دليلك إلى حل التنظيمات بدون معلم
نموذج محلول (1) : كيف تُغرق حاملة طائرات*
“في يوليو 2002، وفي حمأة التحضيرات لاحتلال العراق، أجرى الجيش الأميركي إحدى أكبر “الألعاب الحربيّة” في تاريخه. “اللعبة” كانت تشبيهًا لحملةٍ تجري في الخليج العربي ضدّ دولةٍ “مارقة” متخيّلة، هي في توصيفها مزيج بين العراق وإيران. على الأسطول الأميركي المكوّن من مجموعة حاملات طائرات معزّزة أن يثبّت سيطرته على الخليج، وأن يسحق القوى البحرية والجوية المعادية، ومن ثمّ يغزو أرض العدوّ. في المقابل، أعطيت الدّولة المارقة ــــ بحسب السيناريو ــــ أسطولًا “عالم ثالثيًا” نموذجيًا خاليًا تمامًا من القطع البحرية الكبرى والمتطوّرة، ومكوّنًا أساسًا من زوارق صغيرة وقوارب دوريّة، يدعمها أسطول جوّي صغير لا فرصة له أمام الطيران الأميركي.
أدار دفّة الجانب الأميركي في السيناريو نخبة من قادة جيشه، وأعطيت قيادة القوة المعادية إلى جنرال متقاعد اسمه فان ريبر. ما أثار خيبة المخطّطين الأميركيين أنّ فان ريبر لم يقاتل كما كانوا يتوقّعون، وكما “يفترض به”. ألغى القيادة المركزيّة لجيشه، وقسّمه إلى مجموعات مستقلّة. تخلّى عن أساليب الاتصالات الحديثة واعتمد حصرًا على الخطوط السلكية ورسلٍ يجيئون ويذهبون على درّاجات ناريّة. أمّا في البحر، فقد وجّه كلّ ما يملك، حتّى اليخوت والمراكب المدنيّة، لتضرب الأسطول الأميركي من حيث لا يتوقّع: سُلّحت السّفن المدنيّة بصواريخ مضادّة للسّفن أطلقت من مسافات قريبة، استعملت الزوارق السريعة في هجمات انتحاريّة، حتّى الطّائرات الخفيفة ذات المراوح حمّلت بالمتفجّرات وصارت تنقضّ على السّفن الأميركيّة على طريقة الكاميكاز. مع نهاية اليوم الأوّل من التّشبيه، كانت حاملة الطّائرات الأميركيّة، ومعها ثلثا الأسطول، ترقد في قاع الخليج!
“… بغضّ النّظر عن النّتيجة الرّسميّة “المعدّلة” لتلك المناورات، فإنّ ما فعله الجنرال المشاكس فان ريبر حوّل تمارين 2002 إلى ما يشبه الأسطورة لدى المهووسين بالنظريات العسكريّة.
ويمكن اعتبارها من البدايات النّظريّة لما صار يسمّى “الحرب الهجينة”. “الحرب الهجينة” هي مصطلح ذهبيّ حاليًّا في العلوم العسكرية الغربيّة (كما كان مصطلح “الحرب ضدّ التّمرّد” قبله) وهو يعني، باختصار؛ أن تواجه عدوًّا يمتلك قدرات وتدريبًا وأسلحة الجيش النّظامي، لكنّه يقاتل بتكتيكات الحرب غير المتكافئة (ومنها، ولكن ليس حصرًا، حرب العصابات).”
ففي هذه التجربة كان الحل الأمثل للحصول على أفضل النتائج هو التخلي عن صورة التنظيم(وهو صورة التنظيم المركزي الهرمي التقليدي للجيش)، لصالح تحقيق أغراض التنظيم أو أهداف إنشاء التنظيم(وهي النكاية في الجيوش المهاجمة).
نموذج محلول (2) : أيرلاندا .. الاحتلال الإنجليزى يترنح!
