الفلوجة: كي لا يخسر العراقيون معركة ما بعد داعش
هنا مدينة الفلوجة العراقية، على بعد 43 ميلًا من العاصمة بغداد،مساءَ الثامن عشر من أبريل 2003، يتجمع حشد صغير من مئتي شخص أمام مبنى مدرسة ثانوية متَحدِّين قرار حظر التجول المفروض في المدينة، يطلق الجنود الأمريكيون الذين يعتلون أسطح المبنى النار على المحتشدين فيقتلون سبعة عشر شخصًا، ويجرحون نحو سبعين آخرين، وحين تخرج مظاهرة أخرى يعد أيام تنديدًا بما حدث يُضاف إلى قائمة القتلى اسمان آخران.
بعدها بأقل من عام سيختطفُ متمردون من المدينة أربعةً من شركة بلاكووتر Black-water الأمنية المتعاقدة مع الجيش الأمريكي. يُقتلون ويُمثل بجثثهم ويعلقون على جسر المدينة الذي يعبر الفرات، وتطير الصور إلى وكالات الأنباء العالمية لتشكل صدمة للأمريكيين الذين سيقررون الانتقام على طريقتهم.
عُرف اسم الفلوجة منذ ذلك الحين مقترنًا بمعركتها تلك، عملية «شبح الغضب» كما أسماها الأمريكيون، تطلب الأمر حصارًا طويلًا وقصفًا عنيفًا وآلاف القتلى والجرحى، وتم تدمير نصف مباني المدينة تقريبًا حتى أعلن الأمريكيون نجاحهم أخيرًا في سحق التمرد، سلّموا بعدها مهام الأمن في المدينة إلى القوات الحكومية العراقية، ليبقى الوضع فيها هشًا كما كان في عموم مدن العراق إلى أن جاء العام 2014 بمفاجآته الكبرى.
كانت الفلوجة هي أولى المدن السنية الكبرى التي سقطت بيد تنظيم داعش، سقطت المدن بعدها تباعًا، تكريت والموصل والرمادي وغيرها. بدا لوهلة أن زحف داعش غير قابل للإيقاف، إلا أنه بعد شهور قليلة استحال شعار «باقية وتتمدد» إلى «باقية وإن كانت لا تتمدد»، لنصل إلى اليوم الذي صار الكثيرون يعتبرون زوال التنيظم – بوصفه دولة تحكم وتتحكم – أمرًا في حكم المؤكد على المدى المنظور. اليوم وبعد نحو عامين من سقوط الفلوجة بيد التنظيم، يبدو أن الحكومة العراقية – مدعومة بميليشيا الحشد الشعبي – على وشك استعادة المدينة مرة أخرى.
العبادي والفلوجة: الهروب إلى الأمام
بهذه العبارة على حسابه الرسمي على فيسبوك أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بدء معركة تحرير الفلوجة. كان القرار مفاجئًا، فعلى عكس مدينة الرمادي مثلًا التي كان خط سير عملياتها متوقعًا قبلها بأشهر، جاء إعلان البدء في عملية الفلوجة وسط فوضى سياسية شهدتها العاصمة بغداد داخل المعسكر الشيعي نفسه. إذ تم – ولأول مرة منذ الدخول الأمريكي للعراق عام 2003 – اقتحام «المنطقة الخضراء» شديدة التحصين، والتي تمثل مركز الحكم في العراق، من قِبَل متظاهرين موالين لرجل الدين العراقي مقتدى الصدر الذي طالب بتغييرات جوهرية في تركيبة الحكم في البلاد. تزامن ذلك مع تزايد كبير في وتيرة وشدة عمليات التفجير التي ينفذها داعش داخل مناطق العاصمة. وفي اللحظة التي بدت فيها الحكومة العراقية عاجزة عن السيطرة على العاصمة نفسها وفي القلب منها منطقتها الخضراء، كان رئيسها يعطي إشارة البدء لعمليات الفلوجة، فكيف يمكن تفسير ذلك التناقض الظاهري؟
يري رينيه جيرار في كتابه «العنف والمقدس» أن العدو – كمفهوم مجرد – يلعب دور الأضحية التي يكون دورها أن تحرف اتجاهات العنف الجماعي نحوها، كما أنه يعيد بناء لُحمة الجماعة ويعمق الأواصر والروابط ضمنها، ومن ثم فإن الساسة يحتاجون إلى العدو، يحسنون استغلال وجوده، أو يصنعونه. يمكن إذًا بالقياس قراءة خطوة العبادي على أنها هروب للأمام، ووسيلة ذكية لتفادي الخلافات الداخلية التي تعصف بحكومته – أو على الأقل تأجيلها – وفي حال نجاح قوات الأمن العراقية في تخليص المدينة من داعش بدون خسائر كبيرة، وبدون السماح بعمليات انتقامية من المدنيين على غرار نموذج تكريت، فإن تلك ستكون نقطة قوة أخرى تعزز من قدرة العبادي وحكومته على الصمود، كان العبادي بحاجة إلى إنجاز من أي نوع، وربما يجد إذًا في طرد داعش من الفلوجة إنجازه المنشود.
