الشك الذي أخافني
“ماذا تفعلون عندما يتملككم الشك؟! العام الماضي عند اغتيال الرئيس كيندي مَنْ منا لم يشعر بالتضليل الشديد؟! اليأس؛ أي طريق؟! ماذا الآن؟! بِمَ أبلغ أطفالي؟! بِمَ أخبر نفسي؟! الناس كانوا يتكاتفون آنذاك، يتشاركون يأسًا واحدًا، يأسك كان رباطك برفيقك، كانت تجربة عامة، كانت فظيعة ولكن خضناها معًا”الأب فيلين
فيلم doubt هو فيلم من إنتاج 2009، وبطولة: ميريل ستريب وفيليب سيمور هوفمان وإيمي آدم وفيولا ديفس. رشح لخمس جوائز أوسكار، الأربع الخاصة بالتمثيل بالإضافة إلى جائزة السيناريو المقتبس. لم يحصل الفيلم على أي جائزة من بينها لأسباب لا يعلمها إلا الله.
قصة الفيلم
الفيلم يتحدث عن أحداث عاصفة حدثت في أبرشية، بطل هذه الأحداث هو (الشك). الشك الذي تحدث عنه الأب فلين في عظته؛ الأمر الذي لم تتقبله الراهبة الكبرى، فشكت في إيمان الأب فيلين، واستغلت بالفعل موقفا معينا لتحول شكها في أن الأب يعتدي جنسيا على طفل أسود إلى يقين. وعندها بدأت حربها لإبعاد جرمه عن الأبرشية. لكن الأخت جيمس تشك في ذلك، فهناك شواهد ضد الأب فعلا وهناك شواهد تبرئه. ينتهي الفيلم بترقية الأب فيلين لأبرشية أكبر ليبتعد عن تلك الأبرشية. بينما تعترف الراهبة الكبرى باكية للأخت جيمس بأن لديها هي الأخرى شكوك. وينتهي الفيلم كذلك وشك المشاهد لم ينته: من الذي اعتدى على الطفل؟
Doubt فيلم مخيف
“يا مَنْ تحضرون الآن في الكنيسة وتعون جيدًا أزمة الإيمان التي أصفها، أريد أن أقول لكم: الشك قد يكون رابطًا قويًا ومؤثرًا تمامًا كاليقين، عندما تضل فأنت لست بمفردك”الأب فيلين
اعتبرت الفيلم بعد مشاهدته ثلاث مرات تقريبا فيلما مخيفا، أي شيء يشبه الحياة المخيفة. فالفيلم يشبه حياتنا التي تملأها الشكوك التي تحيط بنا من كل اتجاه سواء في ما نعتقده أو نتطلع إليه. لا يقين. فقط الشك هو المسيطر علينا. الفيلم لا يجعلك تخرج منه إلا شاكًا؛ فلن تستطيع الإجابة على سؤال من الذي اعتدى على الطفل؟ حتى عندما تصل لاحتمالين للمعتدي على الطفل، فستجد فجأة الكاميرا تتحرك على أحد التلاميذ وهو يبتسم ابتسامة من المفترض أن لا يبتسمها في هذا الوقت بالذات. ما معنى هذه الابتسامة؟ عندها سترتعب حقا من تلك الابتسامة لأنها ستضيف إليك احتمالا جديدا بقصة جديدة.
الأب فيلين (فيليب سيمور هوفمان): هو الشخصية الأنضج في هذا الفيلم. فهو شخص منفتح ومتسامح. تجد الرهبان يجلسون معه يشربون الخمر. يسمح بموجات الشك ويناقشها كجزء منها وليس محاربا لها. يحبه التلاميذ ويجلسون معه ولا يخشى السخرية من القساوسة أمامهم.
الفيلم يضعه موضع شك ليكون هو المعتدي على الطفل؛ ولكن هذا لا يمنع أنه نموذج للحكمة. فهو برغم كل شيء لا يريد البوح عن أي شيء يخص الطفل. يريد الحفاظ عليه. تشعر (وهذا مشكوك فيه أيضا) أنه يعرف كيف يدافع عن نفسه؛ ولكنه لا يريد العصف بحياة الطفل. يترجى الراهبة الكبرى أن تتصف بالعقل والحكمة التي تفقدها حتى لا يؤدي ذلك لضياع حياة الطفل وإدخال الأبرشية أيضا في دوامات شديدة.
الراهبة الكبرى (ميريل ستريب): تجلس معها الراهبات أثناء العشاء بوجوه عابسة، لا سخرية ولا كلام لطيف ولا شرب للخمر؛ فقط الألبان الموضوعة بنظام على مائده منظمة. الراهبة شخص قاس، تحمي نفسها من الشك باليقين. تظن أنها وقعت في الخطيئة ولا تريد السماح لآخر بالوقوع فيها. اليقين ليس يقينا حقيقيا، هو مصطنع لضمان الأمان النفسي، حتى تنظيم السفرة هو مجرد شعورها أن كل شيء يسير وفقا للنظام. النظام الذي لا تؤمن به برغم ادعائها ذلك. فهي تدعي أن قوانين الكنيسة يجب أن تطاع؛ وبرغم ذلك تخفي خبر فقدان بصر إحدى الراهبات حتى لا تطرد. هي لا تؤمن بالنظام، هي تؤمن بالجزء الخاص من النظام الذي يشعرها بالأمان.