حارب الأيرلنديون الاحتلال الإنجليزي لمدة ٨٠٠ عام تقريبا! لم يستسلموا أبدا، وهذا قد يبدو رائعا، ولكنهم أيضا لم ينجحوا في طرد الإنجليز وإنهاء الاحتلال والحصول على الاستقلال!
لماذا لم يحقق الأيرلنديون حلمهم طوال 800 عام كاملة- وليس 80 عامًا فقط -؟!
لأنهم – على مدى ٨ قرون – حاربوا الإنجليز بنفس الأسلوب الذي تستخدمه العسكرية الإنجليزية؛ معارك واسعة المدى – تشكيل كتائبي صارم – جيش في مواجهة جيش. حاول الثوار الأيرلنديون التصرف علي هيئة جيش لأنها كانت الطريقة التنظيمية الوحيدة في نظرهم التي يتخيلونها للمواجهة المسلحة!
ثم تغير كل شيء بمجيء مايكل كولنز!
كان مايكل كولنز خبيرًا إستراتيجيًا يمتلك رؤية إستراتيجية مغايرة لتحقيق نفس الهدف الذي يسعى إليه الجيش الأيرلندي منذ 800 عام! ولكن عن طريق نظام مختلف. فما سر نجاح مايكل كولنز؟
بعد عصيان عيد الفصح الكارثي عام 1916 قام كولنز بتغيير إصلاحي كلّي؛ حيث حوّل المقاتلين المتطوعين إلي جيش حرب عصابات رشيق مرن؛ فقام بإرساء قواعد ما عرف بـ”الأرتال الطائرة “- سرية صغيرة مكونة من ٢٥ – ٥٠ فردًا ترتدي الزيّ المدني تتحرك باستمرار تنصب الكمائن للمواكب الإنجليزية وتهاجم القواعد ونقاط التفتيش وغيرها- ثم قام بتطوير شبكة من المخبرين لجمع المعلومات عن أفراد المخابرات البريطانية وتحركاتهم وجواسيسها.
وفي النهاية كوّن فرقًا منظمة من المتطوعين لاغتيال هؤلاء الأفراد!
وبعد ٣ سنوات فقط من تبنيّ هذه التكتيكات الجديدة نجح الجيش الأيرلندي الجمهوري في طرد البريطانيين من أيرلندا (ماعدا ٦ مقاطعات في الشمال) وذلك بعد ٨٠٠ عام من الهزائم!
فعلى الرغم من أن كولنز لم يأتِ ليغير هدف الجيش الأيرلندي- وهو طرد الإنجليز وتحقيق الاستقلال- ولكنه قام بحل الجيش الأيرلندي! وأعاد تشكيله على صورة أكثر مرونة وأقل نظامية، وأعاد تعريف المهام والمهارات اللازمة للأفراد لتحقيق نفس المهمة، ولكن بعد أن حل تنظيم الجيش الأيرلندي!
وكذلك الحال فيما يتعلق بالتنظيمات الإسلامية بعامة، وتنظيم الإخوان المسلمين بخاصة؛ فيما يتعلق بهدفه الذي أنشئ من أجله، والقيود التي فرضتها طبيعة التنظيم على الممارسة. فالأمر كما يؤكد الدكتور فريد الأنصاري أن الصيغة التنظيمية للحركات الإسلامية، وآليات اشتغالها اليوم، وكذا جوهر خطابها الحركي مما تنتجه في أدبياتها وتجمعاتها، وخصوص خلاياها؛ كل ذلك كفيل بخروجها من عالم (اللامفهوم) أو(اللامدرك) – بالنسبة للحسابات الغربية ودراساتها الإستراتيجية- إلى عالم (المفهوم) أو (المدرَك)! وانتقالها من عالم (الخوارق والمفاجآت) إلى عالم (العوائد والطبيعيات) القابلة للحسابات، وذلك هو عين المقصود، حيث تصبح الحركة الإسلامية بالنسبة للإستراتيجية الغربية رقما قابلا للإدراك، وعددا قابلا للحساب بحيث تصبح في سياق معارضتها ونقدها؛ قابلة للإعمال والاستعمال، وللتحييد والإهمال، أو على الأقل قابلة للمعالجة الميكانيكية! ونتائجها قابلة للتوقع، وللإدراج في معادلة الإمكانات والاحتمالات الرياضية المدروسة بعناية سواء بالنسبة للنظام العالمي، أو وكلائه المحليين المتمثليين في صورة الأنظمة الحاكمة.
