الحركة الإسلامية والقيادة الاجتماعية (2 -2)
وبدا غباء وقصور نظر الجيوب المسلحة خلال الثمانينات والتسعينيات مُثيرًا للتساؤل. إذ كان حجم العنف المرتكب حينها كافيًا جدًا لنقل السلطة من فلكٍ إلى فلكٍ جديد تمامًا، لكنه كان عُنفًا عشوائيًا اعتباطيًا بغير استراتيجيةٍ واضحة، بل تمكَّنت الدولة من توظيفه لدعم سُلطتها الأمنية. كما كان اندماج الإخوان، وغيرهم من المسيَّسين؛ في اللعبة السياسية انبطاحًا عشوائيًا بغير استراتيجية حقيقية، وهو الحضور الذي استخدمته الدولة لدعم شرعيّة نظامها السياسي المهلهل.
وأسهم تهافُت الإسلاميين في تيسير مهمة النظام في ضرب بعضهم ببعض، بالإضافة لتقويض كل النماذج الفرديّة التي كانت مؤهلة للعب دور قيادي ما في الحركة الإسلامية (المحلاوي وعبدالحميد كشك وحافظ سلامة على سبيل المثال)، وساعدها على ذلك قصر نظر الإسلاميين المؤدلجين وتواطؤهم بالسكوت، لضيق أصحاب كل حزبٍ بمن خالفهم ورغبتهم في إزاحته. صحيح أن المحلاوي وكشك كانا باﻷصل قيادات منبرية لم تُختبر قدرتهما على تنظيم الجماهير، بعكس حافظ سلامة، الذي اضطلع بقيادة المقاومة الشعبية في السويس؛ لكن الانتقال من القيادة المنبرية إلى القيادة الاجتماعيّة لم يكن مستحيلًا، خصوصًا في ظل امتلاك هؤلاء الشيوخ للقدر الضروري من البصيرة والموهبة الدعوية جنبًا إلى جنب مع القدرة على تعبئة الجماهير نفسيًا وتوجيهها.
لقد توهَّم الإسلاميّون اليعاقبة عُبّاد الدولة، سواء المسيّسين أو المسلّحين؛ إمكان القفز على قمّة الهرم الاجتماعي بمجرَّد القفز على قمّة الهرم السياسي، سواء مُتسللين تحت جُنح الديمقراطية أو بتقويض وإزاحة رأس النظام من قمة الهرم؛ وهي سذاجة شديدة تشي بالجهل التام بالطبيعة الإنسانية وبطبيعة الاجتماع الإنساني وماهية الدولة الحديثة. هذه الرؤية الاختزاليّة للاجتماع الإنساني وربطه الحتمي بالدولة، بل واعتبار المجتمع والدولة شيء واحد؛ هو الذي أدى بالإخوان لمحاولة إحلال نُخبتهم الاجتماعيّة الرأسماليّة محل النخبة القديمة، حين وصلوا لكرسي الرئاسة؛ وذلك بغير بناء تحالُفات اجتماعيّة حقيقيّة تسمح بهذه القفزة أو تسوِّغها، وهو ما تم تحت تأثير سوء فهمهم للتجربة التركية ومن قبلها للناصريّة.
