بروكنجز: صعود الصين كقوة إقليمية وعالمية
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
خلال الـ6 سنوات التي سبقت العام 2007؛ نمى إجمالي الناتج المحلي الصيني بمتوسط 11%، بمعدل استثمار يصل إلى 41.5% من إجمالي الناتج المحلي. كان فائض ميزان المدفوعات في صعود خلال تلك الفترة، ليصل إلى نسبة 10% من إجمالي الناتج المحلي.
وخلال السنوات الـ6 التي تلت الأزمة العالمية، انخفض فائض ميزان المدفوعات الخارجي بشدة ليصبح بين 2% و3% من إجمالي الناتج المحلي. لكن تم تعويض نقص الطلب بشكل كامل تقريبا عبر زيادة الاستثمار، حيث بلغ الاستثمار أكثر من 50% من إجمالي الناتج المحلي في السنوات الأخيرة.
كان نمو الصين مثيرًا للإعجاب بالمقارنة ببقية دول العالم. وما يزيد الإعجاب هو حقيقة أن معدل النمو قد هبط إلى حوالي 7%، حيث تجاوز هبوطه 4% عن فترة ما قبل الأزمة. وبالتالي، كانت الصين في الفترة الأخيرة توظف الكثير من الاستثمار لتنمو ببطئ ملحوظ عن الماضي.
مشكلات النمو الصيني
أولا: التقدم التكنولوجي قد قلت سرعته. حسبما يقييمه نمو إنتاجية العوامل الكلية.
ثانيًا: وبشكل وثيق الصلة، يهبط الإنتاج الحدي لرأس المال (حيث يتطلب الأمر المزيد والمزيد من الاستثمار لإنتاج نمو أقل). وتتمثل المؤشرات الواقعية لهبوط إنتاجية رأس المال في البنايات السكنية الخالية، والمطارات غير المستخدمة، والطاقة الفائضة بشكل حقيقي في قطاعات صناعية هامة.
ثالثًا: ضئالة الاستهلاك بشدة، خصوصا الاستهلاك المنزلي، حيث يمثل ثلث الناتج المحلي الإجمالي فقط.
جاءت الاستجابة الصينية أمام النمو المتغير على صعيدين، خارجي وداخلي. على الصعيد الخارجي، ليس من المصادفة أن تلك الفترة من القدرة الزائدة داخل الصين هي الفترة التي دشنت فيها الصين مبادرات جديدة مرتفعة الثمن، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وبنك «بريكس»، ومبادرة “حزام واحد طريق واحد” حتى تعزز البنية التحتية على الطريق البري نحو الغرب من الصين عبر آسيا الوسطى، وعلى الطرق البحرية الجنوبية من الصين عبر جنوب شرق آسيا وإلى جنوب آسيا، وإلى أفريقيا وأوروبا.
تلقى تلك المبادرات قبولًا واسعًا لدى الجيران الآسيويين للصين، وسيراجع الجزء التالي من هذا المقال كيف يمكنهم أن يساهموا بشكل إيجابي في التكامل الآسيوي. إلا أن الفكرة الصينية عن أن تلك المبادرات يمكنها أن تكون حلًا رئيسيًا لمشكلا القدرة الصينية المفرطة تعتبر مضللة إلى حد كبير. فمن المرجح أن الاسهامات التي تقدمها تلك المبادرات مجتمعة للطلب الصيني ضئيلة جدًا على أن تكون مفيدة على مستوى الاقتصاد الكلي.
أما على الجانب المحلي، استجابت الصين عبر مجموعة من الإصلاحات التي انبثقت عن الاجتماع الكامل الثالث في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2013. تشكل تلك الإصلاحات مجتمعة مجموعة متسقة من الإجراءات التي ستكبح الاستثمار المبدد، وستعزز الابتكار ونمو الإنتاجية، وستحسن مستويات الاستهلاك.
يراجع جزء لاحق من هذا المقال إجراءات الإصلاح الرئيسية والتقدم المحرز حتى تاريخه بصدد الإصلاحات. سيتيح النجاح في هذا المجال للصين أن تستمر في النمو على نحو جيد لمدة عقد آخر أو أكثر.