ومثاله عندي كرجل يراهن خصومه على أن عدد لترات الدم في عروقه 6 لترات من الدم، فيراهنه خصومه بكل خبث على أن الفيصل بينهم هو القياس؛ ففي اللحظة التي يتم سحب الدم والتأكد من صدق دعواه، سيكون في واقع الأمر قد مات!
وكذا محاولة التنظيمات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين التحول من مجموعة الأفراد القائمين على معظم صور فروض الكفايات في الأمة، وهي جوهر حقيقة التغيير الاجتماعي والسياسي بالفعل؛ ومن دور القائم بعملية الفعل والتغيير بشكل مباشر، إلى قوة مؤطرة ومحكومة داخل “تنظيمات سياسية”؛ وهي صورة تحول الفعل المباشر إلى برنامج مستقبلي للفعل في صورة برنامج للحزب؛ أو السماح بتبني مطالبها وأهدافها عبر قنوات المؤسسات السياسية القائمة في إطار مؤسسة الدولة؛ الأمر الذي يطلق عليه “الوظيفة الاستيعابية للنظام السياسي” وهو الأمر الذي يتم من خلاله القضاء على إمكانات التغيير الحقيقية، أو الاستجابة الفعلية للمطالب التي تتبناها الحركات التي تقود الرأي العام وفق اتجاهات العصيان السياسي.
فالاعتقاد بأن تحويل الحركة الشعبية المعبرة عن العصيان السياسي أو قيادتها على الأقل إلى “منظمة سياسية” سيجبر الفئات والطبقات السياسية والاقتصادية الحاكمة أو المهيمنة على تقديم تنازلات سياسية يتم من خلالها توسيع المنظمة وتحقيق مطالبها؛ هو مسألة مشكوك في جدواها أو تحقيقها. هذا الأمر – وإن حدث تاريخيا – فقد كان تحت تأثير عاملين:
الأول: جاذبية اللحظة التاريخية؛ حيث يقود الاستياءُ والسخطُ عددًا كبيرًا من الناس إلى التمرد والعصيان السياسي؛ الأمر الذي يبدو معه أن هناك الكثير مما يمكن القيام به في حالة إنشاء منظمة كبيرة ودعم عملية استمرارها.
الثاني: تقدم الصفوة – أحيانًا – في مواجهة العصيان السياسي بعض التنازلات الجزئية التي يبدو أنها لم تكن ممكنة من قبل، فيعتقد أن الأمر سيزداد ويتدعم في حالة إنشاء منظمات سياسية.
ولكن ذلك يتضمن خللا حقيقيا؛ إذ إن الصفوة لن تقبل بتقديم سلسلة من التنازلات تمس جوهر حكمها، أو حتى تسمح باستخدامها في تحدٍّ حقيقي لمواجهتها، كما أن القيادات بإنشاء هذه المنظمات السياسية تنقل الجهود من “الشارع” إلى “قاعات الاجتماعات”، وتصبح هذه المنظمات رأس جسر لجهود الصفوة السياسية الحاكمة في دفع العصيان السياسي في القنوات السياسية التقليدية، والتي لن تحقق أو تستجيب للمطالب الحقيقية، بينما تظل هذه الجماعات والمنظمات السياسية تعتقد – وبالأصح تعيش وهمًا سرابيًا – أنها تسلك “الطريق الطويل والصعب” ولكنه المضمون نحو تحقيق أهدافها.
