البحث عن مشكلة الإخوان: التنظيم أم الجماعة الوسيطة
كتب الأخ الكريم أيمن عبد الرحيم ثلاث مقالات مطولة بعنوان «معا لحل تنظيم الإخوان»، وكنت لما قرأت مقاله الأول منها كتبت ردا عليه فجاء ردا مطولا، فلما بلغت مقالاته الثلاث لم يعد بالإمكان كتابة رد ولو شبه مفصل، ولم يعد من مناص سوى كتابة تعليقات سريعة عابرة.
وقبل كل شيء لا بد من توضيح أن هذا المقال ليس له نصيب في شيء إلا المسألة العلمية التي هي همُّ الأمة، فلست من الإخوان، ولا حتى ممن يعقدون أملا كبيرا عليهم في مستقبل الأيام، فالمسألة مقتصرة على مناقشة الفكرة المطروحة حول عيوب التنظيم وضرورة أن يستبدل به نمط «الجماعات الوسيطة» المتمركزة حول الوحي فهي متحررة من أعباء التنظيم وقيوده، ومنطلقة من التكليف الرباني مباشرة.
وكنوع من الدفاع المسبق أيضا أقول، بأن الاتهام الأكبر لهذا المقال سيكون «أني لم أفهم مراد أيمن»، ولهذا أقول: ربما أنت الذي لم تفهم مرادي، ولا شك أن ضرورات الاختصار مسؤولة عن نصيب من هذا.
الماء الخارق
بدأ أخونا مقاله بمثال ضربه يقول: «الماء لا يمكن كسره إلا إذا تجمد وصار قطعا ثلجية» في إشارة إلى أن التنظيم يجعل من الماء العصي على الكسر قطعا ثلجية قابلة للكسر.
وذلك ذكَّرني بدرس أخذناه في مادة الميكانيكا في كلية الهندسة، عن عملية «الثقب»، وفيه فوجئنا بأن أفضل مادة لثقب الحديد هي الماء، فانطلاقة الماء المضغوط بسرعة عالية قادرة على ثقب الحديد بأفضل مما يفعل الليزر. فهذا هو الماء الخارق.. الذي يجعل من الماء السائل الرقيق -العاجز عن خدش نتوء في صفحة الحديد- قوة جبارة تخرقه ولا تبالي..
فذلك مثل التنظيم وفكرته، تجميع الجهود السائلة لتكون فعالة، فتكتسب بتضافر قواها ما يساوي أضعاف المجموع العددي لقوة كل منها منفردة.
إن الماء السائل –وإن كان لا يُكسر- إلا أنه يُتحكم فيه بالتوجيه والاحتواء ويُقاد إلى حيث يُراد له أن ينقاد!
التنظيم.. حقيقة صلبة وخالدة
إن محاولة إثبات فائدة التنظيم يشبه عندي محاولة إثبات النهار. ذلك أن «السلطة» حقيقة تاريخية ثابتة وصلبة، والسلطة في أبسط تعريفاتها هي: قلة «منظمة» تحكم أكثرية غير منظمة، وهي قادرة على إنفاذ حكمها وسيطرتها على هذه الأكثرية لا لشيء إلا لأنها «منظمة، منتظمة، نظامية».
ومن فروع هذه الحقيقة أننا لا نعرف في التجارب التاريخية سلطة منظمة أسقطتها حركات غير منظمة! كذلك لا نعرف تجربة قيام دولة أو انبعاث نهضة إلا وكان وراءها تنظيم فعال يلتقي على قاعدة فكرية واضحة، ربما يكون هذا التنظيم دعوة إصلاحية أو عنصرية قومية أو قد يكون هذا التنظيم هو الدولة وذلك حين يصل صاحب فكر إلى موقع السلطة فيتخذ من نظام الدولة وعصبتها وسيلة إلى نشر الفكرة والدعوة.
كذلك فإن «التنظيم» و«السلطة باعتبارها التنظيم الأوقى» هو فكرة ثابتة وخالدة، فحتى نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان ستظل طريقة الحياة فيها سلطة ورعية وحاكم ومحكوم، ففي الحديث أنه «سيحكم بكتاب الله»، وأن المال سيفيض حتى «يُنادى عليه»، فهذه دلائل سلطة.
