داعش يمد نفوذه في أراضي “أمير المؤمنين”
لم يمض وقت طويل على إعلان طالبان وفاة مؤسسها وزعيمها الملا عمر حتى نعاه تنظيم الدولة الإسلامية ممثلا في فرعه في أفغانستان ولاية خراسان على طريقته الخاصة، عبر إصدار مرئي قام فيه بإعدام عشرة من أفراد جماعته بطريقة تفوق في وحشيتها الطرق السابقة التي استخدمها التنظيم لإعدام خصومه في سوريا أو العراق.
يستعرض هذا التقرير الدور المتنامي لتنظيم الدولة في أفغانستان، والتهديد الذي يمثله لحركة طالبان في ظل سعي كل منهما إلى احتكار تمثيل الحالة الجهادية في جنوب آسيا، سيما في ظل الانقسامات التي تعصف بالحركة بعد وفاة مؤسسها وزعيمها الروحي. ونبين سعي التنظيم إلى إيجاد موطئ قدم له في أفغانستان بما لها من رمزية، كونها المكان الذي نشأ فيه التيار الجهادي الحديث بزعامة أسامة بن لادن.
أهم أنشطة داعش في أفغانستان..
في سياق حرص تنظيم الدولة على الاستئثار بالخطاب الجهادي في كل أنحاء العالم، أعلن الناطق باسمه أبو محمد العدناني في 26 يناير 2015 عن قيام ولاية خراسان التي تشير إلى أفغانستان ومناطق من باكستان وإيران، وأكد تعيين قيادي سابق من طالبان باكستان يسمى حافظ سعيد خان واليا عليها، وتعيين عبد الرؤوف خادم نائبا له. وفي حين اتفق الخطاب الرسمي لطالبان في البداية مع خطاب الحكومة الأفغانية والأجهزة الأمنية الغربية التي قللت من خطر التنظيم واستبعدت إمكانية أن يجد له موطئ قدم في أفغانستان التي أنهكتها سنوات طويلة من الحرب، تحدثت تقارير عن تمكن التنظيم من تجنيد عدد متزايد من المقاتلين المحليين سيما في مناطق نفوذ الحركة في ولايات الشرق والجنوب. وتزايدت الدلائل على تحول العديد من مقاتلي الحركة إلى مبايعة “الخليفة البغدادي” بديلا عن “أمير المؤمنين الملا عمر” الذي طال غيابه، واستبدلوا رايات الحركة البيضاء برايات “الخلافة” السوداء، قبل أن تندلع مواجهات في ولاية ننجرهار بين الجماعتين راح ضحيتها العشرات من
القتلي والجرحي.
تصاعدت الانشقاقات في صفوف الحركة وتوالت بيعات عدد من القادة الميدانيين لتنظيم الدولة. وفي إبريل 2015، قتل نحو 33 من أفراد الجيش الأفغاني ومدنيين في هجوم استهدف بنكا في مدينة جلال آباد واستنكرته حركة طالبان فيما أشير بأصابع الاتهام إلى تنظيم الدولة. وامتدت الاشتباكات إلى عدة مناطق في ولايات الشرق والجنوب تخللتها إعدامات متبادلة وحرق أنصار داعش منازل لمقاتلين من الحركة. وفي 10 أغسطس 2015، أصدرت ولاية خراسان إصدارا مرئيا أعدمت فيه عشرة أشخاص قالت إنهم من طالبان بطريقة مرعبة وبأسلوب جديد لم يستخدمه التنظيم في إصداراته السابقة التي تناولت إعدام خصومه في سوريا أو العراق؛ إذ تم حفر حفر متقاربة في أرض زراعية، ووضع بداخلها عبوات ناسفة شديدة الانفجار، وبعد استعراض لعناصر التنظيم بالخيول، تم إجلاس الضحايا العشرة فوق تلك الحفر ليحصل بعدها انفجار شديد تطايرت علي إثره أشلاء القتلى في السماء.
(داعش أعدمت عناصر طالبان بطريقة مروعة)
كيف يحاول تنظيم الدولة التغلل في الساحة الأفغانية على حساب طالبان؟
اعتمد الخطاب الدعائي للتنظيم في السياق الأفغاني على التشكيك في ولاء طالبان للأيديولوجية الجهادية، واتهامها الدائم بالتبعية لجهاز المخابرات الباكستانية، إضافة إلى التشكيك في جدية قتالها للقوات الحكومية ومدى قدرتها على السيطرة على الأرض. وجاء رضوخ الحركة للضغوط الباكستانية مؤخرا للجلوس في مفاوضات مباشرة مع الحكومة الأفغانية استضافتها إسلام آباد ليعزز من مصداقية تلك الدعاية. كما اعتمد التنظيم علي الطعن في جدية طالبان لتحكيم الشريعة الإسلامية. وقد تحدثت تقارير عن قيام التنظيم بإحراق عشرات الأفدنة من الأفيون الذي اعتبر دوما أحد أكبر مصادر تمويل الحركة.
