داعش.. ودولة بادية الشام الغائبة
قديما قيل «ترومت النصرانية ولم يتنصر الروم»، في إشارة إلى الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه عامل القومية في التأثير على الأديان.. وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الذي يعرفه البعض باسم «داعش» ليس بمعزل عن هذه القاعدة، فهو جزء من حركة التاريخ التي تزخر بنماذج لعلاقات التأثير والتأثر بين الدين والقومية والاقتصاد والحاجات الإنسانية وعوامل أخرى.
وهنا يشير علماء الاجتماع إلى البعد الفارسي في دولة الملالي بإيران التي تقدم نفسها كدولة شيعية، كما يشيرون لازدهار التشيع في جنوب العراق كنتيجة للعوائد الاقتصاد الناتجة عن «الحج إلى مراقد الأئمة»، وفي ذات الإطار تظهر حالة التأثير المتبادل بين البروتستانتية والأنجلو ساكسون في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، لذا يمكننا أيضا أن نشير إلى أبعاد قومية واقتصادية تُؤخذ في الاعتبار عند النظر إلى «تنظيم الدولة».
فالتنظيم يسيطر على مناطق «بادية الشام» التي يتحدث أهلها عن مظلومية تاريخية ملخصها أنه بالرغم من أن قبائل هذه المنطقة تسيطر على أراض خصبة ومساحات شاسعة غنية بالثروات، وبالرغم من عراقة هذه القبائل، إلا أنها لم تكن أبدا مركزا لحكم إمبراطوري كبيرة بعد الإسلام كما حدث مع دمشق في حالة الدولة الأموية وبغداد في العباسية والقاهرة في الفاطمية واسطنبول (القسطنطينية) في الدولة العثمانية، كما أنه تم تقسيم قبائلها بين سوريا والعراق مع ترسيم حدود سايكس بيكو.
فبادية الشام التي كانت حاضنة الدولتين الأموية والعباسية وسميت بحاضرة بني العباس، يقول أهلها إنهم يحافظون على نقاء العنصر «العربي السني» بوجه الاختلاطات العرقية والمذهبية الموجودة في سوريا والعراق، وفي الآونة الأخيرة وجدوا أنفسهم بين سندان حكومة شيعية في بغداد ومطرقة حكومة علوية في دمشق.
أزمة قبائل بادية الشام السنية التي تجد امتدادها الطبيعي شمالا باتجاه تركيا وجنوبا باتجاه هضبة نجد، وصلت إلى ذروتها مع الاحتلال الأمريكي للعراق ونشوب نزاع طائفي بين السنة والشيعة في بلاد الرافدين، لم يلبث أن انتقل إلى سوريا مع اندلاع ثورة العام 2011، وظهرت تجلياته شيئا فشيئا فيما بعد.
يقول الكاتب والمفكر «نعوم تشومسكي» إن ديناميات الصراعات الطائفية والعرقية تفرز دائما العناصر الأكثر تشددا، وإن تدمير تنظيم متشدد باستخدام القوة دون معالجة الأفكار، ينتج بعد وقت تنظيما أكثر تشددا، وهو ما حدث عندما تحولت «القاعدة في بلاد الرافدين» إلى «تنظيم الدولة» الذي ارتفعت أسهمه مع تصاعد عمليات قتل السنة على الهوية في 2005، ثم بروز ديكتاتورية رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي التي تجلت في أسوأ صورها مع سحق الاحتجاجات الشعبية في الرمادي والموصل في 2013، كما ظهر التنظيم في سوريا مع تفاقم حالة القمع التي مارسها نظام الأسد بمساعدة من حزب الله وقوات الحرس الثوري الإيراني بدوافع لا يمكن إغفال بعدها الطائفي .
ومع التواجد الملحوظ لضباط الجيش العراقي السابقين في الهياكل التنظيمية العليا لتنظيم الدولية (وهو ما يفسر جانبا من تطوره العسكري الواضح)، وسيطرة العراقيين على مفاصله، يمكننا أن نضيف أدلة أخرى على وجود خلطة ديمغرافية – دينية في تكوين التنظيم وطبيعته التي تلعب فيها العشائر دورا بارزا.
وكما قيل إن وفاء البعثيين العراقيين من نموذج الرئيس الراحل صدام حسين للإسلام ينصرف إلى الامبراطورية وليس إلى العقيدة، وإلى المجد والسيطرة وليس إلى الإيمان، فيمكن القول إن القاعدة تنطبق على قطاعات لا يستهان بها من القيادات في تنظيم الدولة، على أن تنتقل تدريجيا إلى المقاتلين والأتباع في وقت لاحق.
وفي حالة الوصول إلى مرحلة الدولة التي يسعى التنظيم لإنشائها في غرب العراق وشرق سوريا (بادية الشام) تحت راية الخلافة، من المتوقع أن تظهر أصوات (لاسيما بين المقاتلين الأجانب) من المخلصين لفكرة التنظيم الأصلية، لتطالب بعدم التقيد بالحدود الجديدة والسعي لإنشاء خلافة موسعة، وهنا غالبا سيتم إقصاء هذه الأصوات وربما إخراسها بالقوة كما حدث عندما تمرد الإخوان (وهم مجموعات قبلية قاتلت لأسباب دينية بحتة، ويختلفون عن تنظيم الإخوان الحالي الذي أسسه حسن البنا) على عبدالعزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الحديثة.
ويعتقد من يتبنون وجهة النظر هذه أن الولايات المتحدة لا تمنع بشكل جدي تنظيم الدولة من السيطرة على بادية الشام، وأن تحركاتها العسكرية لا تهدف للقضاء عليه بقدر ما تستهدف تحجيمه ومنعه من التوسع خارج الحدود التي رسمتها مسبقا فيما يعرف بـ «خارطة حدود الدم»، على أن تستهدف في وقت لاحق أية عناصر في التنظيم تعمل خارج الإطار المسموح به، ليكون الناتج النهائي دولة تشبه المملكة العربية السعودية، تلبث ثوبا دينيا وتلعب في الوقت ذاته الدور المرسوم لها في ظل النظام العالمي الذي يُدار من واشنطن.
وفي النهاية يجب التفريق بوضوح بين أفكار «تنظيم القاعدة» الجهادية الأممية بالأساس، وتطورها لدى «تنظيم الدولة» إلى أفكار تتقاطع فيها أدبيات الجهاد بعوامل عشائرية ومناطقية واقتصادية، تهدف للوصول إلى دولة بادية الشام التي يحلوا للبعض من أهالي المنطقة تسميتها بـ «الدولة الغائبة».