التنظيمات الجهادية في ليبيا من مرحلة الثورة الى الظهور العلني لداعش
تمهيد
كثر الحديث منذ فترات طويلة حول وجود تنظيمات جهادية مختلفة في ليبيا، كان فيها تناول هذا الموضوع معتمدا على الخلفية التي ينطلق منها المنشغلون بهذه القضية، فمثلا كان وجود تنظيم القاعدة في ليبيا بالنسبة لأنصار القذافي محسوما منذ أول خطاب ظهر فيه القذافي، متحدثا حول الأحداث التي كانت تجرى في ليبيا في بدايات الثورة، وصف فيه الشباب الثائرين بالمدمنين أحيانا و بالمتشددين الذين يسعون إلي إقامة إمارة إسلامية في درنة أحيانا أخرى، فكان ذلك الخطاب الشرارة الأولي للحديث عن وجود الجهاديين في ليبيا بشكلهم القديم المتمثل في تنظيم القاعدة، أما بالنسبة للثوار ومع تحول الثورة الليبية إلي ثورة مسلحة، وانخراط الجهاديين بقوة كبيرة في المعارك ضد أنصار القذافى من متطوعين وقوات نظامية، لكن ولخصوصية المعركة لم يلتفت أحد إلي هؤلاء الجهاديين على أنهم عنصر غريب في الثورة المسلحة، بل حتى صعب في أحيان كثيرة تمييز هؤلاء من بين الشباب المقاتلين في صفوف الثورة ، بينما دافع كل المعارضين في الجبهة السياسية والاعلامية للثورة الليبية عن الشباب المقاتلين في صفوف الثورة نافين وجود أي مظهر من مظاهر التنظيم الجهادي في صفوف الثوار، مواجهين التقارير التي نشرتها صحف أجنبية في ذلك الوقت حول أن من يتولى عمليات القتال ضد أنصار القذافي هم في الحقيقة أعضاء منتسبون لتنظيم القاعدة حيث نشرت تلك الصحف صورا من جبهات القتال لثوار يطلقون لحاهم ، بررها المتصدرون لشاشة الإعلام في صفوف الثورة بأن إطلاق الشباب للحاهم في الحرب هو أمر طبيعي لعدم وجود وقت كافي للإهتمام بالمظهر الشكلي للمقاتلين في ظل حرب ضروس، والواقع أن الأمرين صحيحان، فمن ناحية كان أعتى المقاتلين ضد أنصار القذافي هم جهاديون سابقون قضوا في سجون القذافي سنوات طويلة أو كانوا منفيين الى خارج ليبيا ولم يستطيعوا العودة لها بسبب انضوائهم تحت لواء الجماعة الليبية المقاتلة أو الجماعة الاسلامية أو حتى لسفرهم لأفغانستان والعراق في الحرب التي خاضها البلدان ضد كل من السوفيت والتحالف الدولي ، بينما كان اخرون بالفعل لازالوا منضوين تحت تنظيم القاعدة ، ومن ناحية اخرى كان عدد هؤلاء قليلا نسبة إلى باقي الشباب من المدنيين الذين انضموا لصفوف الثورة المسلحة ضد أنصار القذافي و الذين تميزت أشكالهم فعلا بإطلاق اللحى للأسباب التي ذكرت من قبل.
ربما كان السكوت عن الجهاديين المقاتلين في صفوف الثوار مبررا وقت الثورة، وذلك لشدة الحاجة إليهم، لكن المجلس الوطني الانتقالي -والمكتب التنفيذي المنبثق عنه- لم يجهز خطة حقيقية تستوعب أمر هؤلاء الجهاديين بعد القضاء على نظام القذافي وتقدير تداعيات وجودهم في ليبيا تقديرا حقيقيا، وما المشروع الذي يحمله هؤلاء وما مدى امكانية تحولهم إلى العمل المدني الديمقراطي و إنصهارهم في المجتمع من جديد، مع تقدير التحولات التي أنتجها وجود هؤلاء في جبهات القتال في افغانستان لسنوات طويلة او حتى وجودهم في سجون القذافي على شخصياتهم وطريقة تفكيرهم.
