ستراتفور: الاستفتاء اليوناني والتقديرات الأوروبية الخاطئة
أولا، الائتلاف اليساري الراديكالي الحاكم، أو حزب سيريزا، وصل إلى الحكم لأنه يدرك الوضع اليوناني.
ثانيا، الاحتقار والازدراء المستمر نتيجة إثقال القيادة الأوروبية لرئيس الوزراء ووزير المالية لم يقنعا اليونانيون فقط بأن الاحتقار موجه لهم، بل أقنعهم أيضا بأن أي شخص تحتقره القيادة الأوروبية ليس سيئا.
أخير، والأهم، لم يكن لدى المصوتين اليونانيين ما يخسرونه بسبب الموقف الذي وضعتهم فيه القيادة الأوروبية. ترك اليونانيون للاختيار بين نوعين من الخراب – الأول فوري ولكن يمكن التعافي منه، والثاني يحمل اختناقا طويل الأمد دون نهاية.
سوء التقدير الأوروبي
حسبما أشار صندوق النقد الدولي (مع حفاظه على نهج شديد الصرامة تجاه اليونان)، لا يستطيع اليونانيون تسديد ديونهم أو الهروب من كابوسهم الاقتصادي دون إعادة هيكلة جوهرية للديون، ويشمل ذلك إسقاط قدر كبير من الديون والاستعداد للتوصل إلى حل يستمر تطبيقه لعقود. أوضح صندوق النقد الدولي أيضا أن التقشف المتزايد، بعيدا عن فرض عبء مستحيل على الشعب اليوناني، سوف يأخر التعافي اليوناني أو تسديد الديون.
أدرك اليونانيون ذلك أيضا. فكان من الواضح أن التقشف دون إعادة هيكلة جذرية سيؤدي بالضرورة إلى العجز عن السداد، إن لم يكن الآن، فعاجلا أم آجلا. كان التركيز على المعاشات خطوة حمقاء للغاية، وجعل الأوروبيون يبدون قاسيين. فجميع اجراءات التقشف المطلوبة ما كانت لتقدم أموالا كافية لتسديد الديون دون إعادة هيكلتها. وفي الوقت المناسب، ستتخلف اليونان عن الدفع، أو سيعاد هيكلة الديون.
بما أن قادة أوروبا ليسوا أغبياء، من الضروري فهم اللعبة التي كانوا يلعبونها. فقد عرفوا حسن المعرفة أن إجراءات التقشف كانت غير ملائمة وقد تؤدي لإفشال سداد الديون. ولكنهم أصروا على خوض اللعبة في ذلك التوقيت لأنهم ظنوا أنهم سيفوزوا، وكان من المهم لهم إخضاع اليونان لأسباب أكبر.
تعتبر الحالة الاقتصادية اليونانية الأسوء في أوروبا. إلا أن أن عددا من دول الاتحاد الأوروبي، وتحديدا في جنوبي أوروبا، تحمل عبء ديون سيؤدي على الأرجح لإعادة التفاوض. صحيح أن أدائهم العام الحالي أفضل من اليونان، ولكن مع معدلات بطالة مرتفعة ومستمرة – على سبيل المثال، وصلت نسبة البطالة في أسبانيا إلى 22,5 بالمئة في شهر مايو – ويظل أمرين غير واضحين: أولا، كيف سيكون شكل هذه الدول خلال العام القادم أو بعد القادم، ثانيا، ما توجه الحكومات التي ستصل إلى السلطة؟ وماذا ستكون مواقفها؟
تمثل اليونان أقل من 2 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي. ولكن إيطاليا وأسبانيا أهم كثيرا من اليونان. تتمثل مشكلة إعادة هيكلة الديون في أنه بمجرد إجراءها لدولة واحدة، ستطالب الدول الأخرى بإعادة هيكلة ديونها. لم يرد الاتحاد الأوروبي أن تحدث سابقة تستغل في الأزمات المستقبلية أو تستشهد بها الحكومات المعارضة للاتحاد الأوروبي.
في اليونان، واجه القادة الأوروبيون أزمة وحكومة معارضة. وظنوا أنها المكان المناسب لاتخاذ موقف. فلم يكونوا مرنين بصدد إعادة هيكلة الديون، مطالبين مسبقا بالمزيد من إجراءات التقشف في اليونان، حيث تتخطى نسبة البطالة بالفعل 25 بالمئة وتتجاوز بطالة الشباب 50 بالمئة.
