“النحت في صخور الألماس” وتفخيخ التابوهات
كان هذا انطباعي الذي خرجتُ به من قراءتي الثانية قبل عامين لمسوّدةٍ أرسلها لي الصديق الروائي ميسرة الهادي، من روايته النحت في صخور الألماس التي فازت بالمركز الأول في جائزة دبيّ للإبداع الروائي عام 2013م، وصدرت مطبوعة هذا الشهر أغسطس/آب كهدية مع مجلة دبيّ الثقافية.
أيام حفل الجائزة نشرت مجلة دبي صورة من الحفل جمعت ميسرة الهادي (25 عامًا) بالروائي الجزائري المعروف واسيني الأعرج (60 عامًا حينها)، كان الأعرج ينظر للهادي نظرةً فيها قدرٌ واضحٌ من الغِبطة، وكأنه يقول له: «لقد أنجزتَ في سِنّك هذه ما كنتُ أتمنّى لو استطعتُ إنجازه وأنا في مثل سِنّك».
وبقيَ السُؤالُ عندي مُعَلّقًا: ما الذي أنجزه الهادي في روايته «النحت»؟ وحصلتُ على الإجابة في قراءتي الثالثة الأخيرة للرواية قبل أيام. هو لَم يمارس هواية الكثيرين مؤخرًا في «كسر التابوهات»، بل فعل شيئًا مختلفًا قليلاً. كان ما فعله ببساطة «تفخيخ التابوهات»!
تابو مكسور قد يجرحك
تابو قد يسبّب شدخًا لقناعاتك أو شرخًا لمبادئك. أما تابو مفخّخ؟
هذا قد ينفجر فيك ويطيحُ بكلّ شيء تستند عليه أو تتشبّث به. وأنت ونصيبك! في وجود القهر الكامن المتغلغل في كل شيءٍ من حولنا، وفينا أيضًا، تتجسّد معانيه وأداوته في قيودٍ وحدودٍ يحرُم الاقتراب منها. الجسارةُ حقًا أن تحاول كسرَها؛ لكنّ من الجنون أن تحاول تفخيخها، مختارًا أو مضطرًا.
من بين كلّ شخصيات الرواية -الذين تم اختزال أسمائهم وهويّاتهم في حروف يدل كل حرف على واحدٍ منها، تمامًا كما يتم اختزال البشر الآن في أرقام- لم تنتهِ شخصيةٌ واحدةٌ إلى انتصارٍ مُشرّف، بل خرجت كلّها مقهورة بفِعل فاعل، يتنوّع هذا الفاعل بين السُلطة (أبوية أو سياسية أو مالية)، وبين الدين والتديّن، وبين الجنس.
على غير المأمول في صورة الأب، جاء الأب في الرواية مضطربًا فاشلاً في إدارة حياته الزوجية، وإن كان مُحبًّا لأبنائه غيرَ مُستغلٍ لسُلطته الأبوية،إلا أن الأمور تصل به إلى أن يطرده الابن (بطل الرواية) على إثر اكتشافه لخيانة جنسية وقع فيها.
هكذا يُستبعَد الأب من حياة بطل الرواية وينزوي في بيت الجدّ القديم، لا زال الأب حاضرًا في وجدانه إلا أن صورته ملغّمة بالفشل الزوجيّ والخيانة، وقد تنفجر في وجه الجميع عند أول مواجهة، وإمعانًا في استبعاد صورة الأب المفخّخة تنتهي الرواية دون أن نعلم مصير الأب، في البداية ظننته عيبًا في حبكة الرواية، ألا تُنهي خطّ شخصيةٍ ما بتوضيح مصيرها، إلا أن خطّ القهر الممتدّ في وجداننا لصورة سُلطة الأب تمّت مقاومته بتفخيخ الصورة، وبتجهيل مصيرها.
فضائح الممارسة السياسية
واحدةٌ من فضائح الممارسة السياسية، التي يمكنك استنباط الكثير منها من تحليل تشارلز بيتز في كتابه (فكرة حقوق الإنسان). هذا ما تفعله الأنظمة من خلال أذرعها الأمنية، تواظب على تأكيد فكرة نفوذ السُلطة وقهرها، وليس تأكيد شرعيّتها.