أنت لا تعلم هل تتعاطف معها أم لا؟ فمن ناحية هناك شواهد قوية مع القس وعليها حماية الطفل فعلا. ومن ناحية ترجمت الشكوك إلى يقين يجعلها لا تنظر للأشياء الأخرى ولا لكلام القس الذي بدا مقنعا أو كلام أم الطفل المغلوبة على أمرها. لا تريد لشيء أن يعصف بروحها. لا تريد أن تكون لها روح. لحظات الضعف بالنسبة لها اختلال لموازين النظام.
الأخت جيمس (إيمي آدم): ربما هي أطيب قلب فعلا وأكثرهم براءة. ولكن هل البراءة شيء جيد في المطلق، أم أن البراءة غالبا تعني عدم نضج؟ فتقييم الموقف ووزنه ومحاولة معالجته ربما لا يجب أن يكون من يقوم بذلك بريئا. فالطفل بريء، ولذلك هو طفل؛ أما حين يكبر فستختفي البراءة تدريجيا وتحل محلها هموم الحياة.
إنها السبب الأول لتلك المشكلة؛ فهي أول من علمت بضيق الراهبة الكبرى من خطبة الأب فيلين عن الشك. وهي أول من أخبرت الراهبة عندما رأت دليلا على الأب فيلين. لم تصبر ولم تتحرَ ولكنها لجأت للصراخ. رغم خشونة الراهبة بشكل عام، لكنها تعاملت بحكمة مع الأخت جيمس. وأثناء الصراع ما بين الراهبة والأب كانت الأخت جيمس تريد أن تريح نفسها وحيرتها بطرق ساذجة. فعندما يقول الأب تبريرا ساذجا تقتنع بهذا التبرير على اعتبار أنه أراحها نفسيا، وعندما تقول الراهبة لها أنها لا تصدقه تدخل في دوامات أخرى وهكذا.
أم الطفل (فيولا ديفس): أحداث الفيلم تدور في زمن اضطهاد السود. الأم التي تريد إنقاذ ابنها من أبيه الذي يكرهه ويضربه دائما. وتريده أن يكمل تعليمه حتى يجد ضمانا ما في حياته، حيث لا ينقذ الفقراء سوى التعليم. فعندها اختارت قبول احتمالية اعتداء الأب أو أي شخص آخر على ابنها لعدة شهور إلى أن ينتقل لمرحلة تعليمية أخرى. إنها الأم المقهورة التي يصبح مجرد التفكير في الانتهاك الجسدي لابنها ترف لا تستطيع الوصول إليه. ربما تنظر إليها وتقول: ما هذه الأم التي تعلم أن ابنها يعتدى عليه ومع ذلك تتركه؟ ثم تسأل نفسك أي جحيم أوصلها لهذه الدرجة؟ الشك هو الذي يجعل الخطأ محتملا، والفضيلة ربما مكروهة.
سينما Doubt
هو فيلم متقن الكتابة، حيث يحيط القصة بهالة من الشكوك، يتعامل معها كل من أبطال العمل حسب مرحلة نضجهم. فالبريئة الأخت جيمس تعاملت بسذاجة فأشعلت المشاكل بلا حكمة. والراهبة تعاملت بنضج أكثر من جيمس برغم حماقتها وجبروتها. أما الأب فيلين، فبرغم احتمال أن يكون هو المعتدي ولكنه أكثرهم حكمة، حتى لو كان معتديا على الطفل، ومرتكبا من الآثام الكثير. فالآثام لا تحدد درجة النضج. فأغلب القتلة على درجة عالية من النضج.
الشك هو المحيط بحياتنا، هو الذي ينضجنا. أدعي أن كل مرحلة انتقالية تسبق النضج هي مرحلة الشكوك، فالإنسان ينتقل من اليقينية للشك، وعندما يشك يصل لما هو أكثر نضجًا، أو على أقل تقدير ينتقل من مرحلة لمرحلة.
الشك لا يؤدي لليقين بل يؤدي للإيمان أو عدمه؛ فأنا مؤمن أن الأب فيلين يريد حماية الطفل، وأن المعتدي عليه جنسيا هو زميله الذي ابتسم عندما غادر الأب فيلين الكنيسة. هذا ما قررت الإيمان به وأعلم أنه ربما يكون خطأ بشكل كامل، مثل كل شيء نؤمن به في الحياة تقريبا.
ملحوظة: الأخت جيمس شخصية حقيقية، هي من روت هذه القصة، وهي قصة حقيقية.
“لا أحب إلقاء كلمات الوداع، ولكن ثمة ريح وراء كل واحد منا توجهنا خلال حياتنا، لا نراها أبدًا، لا نستطيع تسخيرها، حتى أننا نجهل هدفها. كنت لأبقى معكم لفترة أطول ولكن تلك الريح تدفعني بعيدًا، سأشتاق لهذا المكان، سأشتاق إليكم، ولكني راضٍ بأن القوة التي تدفعني تفعل ذلك بمعرفة واسعة إلى ما هو أفضل، ذلك هو اعتقادي”الأب فيلين في خطبة الوداع
* فريق شغف هو فريق يهدف لتغيير الوعي عن طريق السينما ومناقشة الكتب، تعلمت معهم الكثير، وهذا المقال هو ما توصل إليه الفريق من وجهة نظري، أثناء تحضيره لعرض الفيلم.