استورد التنظيم كذلك خطابه الطائفي إلى الحالة الأفغانية التي كانت -رغم سنوات الحرب الطويلة- بعيدة نسبيا عن هذا التهديد، فاختطف العشرات من طائفة الهزارة الشيعية وسط أفغانستان، وفشلت الجهود في إطلاق سراحهم. وأدى تزايد المخاوف من هجمات مماثلة إلى طلب الهزارة المساعدة من عدوهم القديم طالبان.
كما استفاد التنظيم من طول غياب الملا عمر، ففي إصدار حمل اسم رسالة إلى أهلنا في خراسان، أكد فيه حافظ سعيد خان أن الملا عمر متوفى منذ سنوات، وأن قيادة طالبان تصدر التهاني والرسائل باسمه في الأفراح والمناسبات. كما صدرت تهديدات من قادة ميدانيين بطالبان طالبوا فيها بظهور الملا عمر لينفي شائعات وفاته وإلا التحقوا بتنظيم الدولة. وساهمت هذه الضغوط الإعلامية في اعتراف طالبان بوفاة زعيمها.
وقد دفع الإنهاك الذي أحدثته سنوات الحرب الطويلة في البلاد العديد من المقاتلين والأمراء المحليين في الحركة إلى تبديل ولائهم بعد أن سئموا طول الحرب، وأغرتهم الانتصارات السريعة للتنظيم في العراق وسوريا لمحاولة استنساخ التجرية والاستفادة من القدرات المالية الهائلة للتنظيم في تعزيز وجودهم.
كيف تعاملت طالبان مع خطر تنظيم الدولة؟
تطور تعاطي طالبان مع تعاظم نفوذ تنظيم الدولة بدءا من إنكارها لوجود أي تهديد لاستئثارها بالحالة الجهادية في البلاد، والتقليل من شأن الأنباء التي تتحدث عن انشقاقات بصفوفها، واعتبرت من بايع منهم مدفوعا بفعل جهات استخباراتية وبلا ظهير عسكري، ووصفت الاشتباكات التي دارت في ننجرهار بأنها كانت مع لصوص وقطاع طرق، وتعهد المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد بتطهير المناطق منهم. لكن، وفي 16 يونيو، فيما اعتبر إقرارا بالخطر االذي يمثله التنظيم على وحدة الحركة ونفوذها، أرسل الملا أختر محمد منصور رئيس مجلس شورى الحركة آنذاك وزعيمها بعد وفاة الملا عمر، رسالة إلى زعيم تنظيم الدولة أبي بكر البغدادي مطالبا إياه بعدم التدخل في الشأن الأفغاني، وهدد بأن الحركة لن تسمح بأي جهاد على الأراضي الأفغانية إلا تحت رايتها.
مثلت وفاة الملا عمر الفرصة الأكبر للتنظيم لتأكيد حضوره وتفوقه الاستخباري والاعلامي. وظهرت طالبان كحركة ضعيفة ملتزمة ببيعة رجل ميت. إضافة إلى الانقسامات داخل الحركة التي من المتوقع أن تزيد من تحول العديد من مقاتليها إلي صفوف ولاية خراسان.
طالبان تواجه شبح الانقسام..
يأتي تعاظم خطر تنظيم الدولة ليزيد من متاعب طالبان التي لم تفرغ بعد من سؤال القيادة. فالحركة التي اعتمدت على السلطة الروحية لمؤسسها وزعيمها الملا عمر لإبقاء خلافاتها القبلية والمصالحية طي الكتمان، وجدت نفسها بعد وفاته مشتتة بين زعامة نائبه الملا أختر محمد منصور الذي اختاره مجلس شورى الحركة زعيما من بعده، وبين جناح رافض له يقوده الملا عبد القيوم ذاكر القائد العسكري بما له من قاعدة من الأنصار في إقليم هلمند، والملا عبد المنان شقيق الملا عمر الذي كان يرغب في أن يتولى نجل الأخير يعقوب قيادة الحركة من بعده. كما لم تحظ خلافة منصور برضا مكتب طالبان في الدوحة بما له من ثقل سياسي ورمزي داخل الحركة. ورغم أن منصور يسيطر على أغلب المتحدثين الإعلاميين والمواقع والبيانات الرسمية للحركة، ثمة تقارير تشير إلى أنه يسيطر مباشرة على 40 % فقط من المقاتلين في الميدان.
كما تأتي في ظل خلافات داخل الحركة على خلفية دخولها في مفاوضات للسلام مع الحكومة الأفغانية، إذ يعرف عن منصور أنه كان مؤيدا لمحدثات السلام بضغط من المخابرات الباكستانية، وهو ما يقابل بآراء أكثر تشددا داخل الحركة، ولعل هذا ما دفع منصور في أول خاطباته بعد توليه القيادة إلى الدعوة إلي الوحدة والتقليل من شأن الحديث عن مفاوضات السلام ووصفها بأنها دعاية من قبل الأعداء. ولم يمض وقت طويل حتى شنت طالبان أعنف عملياتها ضد القوات الحكومية، وهو ما قد يمثل محاولة من قبل أمير المؤمنين الجديد لتفنيد تلك الدعاية والمحافظة على وحدة الحركة المهددة بالتفتت والاندثار أكثر من أي وقت مضى.