ينظر الكثير من الأوساط إلى المبادرات الصينية في آسيا كتراجع للولايات المتحدة. وعززت الولايات المتحدة ذلك التصور عبر جهودها لصد الحلفاء عن الانضمام إلى البنك الآسيوي الجديد للاستثمار في البنية التحتية. وفي النهاية، انضم حلفاء أمريكيون كبار، مثل المملكة المتحدة، واستراليا وكوريا الجنوبية، إلى المبادرة الصينية، وتدرس اليابان بجدية أن تصبح عضوة. إلا أنه من المرجح أن يمثل ذلك تراجعًا دبلوماسيًا مؤقتًا للولايات المتحدة.
الآن، يبدو أن المبادرة الاقتصادية الأمريكية الرئيسية في منطقة آسيا الوسطى –مبادرة “الشراكة عبر المحيط الهادئ”– ستكتمل على الأغلب بحلول نهاية عام 2015. يريد العديد من الاقتصادات الكبرى في آسيا، مثل الاقتصاد الاسترالي، والسنغافوري، والكوري الجنوبي، والفيتنامي أن يشارك في كلا المبادرتين الصينية –البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومبادرة “حزام واحد طريق واحد”– والجهود الأمريكية لتقليل حواجز التجارة.
أقول في الجزء الثالث من هذ المقال إن هذه الجهود المختلفة هي في الواقع متكاملة. فنوع البنية التحتية التي تمولها المبادرات الصينية تمثل “الجزء المادي” للتجارة والاستثمار، وهي ضرورية ولكنها ليست كافية لتعميق التكامل. وعلى الجانب الآخر، تمثل مبادرة الشراكة عبر المحيط الهادي “الجزء المعنوي” لإدارة للتكامل، حيث تقلل المبادرة عوائق التجارة، وتفتح خدمات للتجارة والاستثمار، وتواءم بين مختلف الحواجز التنظيمية أمام التجارة.
هناك خطر ناتج عن أن المبادرات المتنافسة للصين والولايات المتحدة ستؤدي إلى وضع حواجز إقليمية وإحداث تفسخ في الوضع التجاري، ولكن من المرجح بشكل أكبر أن التنافس الصيني الأمريكي سيؤدي إلى تعزيز المؤسسات والتكامل بشكل أعمق في أنحاء منطقة آسيا المحيط الهادي.
البنك والحزام والطريق
تمثلت بعض الدوافع الصينية لتدشين البنك الآسيوي الجديد للاستثمار في البنية التحتية في قلق بكين حول بطء تطور هيكل الإدارة للمؤسسات المالية الدولية القائمة. فقد تعرض اتفاق هام اشتمل على زيادة موارد صندوق النقد الدولي، وزيادة الحصص التصويتية للأسواق سريعة النمو، إلى التعليق في الكونجرس الأمريكي، بينما صدقت جميع الدول الأخرى عليه.
هناك مفارقة خاصة في أن أحد أوجه إحباط الصين بالنسبة للمؤسسات الخاضعة للهيمنة الأمريكية، هي أن الصين تظن أن المؤسسات تحتاج إلى المزيد من الموارد وأنها مستعدة للمساهمة، بينما لا تستطيع قطاعات مختلفة من الحكومة الأمريكية أن توافق على هذا التوسع.
لا يتعلق الإحباط الصيني فقط بحجم مؤسسات النقد الدولي ووزن الصين داخلها. ففي حالة البنك الدولي، دعت الصين لسنوات إلى المزيد من التركيز على البنية التحتية والنمو. ومنذ عدة سنوات، ترأس الرئيس المكسيكي السابق «إرنستو زيديلو» ما أطلق عليه اللجنة العليا لتحديث إدارة مجموعة البنك الدولي.
يجدر فحص التوصيات الرئيسية لتلك اللجنة، لأنها تمثل جهودًا جادة من قبل لجنة دولية بارزة، والتي تضمنت تمثيلًا جيدًا من الدول النامية الكبرى مثل؛ «تشو شياو تشوان» من الصين، و«أرمينو فراجا» من البرازيل، و«مونتيك أهليواليا» من الهند، و«إرنستو زيديلو» من المكسيك.