بعد أن تتأكد الصفوات والسلطات الحاكمة من درجة ومستوى فعالية المنظمات السياسية التي قامت في سياق عمليات عصيان سياسي تعبيرًا عن مطالب حقيقية، لكنها فقدت بتحويلها التنظيمي هذا الزخم؛ تسعى إلى جذبها إلى بنية الأنظمة السياسية لمعرفة آرائها، ولكي تعرض همومها وشكواها عبر المؤسسات والقنوات الرسمية للدولة، وهذه الاستجابة الرمزية ليست للمنظمة كـ”تنظيم” ولكن للبقية الباقية من قوى الرفض والتغيير والعصيان السياسي داخلها، والتي تسعى إلى ترويضها والقضاء عليها، وهذه بدورها لا تدوم طويلا كأي مظهر من مظاهر الرأي العام المتقلبة والزئبقية، وهكذا فإن أكثر التنظيميات التي نشأت تعبيرًا عن مطالب حقيقية ومن رحم حركة شعبية تتلاشى كوجود حقيقي.
ومع ذلك تستمر هذه المنظمات كـ”هياكل” و”أبنية” فارغة رهينة بأمرين:
الأول: تصبح ذات فائدة ومصدر وجاهة ومكانة رمزية، وغالبا ما تشكل وسيلة ومصدر معيشة للذين يتحكمون في مواردها ويعتمدون عليها؛ من المجموعات والأفراد الذين يدعون تمثيل المنظمة أو الجماهير.
الثاني: تصبح أكثر خضوعًا لمن تعتمد عليهم في مواردها المختلفة، ويبقى توازنها الهش رهينا بتوازن مجموعات”الشِّلَل” و”الزبائن” الذين تؤول أمورها إليهم، بالإضافة إلى سبب جوهري مهم، وهو أن استمرارها بهذه الوضعية إنما يكون بسبب هجرها للسياسيات المعارضة الفعلية والجذرية، وقبولها بممارسة “أدوار” محدودة في إطار لعبة “السياسات الرمزية”.
وبذلك تنتهي عملية العصيان السياسي الذي تقوده الحركة الإسلامية، وتموت مقاومتها للطغيان عبر إقامتها للأحزاب والتنظيمات السياسية.
إذن فلو قمنا بصياغة الإشكالية المطروحة حتى الآن على هيئة السؤال التالي:
س:هل وجود تنظيم الإخوان المسلمين ضرره أكبر من نفعه على الفكرة التي أنشئ من أجلها؟
ستكون الإجابة:
ج: وجود التنظيم بصورته الحالية ضرره أكبر من نفعه على الفكرة التي أنشئ من أجلها!
نعم المعضلة هي بنية التنظيم بشكل مجرد، وليست بنية تنظيم الإخوان المسلمين بشكل خاص!
نموذج غير محلول (3) : معضلة التنظيم الإخوانى الشيوعى
لو افترضنا عدة راصدين محايدين من داخل التنظيمات أو من خارجها، وأردنا منهم في جلسة مصارحة أن يكتبوا لنا بعض الانتقادات على الممارسة التنظيمية الإسلامية فربما تأتي هذه الملاحظات محل إجماع بينهم، وهذه الشهادات قد تكون شهادات حية من داخل صفوف التنظيمات:
شهادة (1):
“… أية محاولة لانتقاد الرؤية السائدة التي تصور النظم الإسلامية كجنة، كفردوس خال من المشكلات والتناقضات والصراعات، وغير قابل للانتكاس، ورأت أنها تسير في خط تطوري صاعد في خط مستقيم، أنها تسير “قدما إلى الأمام”، حيث أكدت أنه يجب علينا أن نرى التجربة الإسلامية في إطار تناقضاتها الواقعية، لهذا فيمكن لها أن تتراجع، وأن تنتكس، وقد تنهار، ولقد انهار العديد منها.”