يمكننا أن نتحدث كثيرا عن جهود اليهود في إعادة إحياء لغتهم بعد موات من خلال «الجماعات الوسيطة»، لكنهم لم يكونوا يستطيعون «إنشاء دولة» ولا التأثير في السياق العالمي حقا بغير هرتزل وتنظيمه، ولا بغير دعم ومساندة الدول (التي هي تنظيمات). ويمكننا أن نتحدث عن جهود شعبية لإنشاء جامعة بولندا الطائرة ولكن ما كان للجامعة ولا عشرة مثلها أن تقف أمام اجتياح وحش ألماني أو وحش سوفيتي فما كان لها أن تؤدي دورها إلا لأن تصاريف وتوازنات الدول (التنظيمات) سمحت لها بالبقاء. ويمكننا أن نتحدث عن مجهودات تأسيس المراكز الإسلامية في الشرق والغرب، عن مشاريع خيرية في الداخل والخارج.. لتفعل الجماعات الوسيطة ما شاءت، تستطيع «الدولة / التنظيم الأقوى» أن تنهي كل هذا بجرة قلم، وقد فعلت.
إن بقاء كل مجهودات الجماعات الوسيطة هذه مرهون بسماح التنظيم الأقوى (الدولة) بهذا الوجود.
الدولة: التنظيم القاهر للجماعات الوسيطة
ولهذا كانت حاجة كل الحركات التغييرية إلى الوصول إلى السلطة حاجة ضرورية وملحة، والحركات التي عملت في إطار السلطات القائمة إما أنها ليست حركات تغييرية أو أنها حركات انحرفت عن طريق التغيير لتبقى في مربع التعايش مع الأنظمة القائمة.
ولهذا فإن كل دولة بدأت فإنما اعتمدت على تنظيم، حتى لو كان هذا التنظيم هو «القبيلة»، فالقبيلة هي نوع بسيط من أنواع التنظيم فيه القيادة والملأ ووجهاء القوم ثم أتباع كثيرون، وقد قامت دولة الإسلام اعتمادا على الأنصار –الأوس والخزرج- ثم قامت دولة الراشدين اعتمادا على عصبة قريش (التي لا يقبل الناس غيرها في ذلك الوقت) ثم قامت الدولة الأموية بتنازل الحسن (ممثل عصبة بني هاشم) لمعاوية (ممثل عصبة بني أمية) وهو انتقال في إطار ذات العصبة القرشية. ثم جاء التنظيم العباسي لينتظم عصبة من آل البيت حتى يقيموا الدولة، وهكذا سائر الدول.. فبدعوة أبي عبد الله الشيعي وعصبة أهل كتامة نشأ التنظيم الذي سيلد الدولة العبيدية (الفاطمية) وبدعوة ابن ياسين وعصبة الصنهاجيين نشأ التنظيم الذي سيلد دولة المرابطين، وبدعوة ابن تومرت وعصبة المصامدة نشأ التنظيم الذي سيلد دولة الموحدين.. ولو شئنا الإطالة فالأمثلة غزيرة.
والمقصد من هذه الأمثلة التأكيد على أمرين؛ الأول: أن فكرة الجماعة الوسيطة لو كانت كافية في حسم التغيير لاكتفى الدعاة بها، ولكنها لم تكن كذلك فكان التنظيم هو الحل لإزالة التنظيم المنافس (السلطة = الدولة) القائمة. والثاني: أن الجماعات الوسيطة لم تتبدل مع تبدل الدول وتغيرها، وهذا وإن كان تميزا من جانب استمرار الأمة وحضارتها، إلا أنه دليل على أن هذه الجماعات الوسيطة ليست شيئا كبيرا في معادلة السلطة والحكم والتغيير الحاسم الحقيقي.
