عن التربية فى الحركة الإسلامية (1-2)
إن حمل النفس على الحقّ لتعويدها إياه، حتى يتجسّد فيها بعضه لمن لم يعرفه؛ هي أشقّ مهمّة قد يضطلع بها مخلوق: الدعوة إلى الله بالنفس، ومنها أشفقت السماوات والأرض والجبال. فإما هُدي بك خلقٌ من الناس، أو فُتنوا والعياذ بالله.
والفارق بين إكراه غيرك على أمرٍ وتربيته عليه فارقٌ في النيّةِ أصلًا. فالإكراه السلوكي نموذجٌ تدريبي براني شركيّ، قصير المدى سطحي المفعول؛ لا يلزمه إيمانُ المتدرِّبِ بشيء. بعكس التربية الإيمانيّة الجوانيّة، طويلة المدى عميقة المفعول؛ التي تتشرَّب بها النفس قيمًا تنعكس تلقائيًا على الجوارح وتسري بهدوءٍ، وبغير تكلُّفٍ؛ في الاجتماع الإنساني. ولا يصدُر الإكراه إلا عن نيّةٍ مدخولةٍ وفهمٍ سقيمٍ؛ فالنفسُ فيه لا تتحمَّل تبِعَة أفعالها، بقدر ما تنشغل غالبًا بإرهاب المتدرِّب/المواطن/القاصر الخاضع لولايتها. ولو انشغل المربِّي مُخلصًا بنفسه، بنيّة تربية غيره؛ لسدّده اللطيف الخبير.
ويجب أن ترتبط التربية ارتباطًا وثيقًا بالواقع، ليس بمعنى أن يصير هذا الواقع مرجعيّتها ومصدر الحُكم عليها؛ بل بأن يكون قوامها تأسيس القيم من خلال خبراتٍ حياتيّةٍ حقيقيّةٍ، وليس من خلال ديباجات نظريّة مثاليّة أو مقولاتٍ ذهنيّة افتراضيّة أو مناهج بشريّة استباقيّة. ذلك أن الخبرة الحياتية هي وحدها التي تُكسِب المعرفة الإنسانيّة عُمقها وحيويّتها وفعاليّتها، وتاريخيّتها أيضًا. ليُدرك الإنسان من خلال التجربة، تحدوها قيمه الحاكمة؛ حدوده التاريخية/الاجتماعيّة والإنسانيّة، ومن ثم استحالة التجسُّد النهائي للمطلقات التي يؤمن بها في التاريخ، وإن كان دوام مكابدة النفس للاستقامة بهذه المطلقات وعليها هو جوهر التجربة الإيمانية، وهو عينه صيرورة التحقُّق التاريخي للنفس الإنسانية بالرياضة/التربية/التزكية. إن موافقة التربية للخبرات الحياتية الحقيقية تعني ألا يُعزَل المُربَّى في مُجتمعٍ مُعقَّمٍ موازٍ أو فضاءٍ مثالي افتراضي بدعوى تربيته، ثم يُلقى بعدها في أتون المجتمع الحقيقي بعد أن يشب عن الطوق؛ ليكون وقع الصدمة عليه كارثيًا مُزلزلًا. بل أن يُلقى في غمار المجتمع بعد غرس القيم الرئيسة في نفسه، مع مراقبته وملاحظة سلوكه وتقويمه عند اللزوم؛ لتعويده النقد والانتقاء والتمييز العملي بين الخير والشر، بل وبين خير الخيرين وشر الشرّين. وإذا كان لا بُد من بعض العُزلة أثناء التربية، لعمق ترسيخ القيمة المغروسة؛ فإنما يكون ذلك للطفل دون البالغ، وحتى السن التي يكتمل فيها نموّه القيمي الأساسي، دون نموّه العقلي والنفسي والروحي. إذ أن عزل البالغ في غيتو أو جماعة أو حزب فترة نموّه العقلي والنفسي، بدعوى تربيته؛ يجعل منه شخصيّة مهزوزة ومؤدلجة يسهُل تفكيك مقولاتها ودحض مُسلّماتها وتقويض دفاعاتها، فهي في التحليل الأخير مُجرَّد أوهام لفظيّة وجدليّاتٌ نظريّة لم تُختبر فعاليّتها الحقيقيّة في الوجود المتلاطم بالتنوّع الذي قدَّره الله على خلقه.