طال السكوت عن الأمر كثيرا حتى كان للأمر تداعياته الكبيرة التي لم يتم الحديث عنها إلا حينما بدأت الصدامات السياسية بين الخصوم في ليبيا دون دقة في نقل المعلومات وببث اشاعات مختلفة فقط لاسقاط الخصم، بل إن من تصدر سابقا لعملية نفي التقارير الصحفية الأجنبية التي تتحدث عن وجود تنظيم القاعدة في ليبيا اثناء الثورة اصبح فيما بعد متصدرا لعملية رمي تهمة الارهاب ضد كل من يختلف معه في الرأي ، مما شكل صعوبة في تقدير الموقف الحقيقي وموقع الجهاديين في ليبيا ، وبالتالي أدى لصعوبة في التعامل مع الموقف خاصة مع غياب الدولة واستمرار الفوضى الشاملة في كافة المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع استمرار القنوات الإعلامية في تعكير الجو العام و نشر فوضى الإشاعات التي صعبت من مهمة تقدير الموقف و شكلت رأي عام متخبط.
ماذا بعد التخلص من القذافي ، كيف كان وضع الجماعات الجهادية في ليبيا وما خارطة توزيعها ؟
ربما شكل تحول الجماعة الليبية المقاتلة نحو العمل الديمقراطي، بتشكيل الشيخ سامي الساعدي لحزب «الأمة الوسط» ودخوله انتخابات المؤتمر الوطني سنة 2012، مصدر راحة كبيرة للكثير من الليبيين وطمأنة لهم بأن المراجعات التي قامت بها الجماعة الليبية المقاتلة داخل سجون القذافي كانت حقيقة، رغم أن هذه الطمأنينة لم تصل بالليبيين إلى مرحلة تجعلهم يصوتون لحزب الأمة الوسط لأسباب كثيرة، لا يتسع المقام لذكرها الان ، لكن كانت هناك أحداث اخرى لا يعلم بها الكثير من الليبيين حيث أن الحقيقة تقول أن التحول لم يحدث على مستوى كامل للجماعة الليبية المقاتلة، بل إن إنفصالها و حلها كان حقيقيا بدلالة المشاريع المختلفة التي قام بها المنتسبون السابقون لها.
فما كان ما يجري في درنة لم ينل اهتمام الليبيين، حيث سيطرت الجماعات الجهادية المختلفة بعد عودتها من المواجهات ضد أنصار القذافي على كامل درنة، التي لم يكن للشرطة ولا للجيش ظهور فيها نهائيا منذ نهاية المعارك مع القذافي ولو أن الحياة في باقي المجالات إستمرت بشكل إعتيادى فيها الى حد ما، بينما لم يشكل ظهور أنصار الشريعة في بنغازي قلقا يذكر مع توجه أنصار الشريعة للعمل الدعوي و لعمليات حماية المنشات العامة و تميزهم في ذلك العمل بالانضباط ، ولم تسجل لهم إعتداءات تذكر ضد الدولة الليبية ولم يحاولوا منع إجراء الانتخابات في بنغازي (على عكس ما قام به الفدرالييون من عمليات إعتداء على بعض اللجان الانتخابية ) ، كذلك جرت الانتخابات بطريقة اعتيادية في مدينة درنة، رغم أن أنصار الشريعة في بنغازي و كذلك التنظيمات الجهادية في درنة كانت تذكر علانية أنها لا تعترف بالديمقراطية .
مراحل التحول في عمل التنظيمات الجهادية وأوضاعها
مرحلة التحول الأولى :عملية مقتل السفير الامريكي وبدء مسلسل الاغتيالات
يمكن رصد مرحلة التحول الأولى لوضع التنظيمات الجهادية في ليبيا وخاصة تنظيم «أنصار الشريعة» إبان عملية مقتل السفير الأمريكي في القنصلية الأمريكية ببنغازي في سبتمبر 2012 ، حيث قام نشطاء بتنظيم مظاهرة حاشدة توجهوا فيها لمقرات أنصار الشريعة و كتائب «راف الله السحاتي» و «17 فبراير» فيما سمى «جمعة إنقاذ ليبيا» راح ضحيتها بعض العناصر من كتائب «راف الله السحاتي» و «17 فبراير» فيما أخلى تنظيم «أنصار الشريعة» مقراته مؤقتا. لكن مسلسل الاغتيالات بدأ تدريجيا وبشكل تصاعدي منذ عملية اغتيال السفير الأمريكي ، حيث راح ضحية مسلسل الاغتيالات مئات الضباط والنشطاء السياسيين حتى وصلت إحصائية المغدور بهم معدلا كبيرا حيث شهدت ليبيا خلال عام 2013 محاولات اغتيال عدة في بعض المدن، راح ضحيتها نحو 120 شخصا، بينما صنفت المحاولات الأخرى بالاغتيالات الفاشلة أو غير المكتملة.