يعتبر تقرير «زيديلو» حاسمًا جدًا بالنسبة لتدشين البنك الدولي حاليًا لمجلس مقيم يتولى الموافقة على جميع القروض. يمثل المجلس المقيم قيمة مالية كبيرة للبنك (70 مليون دولار سنويًا) وطبقة إدارية إضافية تبطيء التجهيز للمشروعات وتجعل البنك أقل كفاءة. يعتبر البطء في التجهيز للمشروعات أحد أوجه الانتقاد الرئيسية من قبل العملاء للأداء الضعيف لبنوك التنمية متعددة الأطراف.
يدرس المسؤولون الصينيون -المسؤولين عن تطوير البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية- تقرير «زيديلو» بحثًا عن أفكار جيدة. سيضم البنك مجلسًا غير مقيم يجتمع بشكل دوري في بكين وعن بعد. وفي ضوء حداثته، من المرجح أن تحدث تسوية بين الدول التي وقعت عليه تقتضي بتصديق المجلس على العديد من المشروعات الأولية، ثم يرسلها إلى الإدارة لتتولى اتخاذ القرار.
يقر تقرير «زيديلو» بأهمية الضمانات البيئية والاجتماعية، ولكنه يذكر أن البنك الدولي أصبح متجنبًا للمخاطر لدرجة أن تطبيق تلك السياسات يمثل عبء غير ضروري على الدول المقترضة. وعلى الصعيد العملي، ابتعدت الدول النامية عن اللجوء لبنوك التنمية متعددة الأطراف عند تمويل مشروعات البنية التحتية، لأنها بطيئة جدا وبيروقراطية.
أظن أن الاستجابة المتحمسة من قبل الدول النامية في آسيا لفكرة البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية تعكس دعمًا لفكرة وجود بنك تنمية جديد متعدد الأطراف يمكنه تقدم ضمانات جيدة، مع سرعة وكفاءة تتجاوز البنوك القائمة.
عبرت بعض التعليقات الغربية على إنشاء البنك عن خوف من أن الصين ستستخدمه من أجل أغراض سياسية واقتصادية محددة. والآن مع توقيع مجموعة متنوعة من الدول، حوالي 60 دولة، سيكون من الصعب على الصين أن تستغل البنك في تمويل مشروعات في الدول المفضلة مع إقصاء الأعضاء الآخرين.
فكرة أن ذلك سيساعد في حل مشكلات القدرة الصينية الزائدة لا تبدو منطقية مطلقًا. فإن كان البنك ناجحًا للغاية، قد يقرض 20 مليار دولار سنويا خلال 5 سنوات – بالتوازي مع مستوى الإقراض المقدم من بنك الإنشاء والتنمية الدولي التابع للبنك الدولي.
لكن في قطاع الصلب وحده، ستحتاج الصين إلى طلب زائد بقيمة 60 مليار دولار حتى يستوعب القدرة الزائدة. يستثني ذلك العدد القدرة الزائدة في قطاعات الأسمنت، والبناء، والماكينات الثقيلة. المقصود أن البنك، ببساطة، أصغر جدًا من أن يقدم أي تسهيلات بالنسبة لمشكلة القدرة الصينية الزائدة – حتى وإن كانت الصين المزود الوحيد لتلك المشروعات، وهو ما لن يحدث.
تعتبر مبادرة “حزام واحد طريق واحد” أكبر من البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية. حيث بدأت بفكرة أن الدول المجاورة في وسط آسيا –المنتشرة على طول طريق الحرير التقليدي– يمكنها أن تستفيد من تعزيز البنية التحتية للنقل، والتي تستطيع الصين أن تمول بعضها على الصعيد الثنائي.
إلا أن اقتصادات آسيا الوسطى ليست بتلك الضخامة، وفرصة الاستثمار محدودة. سيظل النقل البري باهظًا، بالمقارنة بالشحن البحري. ولذلك السبب، أضافت الصين فكرة الطريق البحري؛ المشتملة على توسيع البنية التحتية بطول المسارات البحرية الممتدة من الساحل الصيني عبر جنوب شرق آسيا إلى المحيط الهندي ثم بطول الطريق إلى أوروبا. تقطع كمية ضخمة من التجارة العالمية ذلك المسار بالفعل.