كان نجاح حزب العدالة والتنمية التركي في عقد تحالفات اجتماعية حقيقية، تُغيِّر معالم الهرم الاجتماعي لصالحه؛ تتويجًا لعقود من نشاط دعوة فتح الله كولن وجيله، التي أدت لهجرات شابّة كثيفة من الأناضول باتجاه الغرب، وتشكَّلت بها طبقات اجتماعيّة مدينية جديدة من التجار والتكنوقراط ورجال الأعمال الأكثر محافظة، وإن تقاطعت مصالحهم مع مصالح الطبقات الكمالية القديمة. لقد كان ارتباط الحركة الكثيفة وطويلة الأجل للإسلاميين الرأسماليين في مجال الأعمال بصورة من التديُّن الصوفي، صاحب الوجود الاجتماعي المترسِّخ والمتغلغل في سائر الطبقات التركيّة؛ هو أداة بناء الإسلاميين لتحالفاتهم الاجتماعيّة الجديدة ومن ثم لقاعدتهم السياسيّة. وهي حركة استلحقت بها سياسيًا أكثر الطبقات ذات الولاء للعلمانية الكمالية؛ خصوصًا حين صارت الرأسمالية “الإسلامية” أكثر مقدرة في التعبير عن المصالح الدنيوية لجيلٍ كاملٍ من الأتراك بكافة أطيافهم. لقد نجح الإسلاميون الأتراك لأنهم صاروا أكثر مقدرة في التعبير عن توق المجتمع للانعتاق من ضيق الكماليّة إلى “رحابة” الفردوس الاستهلاكي الموهومة. لم ينجحوا في الاحتفاظ بالسلطة بسبب عدائهم الأيديولوجي للكمالية، بل لقدرتهم على المزايدة عليها؛ لأنهم مثّلوا الصوت الأقدر على تجاوز الكمالية كمركز إلى سيولة عالم الشركات العابرة للقارات. لقد تغلَّب الإسلاميون الأتراك على الكماليين لأن مُعدَّلات العلمنة البنيوية للمجتمع التركي على أيديهم فاقت عشرات المرات مُعدّلات علمنة الخطاب والسلوك الكماليين طوال ما يزيد على الستة عقود. وإذا كان الإسلاميون الأتراك هم التعبير الاحتجاجي الأمثل عن ضيق الشعب التركي بالفاقة والفساد وانعدام الكفاءة الذين مَثلتهم الكمالية المترهِّلة، فإن سقوط هؤلاء الإسلاميين قرين ذوبان ما بقي من المركز الكمالي، وولوغ الدولة التركية كليًا في حمأة الحضارة الاستهلاكية. وقد أفرز النموذج التركي بالتبعية قياداته السياسية التاريخية، التي ارتقت سلم الهرم داخليًا بشكل طبيعي؛ لتصير امتدادًا واطرادًا حقيقيين للقيادة الاجتماعية الصوفيّة/الدينية، التي واجهت الكمالية طويلًا بعيدًا عن المجال السياسي. لكن مسار الحزب الإخواني المغلق منذ السبعينيات مُناقِض للمسار التركي بعمق، برغم بعض التشابُهات الظاهريّة، والهامشيّة؛ التي حاول بعض تجار الإخوان تضخيمها لتصلُح للقياس.
***
إن أكبر أزمة تواجهها الحركة الإسلامية حاليًا، وفي مرحلة ما بعد رابعة؛ ليست هي الغياب المطلق للقيادة الاجتماعيّة، سواء بمطاردة بعض المرشّحين لها أو باعتقالهم؛ لكنها الهجرة المحتملة لهذه القيادات إلى خارج مصر، على غرار ما حدث في 1965، وما بعدها. فعلى إثر ضرب عبدالناصر لجماعة الإخوان واعتقال قياداتها؛ هرب من بقي من القيادات الهامشيّة والفرعيّة إلى الكويت والسعوديّة لتنتقل معهم قيادة الحركة الإسلامية من مصر إلى الخليج، وتترسَّخ قيادة السعوديّة للحركة الإسلاميّة وتشرع من ثم بتصدير نموذجها إلى كل أنحاء العالم طوال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بدءًا بالمنظمّات الإسلامية “العالمية” ومرورًا بالبنوك والجامعات الإسلامية وانتهاءًا بالشبق الاستهلاكي الملازم لبعض مظاهر الهدي الظاهر. لقد أعادت السعوديّة صياغة الحركة الإسلامية وشرعت من ثم بتصدير نموذجها السوسيومعرفي الجديد إلى مصر في مرحلة تشظي الحركة، من خلال نماذجها السياسية والاقتصادية الجديدة؛ المتمثِّلة في رجال الأعمال والتجار والمهنيين الإخوان أو الدعاة والقُصّاص السلفيين. وإذا كان الانحصار النسبي للحركة الإسلامية في جماعة الإخوان، حتى الستينيات؛ قد سمح للسعودية بالسيطرة النسبيّة على كافة أطياف الحركة طوال عقد السبعينيات، فإن انتصار الثورة الإسلامية في إيران وبدء الجهاد الأفغاني ومن بعدهما حادث جهيمان؛ قد هددوا قيادة السعوديّة للحركة الإسلامية بشكل واضح، واضطروها لاختلاق ظهير معرفي وأكاديمي جديد يُلبّي كافة احتياجاتها السلطويّة. إذ لم يعُد تصدير النموذج السلفي التقليدي كافيًا، إن لم يكُن مؤذيًا؛ كذا لم يعُد العبث السوسيومعرفي بأيديولوجيات الإخوان وجماعت إسلامي، أو حتى إغراقهما بالمال؛ يكفي لضمان استمرار تسلُّط السعوديّة على قيادة الحركة الإسلامية، إذ أن تفتيت الحركة وتشظيها، الذين حرصت عليهما المملكة؛ قد أثمرا ما لم تشتههِ، بل أثمرا ثمارًا مُرَّة تمثَّلت في تنظيماتٍ راديكاليّة استعصت سيطرة السعودية عليها، وإن أفادت من غلوّها في دعم صورتها كقيادة “مُعتدلة”!