وقد بلغ عدد ضحايا الاغتيالات من القيادات الأمنية والعسكرية منذ مطلع يناير وحتى نهاية ديسمبر 2013, في كل من بنغازي وطرابلس ودرنة، ومصراتة، والعجيلات، وطبرق، وسبها، أكثر من 90 شخصا، فيما بلغ عدد من اغتيلوا في صفوف الشخصيات المدنية والحقوقية ما يقارب عن 30 شخصا، بينما كانت العناصر الاخرى لهذا التحول منع التنظيمات الجهادية في درنة إجراء انتخابات اختيار لجنة صياغة الدستور من الانعقاد في درنة، كذلك شكل تكون تنظيم اخر لأنصار الشريعة في سرت – كان يعتقد أنه تابع لتنظيم أنصار الشريعة الموجود في بنغازي – شكلا اخر لعملية التحول الأولى في عمل التنظيمات الجهادية وسرعة انتشارهم وقدرتهم على التنظيم. كان من ابرز تداعيات هذه المرحلة استفزاز تنظيم أنصار الشريعة، حيث حُمّل التنظيم المسؤولية نحو جميع عمليات الاغتيال في بنغازي دون اجراء تحقيقات حقيقية حول الأمر، رغم أن مصادر موثوقة في بنغازي تؤكد أن أنصار الشريعة في بنغازي يقفون وراء بعض عمليات الاغتيال في بنغازي ويمكن تمييز العمليات التي كانوا يقفون وراءها بسهولة ، لكن عند التدقيق لا يمكن ان يكون التنظيم وراء جميع عمليات الاغتيال مما يعني وجود شريك اخر في عمليات الاغتيال كانت تتم التغطية عليه من قبل وسائل الاعلام عن طريق تحميل أنصار الشريعة مسؤولية كافة عمليات الاغتيال دون اجراء تحقيقات مستقلة في كل حادثة على حدى ، رغم الوعود الكثيرة التي اطلقتها حكومة علي زيدان بالتحقيق في هذه القضايا خاصة قضية اغتيال عبدالسلام المسماري. كما أن ما رافق هذه المرحلة من صدامات سياسية كبيرة بين الفرقاء السياسيين شكل عائقا كبيرا نحو التعامل مع عمليات الاغتيال وتقييم الموقف بدقة مع استمرار الغياب الكامل للدولة الليبية مضمونا رغم استمرارها شكلا في المدن الرئيسية .
عملية التحول الثانية : عملية الكرامة وبدء المواجهة المسلحة الشاملة
شكلت عملية الكرامة مرحلة تحول كبيرة في الحالة الليبية ، فقد جائت العملية كرد فعل على عمليات الاغتيال التي يقوم بها الارهابييون في بنغازي ( شملت القائمة التي اتهمها حفتر بالارهاب إضافة إلى أنصار الشريعة تقريبا كل كتائب الثوار من راف الله السحاتي و17 فبراير وكتائب الدروع )، حسب ما اعلن اللواء خليفة حفتر في بياناته ولقاءاته الصحفية المختلفة (ذكر حفتر في لقاء مع احد الصحف المصرية انه يجهز لعملية الكرامة قبل سنتين من موعد انطلاقها أي حتى قبل عملية اغتيال السفير الامريكي وبدء مسلسل الاغتيالات بشكل حقيقي ) ، كما أن قائمة الارهاب التي أعدها حفتر شملت كل المعارضين له (سرب مقطع فيديو لمقابلة قامت بها مذيعة ليبية مع حفتر قبل انطلاق عملية الكرامة بأشهر قليلة دافع فيها عن أنصار الشريعة و نفى أن يكون بينهم وبينه مشكلة ما أو أنهم هم من يقفون وراء مسلسل الاغتيالات )، إلا أن التحول في خطاب حفتر ووضعه في المشهد الليبي (ظهر حفتر في انقلاب أول، وصف بالتلفزيوني، اعلن فيه حل المؤتمر الوطني وإلغاء الانتخابات وإلغاء الحكومة و نقل السلطة