ولما جاء عصر الدولة المركزية بتغيراته الهائلة (وأبرزها في سياقنا هذا: تطور الأسلحة بما صنع فارقا ضخما بين السلطة والناس، والهجرة من الريف إلى المدينة بما أضعف العشائر والقبائل وأنواع الجماعات الوسيطة وقوَّى سلطة الدولة، والتضخم في وسائل الري والزراعة والصناعة بما جعل حاجة التنمية تقتضي تدخلا واسعا للسلطة في تنظيم هذه الأمور) عاد هذا بالسلب على الجماعات الوسيطة، واستطاع ممثلو الدولة المركزية –بعد هذه التغيرات العلمية والاقتصادية والاجتماعية- من إحداث تطور حاسم في العلاقة بين الدولة والجماعات الوسيطة.. فأكلت السلطة مساحات الجماعات الوسيطة، وصارت الجماعات الوسيطة كالأسير بين يدي السلطة. واستطاع محمد علي (مثلا، في حالة مصر) أن يستولي على الأوقاف وهو الأمر الذي لم يستطعه قبله أحد من المماليك ولا العثمانيين رغم محاولاتهم ورغم أنهم نموذج لسلطة مستبدة.
لقد طرح وجود الدولة المركزية عنصرا جديدا في معادلة الحكم.. صارت كل محاولة تغيير تصطدم عمليا بالسلطة، صارت السلطة قادرة أن تتدخل في كل شأن، فتصدر تصريحا ببناء باب في جدار كما تصدر تصريحا يأذن لشيخ في صعود منبر. الحقيقة أننا في هذه اللحظة أمام سلطة لا تترك مساحة للجماعات الوسيطة.. ولئن تركت مساحة فهي تملك أخذها، كما أنها من ناحية أخرى تصنع جماعات وسيطة خاصة بها (لكن يُطلق عليها في هذه الحالة: جماعات وظيفية)، مما يعني أن أي محاولة تغيير حقيقية وفعالة لن تجد أمامها حلا سوى اللجوء لحل «التنظيم».
الجماعات الوسيطة كنموذج مقاوم
يأتي سؤال مهم: هل استطاعت الجماعات الوسيطة الانتصار على سلطة مركزية (تنظيم الدولة المركزية) من قبل؟
نعم، ربما تستطيع الجماعات الوسيطة إشعال «مقاومة»، وهي في هذا مثل حرب العصابات التي ترهق الجيوش النظامية، لما لها من سيولة وخفة حركة وانعدام تنظيم.. لكن الحقيقة الصادمة كذلك أن حروب العصابات «وحدها» لا تؤدي في نهاية المطاف إلى التحرير.
إن فرنسا لم تخرج من مصر لمجرد المقاومة الشعبية المصرية –وإن كانت في غاية البسالة- بل لأن تحالفا دوليا (إنجليزيا عثمانيا) أجبرها على هذا، كذلك لم تخرج بريطانيا من مصر إلا على يد أمريكا رغم بسالة المقاومة المصرية، ولم تخرج فرنسا من الجزائر إلا على يد أمريكا رغم تضحيات الجزائريين، ولم تخرج أمريكا من فيتنام إلا بوجود الاتحاد السوفيتي رغم كل تضحيات الفيتناميين. وأنا هنا لا أقلل أبدا من شأن التضحيات، بل هي عامل أساسي في كل ما حدث، لكني في ذات الوقت لا أريد أن ننسى الجانب الآخر من الصورة وهو أن الجماعات الوسيطة لم تبلغ «وحدها» أن تحقق نصرا حاسما في أي لحظة.. هذا إن لم تنتهِ وتنهزم أمام قوة منظمة لا قبل لها به.
في حين أننا نستطيع أن نقول بالعكس.. تستطيع محصلة نتائجة القوى أن تؤدي إلى تغييرات حاسمة بدون وجود جماعات وسيطة، كما تكتب الجيوش مصائر التاريخ بغير حروب عصابات، وكما تنتصر ثورات «سلمية» لاستنادها إلى قوة دولة بعينها (فالثورة السلمية خرافة، إما أن تكون ثورة مسلحة تعتمد على قوتها الذاتية، وإما أن تكون قوتها في الدولة الداعمة لها).
ومن الحقائق كذلك أن الذين يخوضون حروب العصابات أنفسهم هم أكثر من يشعرون بحاجتهم إلى التنظيم لكي يبلغوا من عدوهم ما لا يبلغونه بأنفسهم، ولكي لا تتضارب الجهود وتتناقض.