لأن مبادرة “حزام واحد طريق واحد” ستطبق على نحو ثنائي بين الصين وشركاء مختلفين، قد يبدو أن هناك فرصة أكبر أمام الصين لتستغل تلك المبادرة في إيجاد منافذ لبعض فائضها. ولكنني مازلت أتشكك في أن ذلك قد يحدث فارقًا على مقياس الاقتصاد الكلي الصيني.
بين الدول النامية العديدة الموجودة بطول مسارات المبادرة، لدى بعضها إدارة قوية نسبيًا -مثل الهند، وإندونيسيا، وفيتنام على سبيل المثال– التي سيصعب على الصين أن تهمشها. لن ترغب تلك الدول في أن تقبل عدد كبير من العاملين الصينيين، أو أن تنال قدرًا كبيرًا من الديون بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي الخاص بها.
وعلى الجانب الآخر، هناك دول ضعيفة الإدارة – مثل كامبوديا وباكستان. ربما يكون من الملائم أكثر بالنسبة للصين أن ترسل بعض إنتاجها الفائض إلى تلك الدول، ولكن هناك احتمالية معقولة أنه على المدى البعيد لن يتم الدفع إلى الصين.لدى الغرب تاريخ طويل من الإعفاء من الديون للدول ضعيفة الحكومات. سيكون من الذكاء من جانب الصين أن تتعلم من ذلك التاريخ.
أجندة الإصلاحات الصينية
يمثل الإصلاح الداخلي طريقا أكثر إشراقًا للتعامل مع مشكلة الفائض الصيني، ولإعادة التوازن إلى اقتصادها بعيدًا عن ذلك الاعتماد الكبير على الاستثمار. قدم القرار الذي نتج عن الاجتماع الكامل الثالث في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2013 العشرات -إن لم يكن المئات- من الإصلاحات.
تنقسم الإصلاحات التي يحتمل أن تحدث أعظم الأثر بالنسبة لإعادة التوازن للاقتصاد الصيني في أربع مجالات:
- نظام تسجيل الأسر (هوكو).
- الإصلاح المالي الدولي.
- التحرر المالي.
- فتح قطاع الخدمات الصيني للمنافسة.
في ظل نظام “هوكو” الصيني، يسجل 62% من الشعب كسكان ريفيين، وحتى تاريخه، كان من الصعب جدًا بالنسبة لهم أن يغيروا هذا التعريف رسميًا. نتج عن ذلك النظام هجرة أقل من الريف إلى الحضر بالمقارنة بأي حالة أخرى.
لدى الصين واحد من أعلى فروق الدخل بين المناطق الريفية والحضرية في العالم، حيث يتجاوز نسبة 3 إلى 1. يود الكثير من العائلات الريفية أن تنتقل إلى المدن إن سمح لها. ورغم العوائق، انتقل الكثير من الشباب الريفيين إلى المدن كعمال مهاجرين.
رغم اعتبار تعداد المهاجرين الصينيين إلى المدن، 52% قليلًا في ضوء مستوى التنمية الخاص بها. يتمثل أحد الجوانب الرئيسية للنظام الحالي في أنه بينما يستطيع المهاجرون أن يأتوا كعاملين، لا يمكنهم أن يجلبوا عائلاتهم أو أن يصبحوا بشكلٍ حقيقي مقيمين بتلك المدن.
ستؤثر إصلاحات نظام “هوكو” على إعادة التوازن بعدة طرق. يأتي قدر لا بأس به من نمو الإنتاجية المقدر على المستوى الكلي من إعادة توزيع العمالة، من النشاطات منخفضة الإنتاجية إلى النشاطات مرتفعة الإنتاجية (عادة من الزراعة إلى الصناعة الحضرية والعمل في قطاع الخدمات).
يجب أن يؤدي التخفيف في العوائق على التنقل إلى نمو أعلى للإنتاجية، وانتقال أعلى للمسجلين الآن كريفيين، وإنفاق حكومي أكبر على الخدمات. في تقرير عمله المقدم إلى مجلس الشعب الوطني في 5 مارس/ آذار عام 2015، حدد رئيس الوزراء الصيني «لي كه تشيانغ» هدف منح الإقامة في المدينة لحوالي 100 مليون ريفي انتقلوا إلى المدن.