كانت استراتيجية الاتحاد الأوروبي في الماضي نفسية: عبر نشر الخوف حول ما قد يعنيه التخلف عن السداد، والخوف من عواقب ترك منطقة اليورو والقول بإن الاتحاد الأوروبي هو من افتقد القدرة على تقديم تنازلات. في الماضي، اعتمدت الاستراتيجية الأوروبية على عقد اتفاقيات لم يعتقد الاتحاد الأوروبي أبدا أن اليونانيون سيستطيعون الوفاء بها، لتأخير حسم المشكلة. طالب القادة الأوروبيون بإجراءات تقشف وربطوها بتأجيل السداد. توقع القادة أن تستمر اليونان في اللعبة. ولكنهم لسبب ما لم يدركوا أن سيريزا وصل إلى الحكم مع تعهده بإنهاء اللعبة. فقد ظنوا أنه تحت الضغط، سيتخلى الحزب عن موقفه.
ولكن سيريزا لم يتخل، ولا يعود ذلك لأسباب سياسية فقط. فإن لم يوف سيريزا بتعهده الانتخابي، مثلما ظنت القيادة الأوروبية أنه سيفعل، سينقسم الحزب وسيتشكل حزب جديد مناهض لأوروبا في اليونان. ولكن على مستوى أعمق، لا يستطيع اليونانيون ببساطة تقديم المزيد. فمع خراب اقتصادهم وإصرار أوروبا على أن الحل ليس في الحوافز بل في التقشف – وهو زعم مشكوك فيه على نحو متزايد – وصل اليونانيون لمرحلة أصبح فيها التخلف عن السداد، والأزمة الطاحنة قصيرة المدى التي ستتبعه، مستحقا لثمنه الباهظ.
أخطأت حسابات القادة الأوروبيين. لقد ظنوا أن اليونان ستكون أكثر مرونة، وأرادوا أن يظهروا لأي دولة أخرى أو حزب قد يفكر في مناورة مشابهة في المستقبل عواقبها. خشى الأوروبيون المخاطرة الأخلاقية التي ستنتج عن مساومة اليونانيين. وخلقوا لأنفسهم وضعا أكثر خطورة.
تهديدات جديدة أمام الاتحاد الأوروبي
أولا، في سبيل معالجته للأزمة اليونانية، شدد الاتحاد الأوروبي – خصوصا أمام الأحزاب الصاعدة المناهضة للاتحاد الأوروبي – على أن الاتحاد مجرد منظمة قائمة على معاهدة وليس كونفدرالية بأي شكل، ولا يمثل حتى اتحادا حقيقيا. كانت أوروبا متحدة مادام أعضاءها غير متورطين في مشكلات. ومثلما أوضحت، اقترض اليونانيون الأموال على نحو غير مسؤول. ولكن بقية أوروبا كانت غير مسؤولية عند إقراض تلك الأموال.
بالفعل، علمت البنوك التي قدمت تلك الأموال تماما الوضع الذي كانت اليونان فيه. ولا تعتبر فكرة أن اليونانيون قد خدعوا البنوك منطقية. أراد المصرفيون تقديم القروض لأنهم يتربحون من إجراء الحوالات النقدية. علاوة على ذلك، المؤسسات الأوروبية التي اشترت الديون من البنوك أنقذت من قدموا القروض. حيث بيعت القروض من قبل الأشخاص الذين قدموها إلى أطراف ثالثة، وباعتها تلك الأطراف إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
أما بالنسبة لليونانيين، فلم تقدم الحكومة الحالية أو الشعب على اقتراض تلك الأموال. وبالتالي ستساعد تلك القصة حزب “بوديموس” في أسبانيا وحزب الاستقلال البريطاني في المملكة المتحدة في طرح قضيتهما ضد الاتحاد الأوروبي. يبدو الاتحاد الأوروبي عازما على حماية البنوك، وفي ذات الوقت،شرها أمام من لم يقترضوا بالفعل.
ثانيا، مع تصعيبهم لقواعد اللعبة، على الأوروبيين إما أن يكملوا اللعبة، مع تحمل الانتقادات التي ذكرتها آنفا، أو تقديم صفقة ما كانوا ليقدموها قبل الاستفتاء اليوناني. سيؤدي الخيار الأول إلى اعتبار الاتحاد الأوروبي خصما محتملا للدول التي تمر بظروف صعبة، بينما سيضر الخيار الأخير بمصداقية الاتحاد في المواجهات القادمة. من المرجح أن يستأنف الأوروبيون مباحثاتهم مع اليونان، ولكنهم سيكونون أضعف كثيرا من ذي قيل. فقد واجه اليونانيون تهديد الأوروبيين.