“… أن منتقدي التنظيم انتقدوا مستوى واحدًا في المجال السياسي، ويتعلق بمواقف سياسية، دون انتقاد التنظيم (إضافة إلى المنهج، والرؤية…)، وإن حدث ذلك، فإنه انتقاد لممارسات شخصية، وليس صيغة التنظيم، مع وسم أي انتقاد للتنظيم بالخيانة أو بالعمالة.
وأنا أعتبر أن أي انتقاد لصيغة التنظيم يجب أن ينطلق من انتقاد المنهج أولا، والسياسة ثانيا، ومن ثم التنظيم والممارسة.”
“… فالتنظيم كان عودة إلى الوراء، فقد أعيد إنتاج بنية القبيلة، أو النظام البطرياركي الأبوي، حيث سلطة القرار ممركزة في فرد هو زعيم القبيلة أو زعماء القبلية! والتي تحمل صفات المقدرة والجبروت، والدراية، والتوفيق المفضي للعصمة، مما يجعل الآخرين أقرب إلى القطيع، والسلطة وحدها التي تستطيع تقرير مسار القطيع، وتحديد أهدافه، ومهمات كل فرد فيه، ومحاسبة المخالف والمخطئ، دون أن يكون من حق أحد محاسبته أو تخطئته، أو انتقاده، أو مخالفته.”
“… فكيف يمكن لفرد تشكَّل في ظل شروط استبدادية (في العائلة والمدرسة والمجتمع والسلطة والحزب والتنظيم!) محنطة في قالب أخلاقي، ومعطاة كصيغة نهائية، أن يعيد صياغة ذاته، في إطار قيم معاكسة؟
هنا تتشكل أزمة في الوعي، وأخرى فيما بين الوعي والممارسة، وثالثة في الممارسة ذاتها. ولا شك أن تجاوزها، لا يرتبط سوى بتعميق الوعي، وتقويم الممارسة.”
شهادة (2):
“… فلقد أصاب العالم موجة من حُمّى “العنف الثوري” القائم على مجموعات منعزلة عن الجماهير تناضل نيابة عنا وباسمها.
ولهذه الظواهر جذورها في مجال التنظيم، حيث لم تكن البنية التنظيمة قادرة على إعطاء الشورى مضمونها الحقيقي داخليا، ولعل ذلك هو نتاج ظروف القمع الطويلة، التي تستلزم “سلطة مركزية” في بعض الأحيان، هذه السلطة التي تتعارض مع دور أعضاء التنظيم ومساواتهم في الحقوق ضمن الهرمية التنظيمية، الأمر الذي أفرز ظاهرتين مترابطتين:
الأولى: ظهور فئات داخل التنظيم وفي مختلف مراتبه، وخصوصًا في المراتب العليا، تعمل على تكريس هذه السلطات الاستثنائية لأنها ترى أن من مصلحتها ذلك.
ومع اعتياد بعضهم على هذه الظروف الاستثنائية لتصبح جزءًا مكونًا من وعيه وتقاليده، فيرى في الظواهر اللاحقة تطورًا طبيعيا غير مخالف للخط التنظيمي، وهاتان الظاهرتان تخلقان وضعًا تنظيميًا مهيأً لتطور تسلطي، أو كما يسمى بيروقراطي.
إن كل ذلك يحول البنية التنظيمية إلى بنية ضعيفة غير قادرة على مواجهة الفردية، و”عبادة الشخصية” وظواهر القمع المختلفة، التي تعني تصفية المعارضة وتشويهها.”