أحد الأسباب الرئيسية لمعارضة الحكومات المحلية لإصلاح “هوكو” أنها تقلق من نقص الموارد المالية الكافية لتمويل الخدمات الاجتماعية الأكبر للعائلات المهاجرة. فقد عززت الصين بشكل عام مواردها المالية، ولكن هناك عدم توافق بصدد جني الحكومة المركزية لمعظم الأرباح، بينما تتحمل الحكومات المحلية معظم مسؤوليات الإنفاق.
أعلنت وزارة المالية الصينية عن خطط عامة للإصلاح المالي تهدف إلى دعم إعادة التوازن. حيث تمثل الخطط في المقام الأول؛ لإجراءات تعزيز عائدات الحكومة المحلية، ويشمل ذلك فرض ضرائب عقارية على الصعيد الوطني، ما قد يصبح مصدرًا مستقرًا لتمويل الحكومات المحلية، بالإضافة إلى كبح امتلاك الشقق السكنية، حيث يمثل ذلك أحد جوانب الاستثمار المفرط في الصين.
ثانيًا؛ تخطط الصين لجميع المزيد من الأرباح من الشركات الحكومية. وإن حدث ذلك على الصعيدين المحلي والمركزي، سيقلل الميل نحو الاستثمار وسيساعد في تأمين موارد للخدمات الحكومية. سيشمل الجانب الثالث للإصلاح المالي؛ السماح للبلديات بإصدار سندات لتمويل مشروعاتها للبنية التحتية، بدلًا من الاعتماد على القروض البنكية على المدى الأقصر.
قد يمثل الجانب الأخير من الإصلاح الجانب الأصعب؛ حيث يشتمل على مكافأة المسؤولين المحليين على قدرتهم على تعزيز الاستثمار والنمو. وبينما كان النظام ناجحا في ذلك، كان النجاح أقل في تحقيق أهداف أخرى، مثل توفير الهواء النظيف، والأمن الغذائي، والتعليم الجيد، والخدمات الصحية. يمثل تغيير حوافز المسؤولين المحليين لتعزيز إعادة التوازن إصلاحًا مؤسسيًا هامًا.
يعتبر النظام المالي الصيني المكبوت مجالًا ثالثًا للإصلاح. فمعدلات الفائدة الحقيقية التي تقارب الصفر تؤدي إلى فرض ضريبة على مالكي الأصول العقارية وتقديم دعم للاستثمار من قبل الشركات والحكومات المحلية القادرة على الاقتراض من النظام المصرفي.
تمتع العالم أجمع تقريبًا بنسبة فائدة فعلية صفرية خلال السنوات الأخيرة، ولكن الصين غير معتادة على تلك المعدلات على مدار أكثر من عقد مضى. اتخذت الحكومة بعض الخطوات الأولية لرفع أسعار الفائدة على الودائع والقروض، بالإضافة إلى إتاحة نظام ظل مصرفي لتطوير عائدات أفضل للمدخرين وقروض ذات معدل أكبر للعملاء الأكثر مجازفة.
مشكلة النظام الحالي أن معظم منتجات ثروة بنوك الظل يتم التسويق لها من قبل البنوك التجارية وتعمل كمنتجات منخفضة المخاطرة من قبل أصحاب الأملاك. نمى إقراض مصرف الظل الإجمالي مقابل ثمن باهظ في السنوات الأخيرة، وعلى نحو متوقع، تبدأ بعض الاستثمارات الممولة في فقدان طريقها.
حدوث أول تخلف عن تسديد السندات مبكرًا من العام الحالي، ويجب أن تساعد تلك النتيجة في تخفيف المخاطرة التي تراكمت في النظام. يمثل الإعلان عن الإنطلاقة الرسمية للتأمين على الودائع هذا العام خطوة أخرى هامة في فصل قطاع البنوك التجارية الحذر عن قطاع بنوك الظل الخطر. فقد أعلن محافظ البنك المركزي «تشو شياو تشوان» مؤخرًا أن تحرير نسبة الفائدة سيتم خلال عام أو اثنين.