للمحكمة العليا )، أصبحت المواجهات المسلحة شاملة و شهدت العمليات القتالية أعمال عنف ومشاهد مؤلمة قام بها الطرفان المتواجهان بعمليات انتقامية، حيث ذكرت تقارير صحفية أن 50 شخصا من المنضوين تحت لواء عملية الكرامة قضوا نحبهم ذبحا فقط في أول يوم من الهجوم المسلح لعملية الكرامة على بنغازي ، كما أن عمليات الانتقام التي اعقبت سيطرة قوات حفتر على بعض المناطق في بنغازي شملت عمليات قتل عشوائي لعائلات بأكملها ، وتحولت المواجهات المباشرة مما كان يعد مناوشات خفيفة قبل انطلاق عملية الكرامة الى عمليات ذبح لجنود الصاعقة واقتحام معسكراتهم بعد إعلان أمر القوات الخاصة انضوائه تحت عملية الكرامة، وعمليات اختطاف وقتل واغتيالات متبادلة لم تشمل فقط من هم في ساحات القتال المباشر، بل شملت أيضا كل من وقف ضد أي من الخصمين ولو لم يحمل سلاحا، لم يكن هذا الأمر خاصا ببنغازي فقط فقد كان نصيب اطلاق عملية فجر ليبيا في غرب ليبيا ذات المصير ، ولو أن المواجهات اقتصرت على عمليات الاختطاف والمواجهة المسلحة المباشرة ولم تشهد عمليات اغتيال أو ذبح كما كان الامر في بنغازي والمنطقة الشرقية ، كان لهذا التحول في المواجهات أثر كبير جدا أنتج عملية التحول الثالثة .
عملية التحول الثالث : ظهور داعش على الساحة
شكل ظهور داعش على الساحة الدولية وتصاعدها و ازدياد قوتها وتغلغلها هزة عنيفة في أرجاء العالم ، ليس فقط بالنسبة لمن يعتقد بأنهم العدو الطبيعي للتنظيمات الجهادية التي كانت تشمل الأنظمة العربية الدكتاتورية وقائمة الدول الغربية، لكن الأمر كان له تداعياته وهزته على التنظيمات الجهادية الاخرى وخاصة على الجماعة الام «تنظيم القاعدة» وفروعها في انحاء الدول الاسلامية، وعلى باقي التنظيمات الجهادية خاصة تلك الموجودة في الساحتين السورية و العراقية ، ولا يمكن بأي حال ان لا تشمل هذه الهزة وضع التنظيمات الجهادية في ليبيا و الوضع العام للأمن والاستقرار الليبي، حيث بايع أفراد و تنظيمات مختلفة في بنغازي ودرنة وسرت تنظيم الدولة الاسلامية، و ترك الكثيرون تنظيماتهم الجهادية الأولى، على غرار ما حدث في سوريا والعراق، وآثروا الانضمام لتنظيم الدولة مما كان له الأثر الواسع على خارطة توزيع القوى في الساحة الليبية و الأثر الكبير على وضع العمليات القتالية في شامل التراب الليبي. ثم ظهر ما كان يعتقد بأنه خلايا نائمة بالأمس في تحد واضح وصارخ للجميع ليعلن بأنه موجود، حيث نشرت مجلة دابق – التي تتحدث باسم تنظيم الدولة الاسلامية- في عددها السابع عملياتها في ولاية طرابلس حسب ما تقول ، قبل أن تظهر في مقطع فيديو أشبه ما يكون بالمقطع السينمائي، على غرار ما حدث في سوريا والعراق ، يظهر فيه ملثمون غلاظ شداد في مشهد مؤلم ذبح فيه 21 مصريا من الاقباط ، تبناه تنظيم الدولة الاسلامية ليقول انا هنا ، ويعلن عن مرحلة اخرى (سنبين تفاصيلها وتداعياتها في تقرير اخر ) مختلفة كليا عن المراحل الاولى ، مرحلة تضع ليبيا على حافة الهاوية وبين مطارق وسنادين مختلفة .