عبد العزيز مكيوي، بطل القاهرة 30 المنسي حيًّا وميتًا
للقدر لعبة وللموت خطة، وسخرية القدر هي أكثر أنواع السخرية إثارة للمرارة في الحلق، وحياة الفنان المصري عبد العزيز مكيوي الحافلة، وفنه الجريء، ثم انكساراته المُحبطة وعجزه الذي هو عجزنا، وصمته الذي لا يدين شخصًا سوانا، ونظرة عينه التي ستطاردنا في أحلامنا ما حيينا، ستبقى كل هذه الأمور قصة نحكيها لأولادنا بسطور سوداء شاهدة على انتصار «القاهرة 30» على كل القاطنين فيها، وعلى سكان القاهرة 2016 مراعاة فروق التوقيت!
إذا كنت من سكان الإسكندرية، أو تزورها باستمرار، لربما مررت على حي المنشية الذي تحتضنه المدينة العريقة في قلبها، بجوار أحد المقاهي الشعبية هناك ربما يكون وجهه المألوف قد استوقفك قبل أن تمد يدك اليمنى لتعطيه (حسنةً) لا تراها يدك اليسرى، لكن ما لم تعلمه أن هذا الذي ينتظر إحسانك اليوم، كان يومًا ما واحدًا من أفضل وأهم فناني جيله، ولو قدر له الاستمرار في العمل الفني لربما تغير به الحال وتبدلت ظروفه. لكن مشيئة الله فوق كل مشيئة.
هذا الذي ولد في 29 يناير 1934 وحصل على بكالوريوس الفنون المسرحية عام 1954 شارك في واحدٍ من أهم الأفلام الدرامية المصرية، وهو فيلم القاهرة 30 للكاتب الراحل المتميز نجيب محفوظ، والذي مدّ سكين قلمه ليغرسها في قلب مجتمع القاهرة البراجماتي الرأسمالي، والقائم على الرشوة والفساد والمحسوبية، والذي يغرق بهواته وباشاواته في ملذاتهم حتى النخاع، مكتفين بترك الفتات للفقراء والمهمّشين من شباب المجتمع. هل يذكرك هذا الواقع بشيء؟
يحكي القاهرة 30 عن مجموعة من الشباب الجامعي الذين يعانون شظف العيش والأوضاع المقلوبة في مصر المحروسة سنة 1930، هؤلاء المطحونين نتيجة اختلال الفوارق بين الطبقات، وسيطرة الطبقة البرجوازية من البهوات والبشوات المسيطرين على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، هؤلاء الذين يأكلون قوت الشعب ولا عزاء للشباب الضائع بين البطالة وبين محاولة التسلق للوصول للطبقة العليا، حتى لو كان هذا الوصول على حساب المبادىء و الشرف.
مع استمرار أحداث الفيلم في التدفق، نبدأ في اكتشاف الأبعاد الإنسانية لأبطال الفيلم، وكيف تؤثر شخصية كل منهم في قراراته المصيرية، عبد العزيز مكيوي أو (علي طه) أكثر ميلاً للحل الثوري القائم على ضرورة هدم المجتمع بطبقاته المنحلة وإعادة بنائه من جديد على أسسٍ سليمة تميل للاشتراكية وتطبيق قيم عدالة التوزيع والمساواة بين الطبقات.
كان محجوب عبد الدايم أو حمدي أحمد أكثر ميلاً للحلول الواقعية، اندمج في المجتمع وصار أكثر وصولاً للطبقة الأغنى، استغل كل فرصة واهتم بكل علاقة تربطه بالطبقة التي كان يحلم بالوصول لها كل يوم، و أوقعته الظروف ليتزوج حبيبة صديقه الثوري (علي) التي انسحقت هي الأخرى تحت عجلات المجتمع القذر؛ إنها (سعاد حسني) صاحبة البطولة النسائية في الفيلم، والتي تدخل في علاقة آثمة مع أحد الباشاوات (أحمد مظهر) بعد أن تملّ من انتظار حبيبها (علي) الساعي لتحقيق اليوتوبيا التي تقوده للسجن والمطاردة من عناصر البوليس السياسي.
على الصعيد الفني، امتاز فيلم القاهرة 30 بتكوينات الكادرات المتميزة والمبهرة، بالإضافة للخدع السينمائية الخلاقة التي كونت لنا مشهدًا لا يخلو من ذاكرة أي متابع للسينما المصرية، وهي صورة (محجوب عبد الدايم) وقد نما له قرنان كبيران في تعبير مصري عامي عن الدياثة. هذا المشهد الذي دخل التاريخ السينمائي المصري كمشهد يصلح لكل زمان ومكان، فكم من شخص يمكن أن نستبدل صورته بصورة الفنان حمدي أحمد؟!.
قصة الكاتب الكبير نجيب محفوظ المتميزة كانت بمثابة القماشة التي استطاع كاتب السيناريو والمخرج صلاح أبو سيف أن يحولها لما شاهدناه على الشاشة من حبكة درامية مغرقة في التراجيديا والواقعية التي لا يخرج الحق منتصرًا فيها دائمًا وأبدًا، بل إن الفيلم يكتفي برصد الواقع مع فتح شباك الأمل مواربًا على استحياء في المشاهد الأخيرة من الأحداث.
الأداء التمثيلي لسعاد حسني كان باهتًا مقارنةً بأداء عبد العزيز مكيوي وحمدي أحمد، بينما يظهر عبد المنعم إبراهيم في صورة صديق الأبطال خفيف الظل، وهو دورٌ اعتاد (إبراهيم) أن يلعبه في معظم أفلامه، إلا أن دوره في القاهرة 30 تخطى حاجز الكوميديا خاصة مع بداية الربع الأخير من أحداث الفيلم، أما أحمد مظهر فلم يتعدى دوره بضع مشاهد محدودة ويمكن اعتباره ضيف شرف على الأحداث.
أحداث الفيلم التي ستفرق بين الصديقين (محجوب عبد الدايم) و (علي طه) ستجمعهم على أرض الواقع بمفارقة خيالية، عندما يموت الفنان (حمدي أحمد) قبل أيامٍ قليلة من وفاة (عبد العزيز مكيوي) لتخرج عناوين الصحف تؤرخ للمفارقة العجيبة، وكأن القدر يرسم التفاصيل النهائية للأحداث لنعرف جميعًا أن مجتمع القاهرة 30 لازال كما هو في 2016، وكأن (محجوب عبد الدايم) و (علي طه) وجهان لعملة واحدة مهما اختلفت سبل العيش. رحم الله عبد العزيز مكيوي، عاش شريفًا ومات شريدًا وحيدًا.