لا يمكن كذلك إغفال الدوافع العملياتية والإستراتيجية لمعركة كهذه، إذ يري البعض أن الفلوجة القريبة من بغداد هي حديقة داعش الخلفية التي تتيح له تنفيذ تفجيراته الدامية في قلب العاصمة؛ فضلا عن جانب آخر متعلق بتأخر انطلاق عملية تحرير الموصل، فبعد نجاح القوات العراقية في طرد داعش من الرمادي نهاية العام 2015، بدأت الأحاديث والتصريحات تتوالى عن «معركة الموصل» الكبرى التي سيجري فيها إخراج التنظيم من ثاني أكبر مدن العراق وقلعة حكمه فيها. اليوم وبعد مرور ستة أشهر لا يبدو أن تلك المعركة ستتم في القريب العاجل. تشير التوقعات إلى أن الاستعدادات لتلك المعركة لن تكتمل إلا بحلول نهاية العام، يكون العراقيين إذًا قد لجؤوا إلى ملء الفراغ الزمني بين معركتي الرمادي والموصل باستعادة الفلوجة، وإن كان البعض يتخوف من أن يؤدي ذلك إلى تشتيت قدرات القوات العراقية وإنهاكها قبل المعركة الكبرى.
خوف مبرر: هل أتاك نبأُ تِكريت والرّمادي؟
أثبت العراقيون مؤخرًا قدرتهم على استعادة الأراضي من داعش، لكن مرحلة ما بعد استعادة الأرض لم تكن بالجاذبية الكافية. نتحدث هنا عن نموذجي تكريت والرمادي كمثال؛ في تكريت التي قادت ميليشيا الحشد الشعبي جهود استعادتها منتصف العام الماضي،جرى الحديث عن عمليات سلب ونهب واسعة النطاق، هُدّمت الكثير من المنازل ومنع أهالي المدينة من العودة لمدينتهم لشهور طويلة.
في المقابل لم يلعب الحشد الشعبي دورًا كبيرًا في معركة الرمادي، نجحت قوات الأمن العراقية في استعادة المدينة من قبضة التنظيم أواخر العام 2015. عفوًا، سنكون أكثر دقة إذا قلنا : «ما تبقى من المدينة»، إذ أن الاقتتال الطويل قد أدى إلى تدمير مروِّع للبنية التحتية للمدينة. أوضح تقرير للأمم المتحدة أن المعارك المستمرة قد ألحقت الدمار – بشكل جزئي أو كلي – بنجو 4500 مبنًى، واصفة الدمار الذي لحق بالرمادي بأنه «لا يقارن» بالدمار الذي لحق بمدن العراق الأخرى.
يبلغ حجم القوات العراقية المشاركة في عمليات الفلوجة نحو عشرين ألفًا، موزعين على القوات الحكومية العراقية، وقوات «الحشد العشائري» التي تتكون من عشائر الأنبار السُنّية والتي يفترض أن تسيطر على الأرض بعد إخراج داعش، وقوات «الحشد الشعبي» المشكّلة من فصائل شيعية ائتلفت تحت نداء المرجعيات الشيعية وتتلقى الدعم من إيران، ويدور حديث عن مشاركة إيرانية واضحة هذه المرة يقودها الجنرال قاسم سليماني نفسه. ثمة مخاوف من أن تقوم الأخيرة بعمليات انتقامية مشابهة لما حدث في تكريت قبل نحو عام، لن يتلقى الحشد الشعبي دعمًا من طيران التحالف، ويفترض طبقًا لما رشح من التصريحات أن يقتصر دوره على الأرياف المحيطة بالمدينة دون الدخول إلى عمق الفلوجة، منعا لإثارة الحساسيات، حيث يمنع وصول التعزيزات إلى قوات داعش المحاصرة، فيما تقوم القوات الحكومية بتحرير الأرض بمساندة طيران التحالف.