وربّما بسبب هذه العزلة الاجتماعية النسبيّة، جنبًا إلى جنب مع الانخراط السياسي العجول؛ تزايدت مُعدَّلات التفكير البراغماتي والتفكيك والسيولة، والإلحاد؛ بين شباب الإسلاميين بعد يناير 2011، كما كانت بين الشباب اليهودي الذي خرج من الغيتو الأوروبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد حفلت كل الحركات الراديكالية والمتطرِّفة في الغرب بمنظِّرين وحركيين يهود، إذ تقوَّض عالمهم القديم تمامًا، مما جعلهم أكثر حركيّة وبراغماتية وقبولًا للعالم الجديد؛ أيًا كان. وهو ما يُفسِّر، بدرجة كبيرة؛ بعض أسباب تحوّل أكثر شباب الإسلاميين المؤدلجين، وأصحاب الإيمان الميتافيزيقي بالديمقراطية والمسار السياسي السلمي داخل بنية الدولة، خصوصًا بعد الانقلاب العسكري في مصر؛ تحوّلهم إلى ألتراس راديكالي إما في رفضه التام لخلفيّته التنظيمية/الحزبيّة التي قد يتلوها مروقه من الدين، أو في تبنّيه لأشد المقولات الحركيّة تطرُّفًا، والذي قد يتلوه انضمامه فعليًا لأحد الجيوب أو التنظيمات المسلّحة. أما الغالبية فتنحدر للامبالاة؛ فهي أكثر جُبنًا من أن تُعلن موقفًا من هذا النوع، خوف النبذ خارج الشبكة الاجتماعية التي ارتبطت بها حيواتهم ومصالحهم؛ وإن انفصلوا عنها شعوريًا وأيديولوجيًا. إن هؤلاء قد تلقوا تربية نفسيّة معوجَّة تطوي تناقُضًا واضحًا، وترتبط بمفهوم حزبي فاسد للحركة الإسلامية، باعتبارها جماعة أو حزبًا بعينه؛ جنبًا إلى جنب مع حشوهم بالعلوم التقنية والمعارف الإجرائية، وإعدادهم للحركة داخل هرم السلطة وتحت رعايتها، ولو على هامش نظامها. وقد أثمرت هيمنة تلك اللاتربية، أو “التدريب السياسي” البرّاني المرافِق للعُزلة الاجتماعيّة، بدءًا من الصراع على اتحادات الطلبة في الجامعة وانتهاءًا بالصراع على مقاعد البرلمان؛ أثمرت هيمنتها على تصوّرات الإسلاميين انفصالًا تدريجيًا عن احتياجات المجتمع الحقيقية، من جهة؛ ودمجًا لهم في النظام السياسي وتبنٍ كاملٍ لتصوّرات الملأ واستبطانًا غير واعٍ لخيالهم السياسي وتشرُّبًا لأوهامهم الاجتماعية، من جهةٍ أخرى؛ بحيث ثقُلت الحركة الاجتماعيّة-الدعوية في روع الإسلاميين وانعدمت من ثم جدواها، وذلك بما أنهم قد “مُلِّكوا” قدرة التسلُّط على المجتمع من أعلى، بوسائل الدولة؛ أو حتى توهموا إمكان حيازتهم لتلك القدرة، أو بعضها. وبدلًا من اعتزال المجال السياسي ما بعد الكولونيالي بفساده المتأصِّل، والانشغال بتأسيس اجتماعٍ إنساني جديد من أسفل، اجتماع يُعيد تشكيل المجال السياسي على المدى الطويل؛ فقد اعتزلوا المجتمع الذي يحتاجهم ويحتاجونه، واغتربوا عنه؛ ودُمجوا في اللعبة السياسية العبثيّة حتى صاروا جزءًا لا يتجزّا من ملأ السُلطة، وإن كُتب عليهم دائمًا لعب دور الشرير، أو الإبن الضال.