وقد أسهمت هجرة الأستاذ محمد قطب وجيله إلى السعودية، منتصف السبعينيات؛ في إفراغ الساحة الدعوية والقيادية في مصر أمام النفوذ السعودي، ومن وراءه جماعة الإخوان الثالثة مدعومة من السادات (لمزيد من التفاصيل؛ راجع مقالنا: “الإخوان المسلمون جماعة أم جماعات”؛ بأجزائه الثلاثة)، بالإضافة لبعض الجيوب السلفية والجهادية التي بدأت تنمو على استحياء تلبية لحاجات اجتماعيّة مُلحّة عجز الإخوان عن الوفاء بها، ناهيك عن تفاقُم السلطة العلمية والمرجعية النظريّة للشيخين الغزالي والألباني. لقد كانت هجرة مُحمَّد قُطب تتويجًا لعمليّة انتقال قيادة الحركة الإسلامية كُليًا من مصر إلى السعوديّة، معرفيًا وحركيًا ودعويًا؛ ولم يظهر في مصر من حينها مُنظِّرٌ جاد أو قيادة اجتماعيّة حقيقية للحركة الإسلامية، بل ربّما انعكس ذلك الانتقال على قمّة الهرم السلطوي؛ بانتكاس النظام المصري وتقلُّص دوره إلى التبعيّة السياسيّة والاقتصاديّة للسعوديّة منذ ذلك الحين.
وإذا كان ثم فارق بين هجرتي الإسلاميين، في الستينيات إلى السعوديّة وبعد رابعة إلى تُركيا؛ فهو أن قيادات الإسلاميين المهاجرة اﻵن لا تُمثِّل قيادة حقيقية للحركة الإسلامية، بعكس ما سَهُل على الإسلاميين المهاجرين ادعاؤه وتمثيله في الستينيات؛ لكنها تُمثِّل بعض التنظيمات والأحزاب (الحركات) ذات القواعد المحدودة والجماهيرية المضطربة، بما فيها الإخوان؛ ولا تُمثِّل بالضرورة الجسم الأكبر والأكثر استقلالًا من الحركة التي تحرَّرت، بدرجةٍ ما؛ من التنظيمات الحزبيّة القُطريّة بعد 2011. صحيح أن علو صوت هذه الجيوب المهاجرة قد ينخدع به بعض السُذَّج، إلا أن قُدرة الأتراك على استثمار مثل هذه الهجرة محدود برغبة أردوغان وشخصه، وهو ما لا يتجاوزه إلى أغلبية حزبه، ناهيك عن الرأي العام التُركي؛ بعكس الوضع السعودي في الستينيات. وصحيح أن رغبة أردوغان وقدرته على الإفادة من هذا الوضع قد تبرُز بجلاء في لحظاتٍ نماذجيّة، لكنها تعود وتنتكس إلى منطق الدولة وعقد الرفاه الذي أوصل حزبه للسلطة، ومن ثم لزمهم الحفاظ عليه وتنمية ثقة الناخب في قدرتهم على الوفاء به. بعبارةٍ أخرى؛ فإن طبيعة النظام السياسي الجمهوري في تركيا، خصوصًا بعد الانتخابات الأخيرة التي فقد فيها حزب العدالة أغلبيته البرلمانية؛ تحول دون توظيف أردوغان لهذا الوضع على الشكل المرغوب، على عكس السلطة اللامحدودة والموارد الغزيرة التي تمتَّع بها النظام الملكي في السعودية.