من المثير للاهتمام كيف أن القادة الأوروبيين قد ناوروا ليصلوا إلى ذلك الموقف. يعود ذلك جزئيا إلى أنهم لم يتخيلوا أن الحكومة اليونانية لن تخضع للاتحاد الأوروبي، وألمانيا، والباقين. أما الجزء الآخر فيعود إلى أنهم لم يتخيلوا أن اليونانيين لن يفهموا ما قد يعنيه التخلف عن السداد لهم.
لم يتخذ القادة الأوروبيون الاعتبارات اليونانية على محمل الجد.
بالنسبة لليونايين، كانت هناك مشكلتين. تمثلت الأولى في كيفية التوصل إلى الصفقة التي احتاجوها. ليس عبر التوسل، بل عبر إقناع الأوروبيين بانهم جاهزون للتحرك – وهو تكتيك يعرفه أي مفاوض في شرق المتوسط.
ثانيا، كما يعرف أي مفاوض جيد، من الضروري أن تكون جاهزا للتحرك لا أن تفتعل ذلك ببساطة. بنى حزب سيريزا حملته على فكرة أن اليونان لن تترك منطقة اليورو ولكن الحكومة ستستخدم “لا” في الاستفتاء للتفاوض من أجل صفقة أفضل مع القادة الأوروبيين. إلا أن جميع الحملات السياسية خاضعة للحقائق الجيوسياسية، واحتاج سيريزا لطرح جميع الخيارات على الطاولة.
كانت القيادة الأوروبية مقتنعة بأن اليونانيون يمارسون الخداع، بينما أدرك اليونانيون انه مع ارتفاع الرهانات إلى ذلك المستوى لم يمكنهم تحمل تكلفة الخداع. ولكن اليونانيون علموا أيضا، من خلال ما شهدوه في الدول الأخرى، أنه بينما قد يوفر التخلف عن السداد سيولة مالية ضخمة قصيرة المدى في اليونان، مع فرض ضوابط على العملة وطرح عملة جديدة تحت سيطرة الحكومة اليونانية، سيكون من المستحيل تجاوز الأزمة قبل أن يتلاشى الشعور بالتعبئة.
تؤدي الكثير من الدول بشكل أفضل في الأزمات القصيرة والمكثفة بالمقارنة بالأوقات العادية. فقد صد اليونانيون اجتياحا من إيطاليا في أكتوبر 1940، ولم يكمل الألمان غزوهم حتى شهر مايو 1941. ليس لدى فكرة عن مدى قدرة اليونان قصيرة المدى على الحشد اليوم، ولكن سيريزا ينوى أن يراهن عليها.
خيارات اليونان في حال الخروج من منطقة اليورو
إن انسحبت اليونان من الاتحاد الأوروبي، سيكون لذلك تأثير ضئيل على اليورو. يزعم البعض أن الأثر سيكون كارثيا، ولكنني لا أرى سببا لذلك. ما قد يكون خطرا للغاية هو بقاء اليونان بعد خروجها، بل وربما انتعاشها. يركز اليونانيون اهتمامهم حاليا على الاتحاد الأوروبي كمصدر للأموال، وهناك ا فتراض بأنهم سيتم طردهم من الأسواق المالية العالمية إن تخلفوا عن السداد. ولكن ذلك لا يبدو ملوحا.
أمام اليونان ثلاث مصادر بديلة للأموال. الأول هو روسيا. فقد تمتع اليونانيون والروس بعلاقة تعود إلى السبعينيات على الأقل. وهو ما مثل مصدر إزعاج للولايات المتحدة وأوروبا. والآن يبحث الروس عن نفوذ ليستخدمونه ضد الأوروبيين والأمريكيين. يمر الروس بفترة صعبة ولكنها حاليا أقل صعوبة مما كانت عليه منذ شهرين، وتمثل اليونان جائزة استراتيجية. تحدث اليونانيون والروس إلا أن نتائج المباحثات غامضة.