وثمّة فارق جوهري ضخم بين التربية وبين التعليم. صحيح أن الدولة الحديثة حين صادرت وظيفة التعليم دمجتهما معًا في وزارة واحدة، وأوهمت عبيدها بأنها تُربّي الطفل قبل تلقينه سرديتها الوثنيّة، لكن التعليم النظامي الحديث يُمارِس في حقيقة أمره دورًا “ضد تربوي”، يُفاقِمُهُ التدريب السياسي المبكِّر داخل الأحزاب والجماعات “الإسلامية” و”العلمانية”، على حد سواء! إذ يقتصر هدف التعليم الحديث، إن استقام؛ على تلقين الفرد وتدريبه على عِدَّة مهارات برّانيّة تُحسِّن أداؤه في المجال العام، كترسٍ بشريّ كفء في آلة الدولة/السوق؛ اتساقًا مع العقد الاجتماعي السائد. ومن هذا المنظور يصير التعليم الحديث مُجرَّد أداة براغماتية للتكيُّف مع الواقع، مهمًا كانت درجة فساده؛ وليس لتغييره. وأفضل ثمرة لأسمى مؤسسات هذا التعليم في بعض الدول “المتقدِّمة”، وأقلها فسادًا؛ هي تخريج تنفيذيين وتكنوقراط أكفاء يستطيعون إدارة العجلة العطنة، ولا يُمكنهم تجاوزها بحال. فإذا انتقلنا للمنظومات التعليمية المهترئة، مثل التي نصطليها في مصر؛ فإن الآية قد انقلبت تمامًا، وصار واقع الحال تجهيلًا مُقننًا وشاملًا. فالدولة تُلقِّن الطفل تفاهات وقشور لا علاقة لها حتى بالمهارات الواقعيّة والتقنية التي تتطلَّبها إدارة دولابها، ناهيك عن تلك التي يستلزمها دولاب الرأسمالية المتغوِّلة. ومن ثم ف”المواطن” يُلقي بذلك الغثاء في أول صندوق قمامة يلقاه ساعة خروجه من بوابة المدرسة أو الجامعة، وهو يفعل ذلك أيضًا لأنه يُريد التكيُّف مع المجتمع؛ فقد غرست فيه آلة الدولة الإعلامية تلك الرغبة وغذاها المجتمع الخاضع، وإن عجز نظام التعليم الفاسد عن تحقيقها، وسعى كل فردٍ لتحقيقها حسبما يعن له. وفي الحالين؛ فإن التعليم النظامي يلعب دورًا “ضد تربوي”، إما بتحويل الإنسان إلى آلةٍ رشيدةٍ قادرةٍ على الاستجابة بكفاءة للملأ القائمين بترشيد الواقع، أو يُحوِّله لحيوانٍ أعجمٍ من حملة الشهادات؛ كالحمار يحمل أسفارا. وفي الحالين يتيسر التحكُّم فيه، والتلاعُب به.
ونحن نرفض فكرة التدريب كُليًا بسبب ارتباط شقي الإنسان الماديّ والروحي في التصوّر الإسلامي، ومن ثم لزوم مراعاتهما معًا ومخاطبتهما معًا؛ وإن استقرّت عندنا أولوية الروحي/الجواني على المادي/البراني، بما أن الأول هو جوهر الوجود الإنساني وحاديه. ونرى أن التدريب التقني/الإجرائي/البرّاني/المعلوماتي، “المجرَّد” نظريًا من كل قيمة؛ يُعيد بعد فترةِ من الوقت تشكيل وعي المتدرِّب الذي استبطن الآليّات تمامًا، فنفذت مضامينها الفلسفية والمعرفية إلى نفسه بغير عقبات واعية حقيقية. ويتجلى ذلك الوعي، على سبيل المثال؛ في أفلام شارلي شابلن، وفي أعمال الشعراء الرومانتيكيين من قبله؛ الذين أدركوا عمق أثر الآلة/التقنية السلبي على الإنسان، وقدرتها على إعادة تشكيل إدراكه وصورته الذهنية عن نفسه ومجتمعه. وإذا كان التدريب البرّاني على أفعالٍ ماديةٍ/تقنيةٍ لا يَضُرُّ على المدى المنظور، فإن أثره الروحي كارثي على المدى البعيد، وهو الأثر الذي يتفاقَم بأسلمة تلك المناهج التدريبية، أو تدثُّرها بديباجاتٍ روحيّة. وعلى العكس من ذلك التدريب على أعمالٍ مادية تحمل مضامين روحية ابتداءًا، مثل الصلاة والصيام؛ فإنها قد تُعيد تشكيل الوعي والوجدان بطريقة تربوية (كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حثه على الصلاة لعلها تنهى صاحبها يومًا عن الفحشاء والمنكر)، وإن اعترتها فترات انقطاعٍ إلحاديّةٍ في أحيان كثيرة. لذا؛ يظل الأصل في هذه الأعمال العبادية-المادية هو التربية الروحية التي تربط قيمتها العباديّة بأثرها الإنساني والاجتماعي، الذي يعرج بالإنسان إلى ربّه؛ باعتبار ذلك الدور/الأثر عبادة من صميم العبادة وذكر لله من صميم الذكر. إن ارتباط هذه العبادات بالتكليف الإلهي، ومن ثم بمهمة الإنسان على الأرض؛ يجب أن يكون ارتباطًا أعمق من التدريب الذي لا تؤمَن ثمرتُهُ. ارتباطٌ تربويٌ يضرب بجذوره في أعماق النفس، ويرسم ملامح وعيها بطبيعة مهمة الاستخلاف، ويعمل عمل البوصلة في توجيه كل الحركة الإنسانية على الأرض.