لكن ذلك كله لا ينفي خطورة هذه الهجرات على عمليّة استعادة المصريين لقيادة الحركة الإسلامية، وهو أمل تجدَّد بعد 2011؛ وهي الفرصة التي قد يؤدي تضييعها لانتكاس الحركة الإسلامية مرة أخرى لجيل قادم، كما انتكست في الجيل السابق بسبب الهيمنة السعوديّة. وإذا كانت الظروف الداخلية في مصر، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا؛ أبعد ما تكون عن التهيؤ لاستعادة قيادة الحركة الإسلامية، فإن أمل القيام بدور الحاضن المعرفي لجيلٍ تالٍ تنتقل له قيادة الحركة الإسلامية لا زال مُمكنًا من خلال تبلور قيادات اجتماعيّة حقيقية تلتزم بدورها الدعوي-التربوي بين الجماهير، بغير صدامٍ مُباشرٍ مع الدولة، ولا تحالُفٍ من أي نوع. بل أن تسعى لإحلال المجتمع مكان الدولة حيثما انسحبت، أو إزاحة بعض أذرع اخطبوطها الميّتة بهدوء من خلال تعزيز وتمكين سلطة جماعات وسيطة جهويّة مُتعددة الأنشطة ومحدودة النطاق الجغرافي؛ ليس تجنُّبًا لاستعادة الشكل التنظيمي الهرمي فحسب، بل تجنُّبًا لهيمنة رأس المال على عملها وتغوّل الأجهزة الأمنيّة في بنيتها كما يحدث في كافة المؤسسات الخيرية المصريّة الكُبرى.
وإذا كنا نرى ضرورة اقتصار عمل الجماعات الوسيطة على نطاقات جُغرافية صغيرة (أحياء أو قرى على أقصى تقدير)، فضلًا عن ابتعادها عن الصيغة المؤسسية التعاقُديّة واحتفاظها بالصيغة الأهليّة التراحُميّة؛ فإن وضع القيادة الاجتماعيّة يختلف جذريًا. ذلك أن خير ضمان لاستقلال هذه القيادة وفعاليُتها الدعوية-الاجتماعية هو انعدام ارتباطاتها التنظيمية بالكليّة، مع إسقاط ارتباطاتها الجغرافيّة إلا باعتبارها سُلَّم تكتشف من خلاله دورها الاجتماعي؛ إذ يُختبر القائد أول ما يُختبَر بين أهله. لكن دعوته-حركته يجب ألا تقتصر عليهم، بل يجب أصلًا ألا تقتصر على قُطره، وإن تعيَّن عليه توطيد علاقاته الاجتماعيّة-الدعويّة بدوائر حركته الواحدة تلو الأخرى؛ وصولًا إلى ارتباطاته العالمية.
إن القيادة الاجتماعيّة قيادة دعويّة غير فرديّة أصلًا، بل هي قيادة لا ترى خلاصها بمنأى عن خلاص المؤمنين والإنسانيّة جمعاء. إذ يرتبط قلقها الوجودي بالذات والمجتمع بنفس الدرجة، كما تجمع في صيرورتها بين النظر والعمل في غِمدٍ واحد. وإذا كانت القيادة الاجتماعيّة ضرورة مُلِحَّة حاليًا؛ فإن بروزها وتصدُّرها قبل تمكُّن شبكتها الدعويّة-الاجتماعية من تغطية مجال حركتها وتأمينه هو انتحارٌ أكيد. صحيح أننا نحتاج لقيادةٍ من عينة ملكوم إكس، القيادي الذي جاء من بين صفوف الجماهير؛ فلا هو بالواعِظ المحترف ولا بالمُنظر العميق، لكنه واعٍ جيدًا بالإطار العام لدعوته ووجهتها وطبيعة مجتمعه، وقادر من ثم على حراسة استقامة حركة المجتمع على هذا الدرب. صحيح أننا نحتاج لقيادة من هذا النوع، لكن تصدُّرها قبل الأوان سيؤدي لتصفيتها جسديًا كما تمت تصفية مالكوم رحمه الله.
إننا وبعد عقودٍ متطاولة من الجدب المعرفي والقيادي لا نطمع بقيادة فذَّة نستعيرُها من الصدر الأول، لكننا سنكتفي في هذه المرحلة بصعود من يتأهل من القياداتٍ التي تسمح بحُريّة حركة أهل الدعوة والتربية والنظر؛ آملين بظهور قيادة جديدةٍ أكثر امتلاءً بتوازُن النظر والعمل في جيلٍ لاحق. سنكتفي في هذا الجيل بقيادة تضطلع بالحد الأدنى المطلوب؛ أن تكون كالنحلة التي تحُط في كل زهرة/مجتمع تمتصّ بعض رحيقها، وتترك ورائها حبوب لقاحٍ تُجدِّد حياة الزهرة/المجتمع وحيويّتها. نُريد قيادة دعويّة-اجتماعيّة كالنحل العامل، وليست كملكات النحل العاطلات المثقلات بالزينة والأتباع!