حسنًا، (ليحتفظ كل نظامٍ سياسي بشرعية سُلطته، لن نتناقش في هذا الأمر، فقط هذا ما تفعله أذرعه الأمنية: قهرٌ وحبسٌ وانتهاكٌ وتجنيدٌ عُملاء في حالة الأنظمة السياسية المحليّة، وحبسٌ وانتهاكٌ أيضًا في حالة الأنظمة السياسية الأوربية ذات الديمقراطيات المستقرّة!).
في أحداث الرواية التي تدور قبل 14 سنة تقريبًا، تعرّض أخو البطل للاعتقال والتعذيب، وتكتشف بعد خروجه أنه تمّ تجنيده ليُرشد عن السلفيين. أيضًا تعرّض صديقه المدوّن الحقوقي للحبس والانتهاك الجسدي والجنسي المروّع، ليتمّ الإفراج عنه بعد عدّة أشهر مع تأكيد حنون من الضابط أن هذه كانت مجرّد «قرصة ودن مش أكثر».
أيضًا، على إثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول، ثم على إثر تفجيرات مترو أنفاق لندن، يتم اعتقال بطل الرواية وتعذيبه وانتهاكه من قبل الأجهزة الأجنبية هناك في إطار الحرب على الإرهاب، وبعد مساومات من أميرٍ خليجي ليعترف البطل بتبنّيه الجريمة مقابل مبلغ مهول، يرفض، ليخرج بعد فترة عصيبة تحفّه تحذيرات دبلوماسي مصريّ إنجازاته في تلك البلد تليق بقوادٍ محترف!
هذا ما يضعه ميسرة الهادي أمامك، هو لا يهاجم السُلطة السياسية المحلية أو الأجنبية أو أذرعها الأمنية مثلاً، ولا يكسِر صورتها، بل ولا يقدّم خطابًا هجوميًا أو عدائيًا ضدّها.. فقط هو يضعُ لكَ الفتيل مرفقًا بإطار صورتها، ولك الحريّة أن تشعل الفتيل أو تنزعه.
حالة الالتزام السلفي
إن لم تكن قد فعلتَ، فبالتأكيد تعرف أخًا أو صديقًا أو جارًا أو قريبًا مرّ بهذه التجربة. الكثيرون جدًا قد فعلوا، حقيقةً. في فترة من أحداث الرواية، ومن واقعنا القريب أيضًا، راجت حالةُ الالتزام السلفي المظهريّ: القميص الأبيض القصير (الجلباب)، صلوات الجماعة، السواك، كتاب الأذكار، والإرشادات والتعاليم فيما يخصّ التفاصيل الدقيقة جدًا لكيفية الوضوء وهيئات الصلاة وحركاتها، ودخول المسجد والخروج منه، وتقديس الوعّاظ السلفيين والتسليم بأقوالهم دون التدقيق في مرجعيتها أو منطلقاتها، وشيوع السلوك الاجتنابي للمجتمع، حتى داخل الأسرة الواحدة.
حسنًا، أنت هنا لستَ أمام نقدٍ لحالة الالتزام السلفي المظهري التي كانت شائعة حينئذٍ. فقط أنت أمام توصيفٍ دقيقٍ لتجربة بطل الرواية مع التديّن، التجربة التي بدأها بحالة رائعة من الخشوع والحرارة القلبية، أخذت تنسحب تدريجيًا مع انصياعه للتركيز المظهري السائد، والسلوك الاجتنابي الرائج، وعقدة الذنب واستحقاق العقوبة، لينتهي به الأمر إلى انتكاسة قاطعة.
لم يفعل ميسرة الهادي هذا مع حالة الالتزام السلفي المظهري فقط، وإنما كرّره مع الرؤية الصوفية الطوباوية للعالَم، التي ترى أن كلّ شيءٍ في هذا العالم علاجه الحُب. ترى الحضرات الصوفية، والأشعار العِرفانية، حتى في قلب أوروبا، ومع أول اختبارٍ يبيع صاحبُ الحضرة كلّ شيءٍ – بمعنى كل شيء-لأجل تأمين مستقبل أسرته، وينتهي إلى نهاية مأساوية.