تعتبر أيضًا الخطوات الأخيرة لتحرير أسواق السندات والأسهم، حتى تتمكن الشركات الخاصة على نحو أسهل من دخول أسواق المال، خطوات في الاتجاه الصحيح، وكذلك الخطوات لزيادة مرونة سعر الصرف.
يقدر صندوق النقد الدولي أن معدل الصرف الخاص بالصين قد تحول من “منخفض القيمة بشدة” إلى “ذي قيمة نسبية” خلال السنوات الأخيرة، لذلك لا يجب أن يكون صعبا جدا على السلطات أن تقلل تدخلها وأن تسمح بسعر يحدده السوق على نحو أكبر. وأخيرًا، يجب أن يمثل فتح حسابات رؤوس الأموال آخر خطوة في عملية الإصلاح.
يتمثل آخر مجال للإصلاح في فتح قطاعات الخدمات الصينية للتنافس بين الشركات الخاصة والسوق العالمي. فقطاعات الخدمات الحديثة تمثل نطاقًا تستمر الشركات الحكومية في السيطرة عليه: ومنها، الخدمات المالية، والاتصالات، والإعلام، واللوجيستيات.
يعني إعادة التوازن من الاستثمار نحو الاستهلاك أنه، على صعيد الإنتاج، ستنمو الصناعة على نحو أبطأ من الماضي، بينما ستتوسع قطاعات الخدمات. ستحتاج الصين إلى المزيد من نمو الإنتاجية في قطاعات الخدمات، ما يصعب تحقيقه في بيئة محمية.
ستخلق إعادة التوازن الناجحة تحديات وفرص للدول النامية الأخرى. وبالمقارنة بالتصور المعتاد، من المرجح أن تؤدي إعادة التوازن إلى المزيد من البطء في النمو في المستقبل القريب، مع كبح الاستثمار عديم القيمة. ومع مرور الوقت، يرجح أن يؤدي سيناريو إعادة التوازن إلى معدل نمو سريع نسبيًا للصين، لأنه سيقلل تناقص العائدات الذي يمثل المشكلة في نموذج النمو القديم.
والأهم أن تركيبة النمو الصيني ستختلف في ظل إعادة التوازن مع استثمار أقل، ونمو أعلى للإنتاجية، واستهلاك أكبر. بالنسبة للدول النامية الأخرى، تعني إعادة التوازن الصيني أن إقبال الصين على التعدين والطاقة سينكمش. فقد كان الاستثمار الصيني محركًا هامًا لأسعار المعادن المرتفعة خلال العقد الماضي. وأدى كل ارتفاع في الاستثمار الصيني إلى ارتفاع في أسعار المعادن، مع تأخر قصير.
يؤدي كبح الاستثمار في الصين بالفعل إلى أسعار أقل للبضائع. يتوقع تقرير الحالة الأساسية لآفاق الاقتصاد العالمي أن إعادة التوازن المتوسط والمشروعات المتوسطة في الصين سيؤدي إلى هبوط (بمقدار 3 إلى 4 سنويًا) في أسعار الطاقة والمعادن.
بينما من الصعب للغاية توقع أسعار السلع، يرجح أن يكون لإعادة التوازن الشديد آثار أكثر حدة على الأسعار. وستؤدي حقيقة أن معدلات الفائدة على الدولار الأمريكي ترتفع (تناقص التسهيل الكمي) في ذات الوقت الذي تعتدل فيه أسعار السلع –بفضل بطء الصين– إلى خلق مشكلات للدول النامية التي تستورد البضائع، خصوصًا التي اقترضت بشكل متهور.
بينما من المرجح أن يعتدل الإقبال الصيني على السلع، يجب أن تؤدي إعادة التوازن إلى زيادة في طلبها على المصنوعات والخدمات من الدول الأخرى النامية. وفي السنوات الأخيرة، ارتفعت الأجور الصينية بمعدل يتجاوز 10% سنويًا؛ وهي نسبة تتجاوز كثيرا أي نسبة أخرى في آسيا، حيث أصبحت الأعداد المفردة المنخفضة هي العرف. بالإضافة إلى التقدير الحقيقي الفعال لمعدل التبادل الصيني، والنتيجة هي تحول الصين إلى منتج عالي الأجر وسط الدول الآسيوية النامية.
