدة وقادرة على تحقيق تلك النتيجة بالقوة؛ ستكون حذرة من التفكير في التفاوض حول تلك النتيجة حاليا، حتى تتجنب المزيد من المعاناة والدمار. عمليا، سيستلزم ذلك رفع كييف لحصارها على الأراضي الخاضعة للمتمردين، والموافقة على الشروط المتعلقة بالانتخابات المحلية، وتطبيق حكم ذاتي معزز للمناطق الخاضعة للمتمردين. وسيتوجب على الممثلين الحكوميين أن يجروا محادثات مباشرة مع الانفصاليين.

تمثل تلك الإجراءات دواءً يصعب بلعه من وجهة نظر أي حكومة. كما مثلت أعمال الشغب بكييف في أواخر أغسطس/آب، التي جاءت كرد فعل على الجولة الأولى من التصويت على الإصلاحات الدستورية التي اقترحها بوروشينكو في البرلمان، تذكيرا بأن تلك السياسات قد تعيق الحكومة وربما قد تؤدي إلى انقلاب عسكري وطني. إلا أنه ليس من الضروري أن يكون ذلك هو الحال. حيث يستطيع بوروشينكو والمسؤولون الغربيون أن يقللوا احتمالية حدوث رد فعل محلي عبر تبني خطاب عام مختلف بشأن النزاع.

منذ الإطاحة بيانوكوفيتش أكد المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون علي ضرورة العودة الكاملة لوحدة الأراضي الأوكرانية وإدانة العدوان الروسي

منذ الإطاحة بيانوكوفيتش، أكد المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون على الأهداف الشرعية، رغم كونها قاسية، من أجل المستقبل الأوكراني عبر، على سبيل المثال، الدعوة إلى العودة الكاملة لوحدة الأراضي الأوكرانية، وإدانة العدوان الروسي بقوة. يميل بوروشينكو والمسؤولين الكبار بالحكومة الأوكرانية إلى أن يكونوا أكثر تطرفا، حيث يشيرون إلى الانفصاليين بوصفهم إرهابيين، بل ويقارنون الأراضي الانفصالية بـ”موردور”، أرض الشر في الروايات الخيالية للكاتب ج.ر.ر.تولكين.

لا عجب إذن في أن العديد من الأوكرانيين النشطين سياسيا يعتقدون أنهم ليسوا في حاجة إلى حل وسط، فلم تطرح أي شخصية عامة بعد ذلك الخيار. بينما لا يزال أغلب الأوكرانيون يفضلون التسوية المتفاوض عليها بشكل ما، وكلا الغرب وأوكرانيا يمكنها أن يكونا واثقين في أن تبني ذلك النوع من التسوية، رغم كونها تنازلا على المدى القصير، سيساعد في الحفاظ على امتيازاتهم بعيدة المدى.

بالفعل، تتمثل قوة روسيا النسبية بشكل حصري في أرض المعركة، لذلك فبمجرد انتهاء القتال وانتقال المنافسة إلى المجالات السياسية والمالية، ستصبح مزايا القوة الناعمة لأوكرانيا وأوروبا أوضح. قد لا يؤدي تغير الخطاب إلى إزالة العقبات في سبيل تحقيق تلك التسوية، ولكن دونه، ستكون تلك التسوية مستحيلة.

وحتى مع ذلك، العامل الذي سيحدد المستقبل المباشر للصراع في شرق أوكرانيا هو سلوك روسيا، بشكل أكبر كثيرا مما ستفعل المساعدات العسكرية الغربية أو الإصلاحات الأوكرانية. وسيتحدد ذلك السلوك بدوره بمدى اعتقاد موسكو بأن الوضع على الأرض يتحرك نحو النتيجة التي ترغب فيها. ومع وضع ذلك في الاعتبار، يجب أن تركز الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين على إيجاد أرضية مشتركة بين كييف وموسكو. وفي حل فشلوا في تحقيق ذلك، قد تصبح العواقب بالنسبة لأوكرانيا مدمرة.