وقد رسَّخ القرآن نهج ارتباط التربية بالواقع من خلال نزول الوحي الإلهي الخاتم مُفرَّقًا وعلى مُكث. إذ لم ينزل القرآن جُملة واحدة كمانيفستو للدراسة التثقيفية والاستيعاب النظري مُجرَّدَين، في مرحلةٍ أولى تسبق التطبيق العملي؛ بل نزل مُفرَّقًا وموافقًا لحاجة المسلمين يومئذ، ولحاجة كل إنسانٍ يُكابِدُ ذات المكابدة، في أي زمان ومكان؛ مُسلمًا وجهه لله، ومُجاهدًا لغرس ذات القيم داخل التاريخ. فاﻷصل في إثمار التربية الإيمانية نفسيًا واجتماعيًا هو موافقة وجهة الحركة الإنسانية الحرّة لوجهة التكليف الإلهي. وبمعنى من المعاني؛ فإن نزول الوحي مُفرَّقًا مع وجود الموحى إليه، صلوات الله وسلامه عليه؛ قد بلور النموذج التربوي التاريخي الأمثل من خلال القيم القرآنية الحاكمة، لكنه لم يبلور “نظريّة” تربويّة ساكنة. وكذا كل إعادة لإنتاج النموذج لن تُثمر أبدًا، في غياب النبي المعصوم؛ نموذجًا تاريخيًا مثاليًا ولا “نظريّة تربويّة” مُطلقة أو ممارسة مثالية مطابقة للنظرية أو منهجٍ لا تاريخي يصلُح لكل أحد، وإنما ستُثمِرُ مُقاربة تربويّة إنسانيّة ونموذجًا تاريخيًا قاصرًا، يقترب من حقيقة النبوّة أو يبتعد عنها بحسب مِقدار مكابدة أصحابه لأنفسهم وواقعهم، ومدى التزامهم ليس بالقيم القرآنيّة فحسب، ولكن بآليات تنزيلها على الواقع: مُفرَّقة، وعلى مُكثْ. إذ أن الحقيقة/القيمة لا تنفصل أبدًا عن نهج تنزيلها وتربية النفس عليها، فإنما تنشأ الدعوة إلى الله بالحركة الاجتماعية-الدعوية بها، وتتم تنشئة الحركة الدعوية-الاجتماعية بالدعوة إلى الله. وقد روي عن سيدنا عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه؛ أن صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ لم يكونوا يستزيدون من القرآن، بل يحفظ الواحد منهم عشر آياتٍ ويعمل بها، ثم ينتقل لغيرها، بل روي أنهم كانوا يحفظون اﻵية الواحدة ويُحسنون العمل بها، أولًا؛ قبل الانتقال لغيرها. وهكذا ينبغي أن توافق التربية معالم الطبيعة الإنسانية والحاجات العمليّة لحركتها، ولا تسبقهما بمناهج افتراضيّة مُعتسفة؛ لينموا معًا: الحركة والدعوة أو المجتمع والنفس. إنه إذا كان نزول الوحي الخاتم بهذه الطريقة قد أعاد تشكيل التاريخ ومنطلقاته وقوانينه، إلا أن كل تطبيقٍ تالٍ لقيم الوحي وتمثُّلٍ لها هو مُجَّرد محاولة بشريّة لتقويمٌ مسار التاريخ ووجهته(من داخله) بتقويم النفس الإنسانية المؤمنة الفاعلة، وليس بإعادة بناء الصيرورة التاريخية وقوانينها (من خارجها). وكل مُحاولةٍ نسبيّة لا يُستدل بها على إطلاقها، وإنما يُستدلُّ على صحّتها النسبيّة بمدى موافقتها لبعض ملامح الهدي النبوي المعصوم في الدعوة والحركة.