وبالتالي، فإنها تفقد ميزتها النسبية في النشاطات كثيفة العمالة مثل صناعات الملابس والأحذية وتجميع الأجهزة الإلكترونية. هناك الآن فرصة لتطوير الدول النامية ذات الأجور المنخفضة لتدخل وتستحوذ على جزء من الحصة السوقية من الصين، إما عبر التصدير بشكل مباشر إلى الأسواق النهائية في الولايات المتحدة وأوروبا، أو عبر التصدير إلى الصين كجزء من سلسلة توصيل.
بما أن الصين لا يزال لديها فائض كبير وأن مرتبتها في سلسلة القيمة في ارتفاع، يعتبر ذلك التخلي عن الحصة السوقية في الصناعات كثيفة العمالة تطورًا مفيدًا؛ وهو تطور يعكس ما حدث سابقًا في اقتصادات مثل اقتصادات كوريا الجنوبية وتيوان. يجري ذلك التحول بالفعل، ويجب أن يكون حافزًا قويًا للدول النامية المجاورة لتطوير بيئاتها الاستثمارية وللحفاظ على سياسات جيدة على المستوى الاقتصادي الكلي، حتى تجني الفائدة الأكبر.
وعلى جانب الخدمات، تعزز الدول الآسيوية النامية على نحو سريع صادراتها من الخدمات السياحية إلى الصين. حيث سافر العام الماضي 100 مليون سائح صيني إلى خارج البلاد. في تصور ناجح لعملية إعادة التوازن، ليس من المرجح أن ينمو الفائض الصيني الخارجي كحصة من إجمالي الناتج المحلي الخاص بها، ولكن يظل من المتوقع أن يبقى قرب نسبة 3% من إجمالي الناتج المحلي سريع النمو.
في الوقت الراهن، يعتبر تدفق الأموال المضاربة النظير لحساب فائض ميزان المعاملات الصيني الجاري بشكل رئيسي. ولكن يمكننا بسهولة أن نتخيل تصورًا خلال عدة سنوات قادمة يكون فيه صافي التدفق من الاستثمار الأجنبي المباشر نظيرًا لفائض ميزان المعاملات الجاري لدى الصين.
تصعد الصين سريعًا كمصدر رئيسي للاستثمار الأجنبي المباشر. في البدء كان الكثير من استثماراتها في قطاعات الطاقة والتعدين، حيث تعتبر مستوردا كبيرا. ولكن الاتجاه الذي ساد مؤخرًا ينطوي على توسيع الاستثمار الخارجي الصيني في اتجاهات مختلفة؛ على الصعيدين الجغرافي والقطاعي.
سيأتي بالتأكيد بعض الاتصال بسلاسل التوزيع الصينية عبر الاستثمار الخارجي للمصنعين الصينيين. فبالمقارنة بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يعتبر الاستثمار الخارجي الصيني موجها بشكل أكبر نحو الدول النامية.
تخلق عملية إعادة التوازن الصينية تحديات للدول الأخرى النامية، ولكن مع فرص كبيرة أيضًا. وعلى الجانب الآخر، يبدو العالم في غياب إعادة التوازن الصيني أكثر تقلبًا. على المدى القصير، يرجح أن تظل أسعار السلع مرتفعة مع استمرار الاستثمار الصيني على قدم وساق.
ولكن معظم المعلقين يعتقدون أنه من غير المستدام استثمار 50% من إجمالي الناتج المحلي: فالعائدات المتقلصة المثبتة بالفعل أصبحت أكثر حدة على نحو متزايد. انخفض الجانب التجاري من الاستثمار الصيني بالفعل نتيجة العائدات الضعيفة.