شهادة(3):
“… ولذلك برزت ظواهر عديدة على صعيد التنظيم أهمها:
1 – تخلف الوعي نتيجة للجمود الذي أصاب هذه الأحزاب، والذي فرض وضعًا لا يسمح بنمو الوعي، وأدى إلى تصفية كل الفئات الواعية، أو التي تطمح لأن تمتلك الوعي! وكان الجمود يقود إلى أن يتحول عضو التنظيم إلى مردِّد ليس أكثر، يعتبر ما جاء في الماضي هو المستقبل، ويعتقد أن ما جاء في الماضي يجب أن يحكم كل التطور اللاحق، وأنه الجامع المانع الذي لا شك في صحته، أو في ديمومته.
2 – إلغاء الآلية الشورية الحقيقية، بإلغاء الحياة الداخلية، فأصبحت المركزية تعني السلطة. سلطة القيادة، وسلطة القرار، ليصبح الشكل جوهرًا، ويسقط الجوهر. لقد أصبح الشكل التنظيمي الذي يقوم على التسلسل الهرمي، وعلى وجود هيئة مركزية تقود التنظيم، يعني أن الأعلى هو الحاكم، أما الأسفل فمحكوم، الأعلى هو الذي يتخذ القرارات ويضع الخطط ويحدد البرامج ويعطي الأوامر، أما الأسفل منفذ يطيع ما يريده الأعلى. ولذلك سقطت قضايا أساسية في حياة التنظيم الداخلية، أهمها حرية الآراء، والنقد، والمؤتمرات والانتخابات ودور الأقلية.
3 – تكريس عبادة الفرد، أو الهيئات العليا. ليصبح الفرد هو التنظيم، يقرر بالنيابة عنه، ويعتقد أن ما يقوله عين الصواب.”
شهادة (4):
“… مشكلات التنظيم أكثر من أن تحصر أو تعد يا سيدي فاعدد معي:
مشكلة السرية:
إن العمل السري يفرض نمطًا من العمل يقضي وجود الخلايا الضيقة، والحوارات المحددة، وصعوبة الخلايا الضيقة، والحوارات المحددة، وصعوبة عقد المؤتمرات (نسبيًا)، وكل ذلك يزيد من (المركزية)، ويقنن الحوارات، ويحد من التفاعل، ويبرز الميل لوجود قادة ومنفذين، وكل ذلك يعيد القرار إلى الهيئة العليا، بشكل ما، ويحد من دور التنظيم.
مشكلة الوعي:
إن تفاوت الوعي يفرض أدوارًا مختلفة من عضو لآخر، ويجعل قدرات الأعضاء متفاوتة، وبالتالي فتأثير كل منهم مختلف، ومقدرته على صياغة القرار والتأثير فيه متباينة، ومعرفته بمهامه قليلة، ودوره محدود.
مشكلة الترقية:
إن الهيئات العليا هي المعنية بمشكلة الترقية، ونقل الأعضاء من مرتبة إلى أخرى، وهذا يجعل دور الأعضاء الجدد ضعيفًا، ويجعل دور الهيئات الأعلى أكبر من دور الخلايا القاعدية، ويخلق نوعًا من علاقات التبعية إذا لم تتوفر الشورى الحقة.
مشكلة التربية:
وهي دور الهيئات العليا في التأثير على مسار نمو الأعضاء وتطورهم، وبالتالي التحكم في دورهم في صياغة القرار السياسي.
مشكلة الأقدمية:
حيث أنه كلما امتد عمر العضو امتلك مقدرة أكبر في التأثير، وحاز على معلومات أوسع، وهذا يؤهله لأن يلعب دورًا أكبر من العضو الجديد، خصوصًا فيما يتعلق بالمراتب القيادية، لتصبح بالتالي قيادة تاريخية!
مشكلة التخلف:
وهي طبيعة بنية العضو، وتحديدًا الهيئات القيادية. إن التخلف يقود إلى القمع، ومنع الحوار، وتحريم النقد والاعتراض أو احتوائه داخل مناورات تنظيمية سابقة التجهيز، ومحاولة تركيز السلطات، وتوسيع المهام، وإلغاء الآخرين، وإقامة علاقات التبعية، تكوين الأزلام والمريدين.