بدأت قمة دول البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) في 6 يوليو بروسيا، واتخذ اليونانيون مقعد المراقب – حيث يحومون بشكل محتمل من أجل صفقة ما. قالت روسيا بشكل معلن إنها لن تقدم قرضا مباشرا إلى اليونان ولكنها ستستغل الأزمة لتمتلك أصولا ثابتة في اليونان والتزاما بشأن مشروع خطوط أنابيب “تركيش ستريم”. إلا أن إنقاذ اليونان سيقدم لروسيا فرصة ذهبية لوقف عمليات الناتو وإعادة تاكيد نفسها في مكان آخر غير أوكرانيا. وفي وسط أوروبا، يتلخص المشهد في أن روسيا واليونان قد تمتعا بتفاهم لعدة أشهر بشأن الإنقاذ، ما قد يفسر تبني اليونانيون لتلك الجرأة.
أما المصدر الثاني، وإن كان أقل احتمالا، لتقديم الأموال لليونان فهي الصين وبعض شركائها. حيث يحاول الصينيون ترسيخ أنفسهم كقوة عالمية حقيقية، ولكن دون جيش عالمي وباقتصاد آخذ في الضعف. إلا أن العمل بمفردهم أو مع آخرين لمساعدة اليونان لن يمثل خطوة حمقاء من طرفهم، في ضوء أنها ستخلق بالتأكيد نفوذا إقليميا مقابل ثمن قليل نسبيا – بالكاد عشرات المليارات. إلا أن تلك الخطوة قد تحمل تكلفة سياسية، حيث ستستعدي جزء كبيرا من الاتحاد الأوروبي، ما يجعل المساعدة الصينية احتمالية ضعيفة.
وأخيرا، هناك صناديق التحوط الأمريكية وشركات الاستثمارات الخاصة. وهم أغنياء بالسيولة بسبب الأموال الأوروبية، والصينية والشرق أوسطية التي تبحث عن الأمان وتواجه نسب فائدة تقارب الصفر بالمئة. اتخذ العديد منهم مخاطر أكثر تهورا. كذلك قد لا تصدهم الحكومة الأمريكية، لأنها ستكون أكثر قلقا بشأن النفوذ – والنشاط البحري – الروسي أو الصيني في شرق المتوسط.
بعد إسقاطها لديونها الأوروبية ونجاتها من الأشهر الصعبة بشكل حقيقي بعد التخلف عن السداد، قد تكون اليونان فرصة استثمار مثيرة للاهتمام. ونحن نعلم من الأرجنتين أنه عندما تتخلف دولة عن السداد، لا يتم حصارها. لدى اليونان قيمة، وفي غياب الديون، تمثل فرصة استثمار مرتفعة الخطورة ولكنها جذابة.
وبالتالي أوصل القادة الأوروبيين أنفسهم إلى المأزق الذي لم يسعوا إليه. فإن تمسكوا بموقفهم، سيفتحون الباب أمام فكرة أن هناك حياة بعد الاتحاد الاوروبي، وهي أحد الأفكار التي لم يرد القادة الأوروبيون أن يتحققوا من صحتها. بالتالي، من المرجح أن الأوروبيين، بعد اكتشافهم أن سيريزا ليس جاهزا للإذعان للإملاءات الأوروبية، سيتفاوضون الآن على صفقة تستطيع اليونان قبولها. ما يمثل سابقة لم يتمنى الاتحاد الأوروبي أن يشهدها.
وراء كل ذلك، ي درس الألمان مستقبل الاتحاد الأوروبي. فهم قلقون بشأن اليورو أو الدين اليوناني بشكل أقل مما هم قلقون بشأن منطقة التجارة الحرة التي تستوعب جزء من صادراتهم الهائلة. ومع فرض ضوابط ائتمانية والتخلف عن السداد، تمثل اليونان مجرد سوق صغير خسره الألمان. آخر ما يتمناه الألمان أن ينتشر ما أقدمت عليه اليونان، أو أن تضطر ألمانيا إلى دفع ثمن امتياز انقاذها. وبالتالي، وعلى عدة أصعدة، يجب أن تنتقل عيوننا من اليونان إلى ألمانيا. فهي في قلب القيادة الأوروبية، وستكون الخطوة القادمة من نصيبها – والتي لن تكون في صالح الاتحاد، بل في صالح ألمانيا، التي حوصرت في نفس المأزق كبقية الاتحاد الأوروبي.
*جورج فريدمان مؤسس شركة “ستراتفور”.