يواجه الاستثمار المدعوم من الحكومة مشكلة ارتفاع المعدل الكلي للديون مقابل الناتج المحلي الإجمالي الخاصة بالحكومة على نحو سريع، رغم عدم كونه مقلقا بعد. أما تصور الهبوط فيشتمل على أن ينخفض الاستثمار بحدة في الصين وأن يتباطأ معدل النمو أيضا بحدة. كذلك ستهبط أسعار السلع على نحو أشد من تصورات إعادة التوازن.
يشتمل ذلك التصور أيضًا على هبوط قيمة سعر الصرف الصيني الخاضع للسوق: فإن هبط الاقتصاد بشكل حاد دون ارتفاع متناسب في الاستهلاك، فإن الميل سيكون لهبوط سعر الصرف ولتوسع فائض التجارة. في تلك الحالة، ستتشبث الصين بصادراتها الصناعية كثيفة العمالة، بدلًا من فتح ذلك المجال لدول أخرى. تمثل عملية إعادة التوازن الناجحة في الصين تصورًا أكثر جاذبية للعالم النامي.
التنافس والتعاون
تبدو المبادرات الاقتصادية الصينية الأخيرة كانتصار دبلوماسي لـ«بكين» وانتكاسة دبلوماسية لـ«واشنطن». بالتأكيد، تعاملت الولايات المتحدة بشكل سيء مع فكرة البنك الآسيوي للاستثمار. فقد مارست الولايات المتحدة بعض الجهود المعتدلة لصد بعض الحلفاء عن الانضمام، ثم تفاجئت بتفضيل حلفاء أوروبيين وآسياويين للمشاركة.
يجب أن تكون الولايات المتحدة مسرورة بتحمل الصين لبعض المسؤولية العالمية. ومع انضمام حوالي 60 دولة إلى البنك، من المرجح أن يتمتع البنك بإدارة ومعايير مشابهة لبنوك التنمية متعددة الأطراف القائمة بالفعل، ومن المرجح جدا أن يكون قادرًا على تحسين كفاءاتها من خلال المنافسة. فبدلًا من كونه تحديًا للنظام ذي القيادة الأمريكية، من المرجح أن يكون البنك إضافة محمودة للنظام القائم.
وبشكل أعم، تكشف ملابسات إنشاء البنك بوضوح أن الدول الآسيوية والأوروبية لا تريد أن تختار بين الصين والولايات المتحدة، وأنه ليس هناك أي سبب يدفعها لذلك. ارتكبت الولايات المتحدة خطأ في تعاملها مع ظهور البنك، ولكن لا يجب أن نبالغ في أهمية تلك الحادثة.
تبدو أمريكا الآن في موقف جيد لتكمل مفاوضات مبادرة الشراكة عبر المحيط الهادئ. وسيكون البنك الممول للبنية التحتية التي يمكن اعتبارها “الجزء المادي” من التكامل. ويحمل “الجزء المعنوي” ذات الأهمية –إن لم يكن أهم– وهو المشتمل على القوانين والقواعد التي تحكم التجارة الدولية والاستثمار.
تهدف الشراكة عبر المحيط الهادئ إلى توسيع التجارة إلى مجالات جديدة، مثل الخدمات، مع وضع الأساسات لتجارة القرن الحادي والعشرين. يجدر الإشارة إلى أن دول مثل أستراليا، ونيوزيلاندا، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، وفيتنام لا تتردد في المشاركة في المبادرات الصينية والأمريكية.
وهي الاستراتيجية الذكية بشكل واضح. فبالنسبة لفيتنام على سبيل المثال، يجدر بالتحول إلى البنك أن يحسن البنية التحتية، بينما يفترض بالمشاركة في إطار الشراكة عبر المحيط الهادي أن يتيح لهانوي الاندماج مع الاقتصاد الأمريكي الواسع والمبتكر.
هناك خطر أن تلك المبادرات المتنافسة سوف تؤدي إلى تطور الحواجز التجارية، ولكنني أظن أنه من المرجح بشكل أكبر أن النتيجة النهائية ستكون التعاون. حيث ستنتفع الصين للغاية من الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادي، لأنها لا تزال منغلقة في عدة قطاعات. كما ستنتفع الولايات المتحدة من الانضمام إلى البنك لأنه مؤسسة جديدة وهامة في المنطقة الأسرع نموا في العالم الاقتصادي.