إنسان العراق المستباح
بالنسبة لآلاف الأسر التي ما تزال عالقة في المدينة، فإن السيناريو الأكثر رعبًا هو أن يُقتل أبناؤها في عمليات القصف العشوائي من الأرض أو الجو، من يحاول الخروج يفتك به مقاتلو داعش، فهم لا يرغبون في أن تخلو عليهم المدينة فيصيروا لقمة سائغة، ومن ينجح في تجاوز عقبة داعش يفتك به المحاصِرون المنتقمون، ومن ينجح في تجاوز تلك العقبات فليس له من مأوًى في غيرها من مدن العراق، إذ لا أحد يرحب بأولئك الخارجين من الجحيم، سيخرجون إذًا من سجن صغير إلى سجن كبير، هذا هو الكابوس الحقيقي الذي يتخوف منه أهالي المدينة ومن يهتم لأمرهم،وهو كابوس ليس من محض الخيال تمامًا كما ذكرنا في النماذج السابقة.
في دراسته الشهيرة «ا لإنسان الحرام: السيادة والحياة العارية»، يطرح الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبيون نموذج تعامل السلطات مع حالات الطوارئ، حيث يتم تجريد الأشخاص من صفتهم القانونية تمامًا، حتى بوصفهم مجرمين أو أعداء، ليجري التعامل معهم بمنطق استثنائي خارج حدود القوانين والقواعد المعمول بها، تصير حقوق الفرد وحياته مستباحة بلا ضابط أو رابط بدعوى الحفاظ على النظام العام، وهو ما سمّاه «حالة الاستثناء»، ويمثل لذلك بأولئك الذين احتجزتهم الولايات المتحدة دون توصيف قانوني محدد عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر باعتبارهم إرهابيين أو إرهابيين محتملين، ولم يخضعوا حتى لما يقتضيه القانون الأمريكي من إجراءات محاكمة المتهمين والمجرمين.
بإسقاط الأمر على الحالة العراقية، يمكن القول أن من الخطأ تمامًا اعتماد منطق «الاستثناء» هذا في التعامل مع المناطق العراقية المنكوبة بسيطرة داعش، من شأن التعامل مع سكان تلك المناطق بوصفهم «إرهابيين محتملين» ومن ثم الاستهانة بأرواحهم – باتباع سياسة القصف العشوائي مثلا، أو الاعتقال التعسفي لأولئك الهاربين من جحيم الحرب، وغير ذلك من الإجراءات غير المحسوبة أو المحكومة بدوافع الانتقام – من شأن ذلك أن يعمق من الصدع الطائفي بين المكونات العراقية، وهو العميق أصلا، ويزيد الشعور بالاغتراب بين عدد كبير من المتضررين، ومهما تاخرت استحقاقات هذا الشعور، فإنه بلا شك سيؤدي إلى عواقب وخيمة على مستقبل العراق والمنطقة ككل.
بمعطيات المنطق والواقع، سيخرج داعش من الفلوجة، إن لم يكن اليوم فغدًا،أو بعده، فليس التحدي إذا هو أن يخرج، بل أن نمنع ظهور داعش أخرى بعد الخروج،تتغذى داعش على الشعور بالاغتراب كما ذكرنا، تتمدد في فراغه الشعوري وتعيد تأطير إشكالات الفرد الخاصة في نموذجها الجمعي، ومن ثم فإن الوسيلة الأبرز لهزيمتها هو ملء ذلك الفراغ، لا تثبيته وتغذيته بإجراءات أو شعارات طائفية.
ستنتهي معركة الفلوجة غالبًا، وسيخرج داعش منها كما خرج من غيرها،لكن سيبقى سؤال المستقبل الحائر قائما إلى حين، لا نريد داعش أخرى غدا؟ فليكن، لنمنع اليومَ حدوث تكريتٍ أُخرى. قد يبدو الحديث عن دولة المواطنة في ظل الواضع الراهن والهستيريا الطائفية المتبادلة ترفًا مثيرًا للسخرية، لكنه ترف لا نملك غيره، ولا نعدم الحديث فيه، طالما أن البديل أكثر كارثية بمراحل، لا يقتصر الهدف هنا عن منع ظهور داعش جديدة فقط، وإلا كان هذا منطقا أنانيًا، يرى النفس ويعمى عن الآخرين، بل لأنه من حق الناس ابتداءً أن يحيوا حياة مصانة هادئة، وألا يحاسَبوا بالظِّنة أو أن يكونوا هدفًا لانتقام أو صراع أعمى لا ذنب لهم فيه.
- عبارة رينيه جيرار منقولة عن كتاب "صنع العدو"لبيار كونيسا