أنت أمام ممارسة توصيفية لحالات من التديّن تحمل عوامل تفخيخها الذاتية، فقط كانت الحاجة تدعو إلى مَن يكشفها، وهو ما أظن أن الكاتب قد حاوله.
مشهدًا جنسيًا!
أمرٌ صادمٌ – عادة- أن تجدَ مشهدًا جنسيًا في رواية. ما رأيك إذًا لو وجدتَ نفسك أمام حِقبةً جنسية كاملة من حياة بطل الرواية؟
إمعانًا في القهر والانهزامية، صار بطل الرواية هكذا؛ بطل أفلام بورنو. لكنّه كأي عاهرة، يُطلَب ويُؤَجّرُ بالسّاعة، يتولّى تحريكه والتحكّم فيه شركة إنتاج متخصّصة في البورنو، تجرّب عليه مقويّاتها الجنسية، وتنتج به أفلامها، وتشغّله كـ«فتى ليل» يعمل دليفري جنسي حسب الطلب.
هل كان هذا باختياره؟
نعم، كان باختياره، ولكنه اختيار مُنسحقٍ مُنتَهَك لا يملكُ قدرة الأسوياء على تقييم الأمور أو اتخاذ القرار الملائم. بعدما خرج لتوّهتائهًا ضائعًا محطّمًا من السجن الذي تمّ فيه انتهاك آدميته،لجأ إلى زميله الشامي العربيد، وبعد وقتٍ بدأ يدخله معه في دوائر معارفه، لينتهي الأمر ببطل الرواية إلى الدور الذي ذكرته.
هل تظنّ نفسك أمام وجبة جنسية مثيرة؟
في حقيقة الأمر أنت أمام وجبة قهرٍ مريرة، تُطهى فيها أجسادٌ وتُنهَش فيها أرواحٌ وتُذبح لأجلها كرامة الإنسان. وتكتشف أن كثيرين من العرب المنسحقين يلجأون إلى هذا الطريق في البلاد الأوربية. والتقارير التي نشرتها الوكالات الأجنبية قبل فترة قصيرة عن تجارة جنس الأطفال العرب في أوروبا تعطيك لمحة من الصورة. والاحتفاء المُخزي ببطلة أفلام البورنو اللبنانية «مايا» قبله بأشهر.
لم تكُن الرواية تستشرف مستقبلاً، بل كانت تنقل واقعًا. الكلام عن الجنس ليس مثيرًا دائمًا، وإن كان الكثيرون يحلمون أن بكونوا مكان بطل الرواية.. الكلام عن الجنس قد يكون مفخّخا بمرارة القهر ووطأة الانسحاق.
النحت في صخور الألماس .. يالَه من اسمٍ رائق لافت معبّرٍ عن الرواية!
لكن لو كان لي أن أختار عنوانًا آخر، ويكون مألوفًا، لاخترتُ أن أسميها (الحب في زمن القهر). فكل شخصيات الرواية إما باحثون عن الحبّ أو فاقدون للحبّ، أو ضحايا أغبياء للحبّ. وليس ذلك إلا في سياقٍ متّصلٍ من القهر. في الاختيارات المضطربة والمصائر الباهتة.
حتى في الحوارات التي جاءت مباشِرة على مدى الرواية، لم يلجأ الكاتب فيها للرمز؛ لأننا نلجأ للرمز لتفادي عقاب أو قهر أو عوائق سُلطة ما، أو استجابةً لقهر مقدّسٍ ما، ويبدو أنه في روح حواراته المباشرة كان يحاول مقاومة هذا القهر الحقيقيّ أو المتخيّل، في حين تعرّضت شخصيات روايته لهذا القهر، الحقيقي والمتخيَّل.
أخيرًا، لا يبدو أن مسألة «التابوهات» هي الأكثر جلاءً في هذه الرواية، فهناك جوانب أخرى للاستشكاف والتأويل، والأخذ والردّ، أرى أن بعضها يستحق هجومًا ضاريًا على الكاتب، وبعضها الآخر يستحق الاحتفاء به. ولكن: ربما في مقام آخر.