كل هذه المشاكل معقدة. سببها الأساسي طبيعة الهيكل التنظيمي.”
أي قارئ منصف لهذا الملاحظات السابقة من أبناء التنظيمات الإسلامية يعترف بصحة جميع هذه الملاحظات وزيادة! وفي نفس الجملة يؤكد على أنه بالرغم من جميع هذه الانتقادات السابقة فإن بقاء التنظيم هدف يحتمل من أجله كل هذا وزيادة!
والغريب والمفاجئ أن جميع هذه الملاحظات، وكل هذه الاقتباسات ليست من كتب مراجعات فكرية إسلامية، أو شخصيات إصلاحية من التيار الإسلامي، بل جزء من عيوب التنظيم الشيوعي في لبنان التي ذكرها سلامة كيلة في كتابه الماتع “نقد الحزب: المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي”!، وذلك بعد أن أبدلنا فقط المصطلحات اليسارية بمصطلحات إسلامية!!
الحل القسرى والحل الاختيارى
من باب المفارقة التاريخية فإن معظم قرارات حل جماعة الإخوان المسلمين تاريخيا، والتي صدرت في أغلبها من خصومها (وفي قليل من المرات من داخلها أو من قبل أحد أبنائها أو فروعها المختلفة) كانت منحة جليلة للجماعة! ففي فترة الشتات الناصري، قام عدد كبير من أفراد جماعة الإخوان المسلمين، مدفوعين قصريا بسبب حل التنظيم قُطريا، إلى التحول إلى السلوك الطبيعي للمسلم عن طريق العودة إلى التكليف الرباني، والتخلص من التكليف التنظيمي أوعلى الأقل التخفف من أعبائه (ولو لفترة)، أو الإبقاء على القدر الأدنى من عيوب التنظيم، مع الحصول على أعظم إيجابيات العمل الجماعي المنظم؛ وذلك عن طريق إنشاء الجامعات والمعاهد، وتأسيس المشروعات الإسلامية الدعوية في جميع دول العالم، أو أدائها المميز داخل الدول غير المسلمة بسبب غياب أكبر عوامل سلبية التنظيم وهو الشبق السياسي؛ حيث يختفي تمامًا من أفق أفراد الجماعة داخل الدول غير المسلمة لاستحالة المشاركة السياسية بقصد الإصلاح الفوقي! فلا يتبقى لها غير وظيفتها الأساسية الربانية، وذلك عن طريق إنشاء أكبر عدد من الجماعات الوسيطة القائمة على فروض الكفايات، وإحياء معظم صور الأوقاف والتي هي بمثابة نواة لمجتمع مسلم حقيقي ومتكامل. ولكن هذه الفترة سرعان ما انتهت بالتصالح مع نظام السادات ودمج الجماعة داخل مشروع الدولة، ومن ثمَّ إمكانية عودة التنظيم مرة أخرى للأسف!
بل إن كثيرًا من الحالات الإخوانية العابرة للتنظيمات والأقطار، كان العنصر الأهم في عالميتها وانتفاع الأمة بها، هو انعدام الكيان القطري الحاضن للتنظيم أو تعذره؛ مثل حالة الدكتور عبد الله عزام رحمه الله، والذي كان الأب الروحي لإحياء حالة الجهاد العالمية المعاصرة.
والتحدي الحالي للجماعة هو مدى استجابتها لخيار الحل الطوعي الاختياري الواعي للتنظيم، لحساب الأهداف التي قام من أجلها التنظيم، هذا الحل الذى سيتيح تكوين “شبكة” بديلة تستطيع تحقيق ما لم يحققه “التنظيم” خلال 80 عاما حتى الآن، وربما فى المقال القادم نستطيع أن نتحدث أكثر عن مواصفات هذه الشبكة وكيف تتكون !