ونستطيع أن نقول بالعكس من جهة أخرى، وهو أن (تنظيم الدولة المركزية) يستطيع القضاء على الجماعات الوسيطة قضاء مبرما، خصوصا إذا طال الزمن.. ولنا في الأندلس خير عبرة ودليل، فمع كل البسالة الأسطورية التي تمتع بها المسلمون واحتفظوا بدينهم لخمسة قرون تحت حكم الإسبان إلا أن نظامهم الاجتماعي والثقافي قد تم تدميره تماما واختفى وزال من الوجود.. ولماذا نذهب بعيدا؟! ها هو محمد علي قد دمر المجتمع المدني المصري وجماعاته الوسيطة وظلت سلالته في الحكم من بعده قرنا ونصف القرن، وها هو الاحتلال أنشأ نظاما جديدا في الدول التي نزلها (بقوة السلطة = تنظيم الدولة المركزية) فأزال ما أراد من الجماعات الوسيطة وغيَّر النظام الاجتماعي والاقتصادي وكثيرا من النظام الثقافي في البلاد التي احتلها.
وإذن فلدينا ثلاث معادلات هي:
الجماعات الوسيطة «وحدها» لم تحقق أبدا نصرا على (تنظيم السلطة = الدولة)
بينما (تنظيم السلطة = الدولة) وحده استطاع تحقيق انتصارات حاسمة على الجماعات الوسيطة
وحدثت تغييرات حاسمة بمجرد (تنظيم السلطة = الدولة) وحده، في ظل وجود أو اختفاء الجماعات الوسيطة.
وبمحصلة هذه المعادلات يتبين نصيب «التنظيم» ونصيب «الجماعة الوسيطة» من معادلة التغيير الحقيقي الحاسم الفعال.
وهذا ما يؤكده قول النبي «… وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين»، وقول عمر بن الخطاب لزياد بن حدير: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين»، وقول عثمان رضي الله عنه «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».. وقد قالت العرب «الناس على دين ملوكهم».
تنظيم الإخوان
بداية فإن أجواء نشأة الجماعة حكمت شكل تنظيمها، فوجودها في دولة غاب الإسلام عن مفاصلها السياسية والثقافية وبعض طبقاتها الاجتماعية اضطرها لأن تكون جماعة دعوية.. لكن هذا نصف الصورة فقط، النصف الآخر هو أن هذه الدولة واقعة تحت الاحتلال.. فلذلك كانت الجماعة جماعتين في الحقيقة: تيار علني دعوي، وتنظيم خاص سري مسلح يعمل كجهاز حربي وجهاز مخابرات بهدف مواجهة الاحتلال.
وكان لا بد –والحال هذه- من وجود هذا الشكل الهرمي بالذات للنظام الخاص السري الذي يمثل العمود الفقري والجماعة الحقيقية، فمن هنا نعلم أن الإخوان لم يختاروا الشكل الهرمي بقدر ما فُرِض عليهم، ثم إنهم منذ نشأوا حتى الآن عاشوا في أجواء اضطهاد ومطاردة جعلت الشكل الهرمي السري اضطرار لا اختيار.
صحيح أن هذا الشكل ترسخ في تصورهم حتى استعملوه في مناطق لم يكونوا فيها بحاجة إلى السرية، إلا أن هذا أيضا هو نوع من الاضطرار باعتبارات التعود وعدم ضمان استمرار حال الفسحة والأمان.
وهنا يجب أن ننبه إلى أن البنا لم يتخل عن النظام الخاص، وأن ما ورد في شأن نيته لحله أو حل الجماعة إنما هي روايات مشكوك فيها ليس هنا مجال نقدها. كذلك فإن الروايات متضاربة بشأن رؤية الهضيبي نفسه للنظام الخاص، فكما ورد عنه قوله «لا سرية في الإسلام» ورد عنه قوله «النظام الخاص بالنسبة للإخوان هو كحرفي الألف واللام (والمعنى أنه خصيصة لا تنفك لها وإلا فقدت معناها وتميزها) وإنما قلت هذا أمام من لا يجوز له أن يعلم»، وهذا الموضوع من أكثر الموضوعات التي بحثت فيها وحادثت فيها بعضا ممن عاصروا الهضيبي وأبناء من عاصروه وسمعت روايات كثيرة متناقضة، إلا أن الثابت هو أن سياسته في إدارة الجماعة منذ تولى كانت سياسة مؤسفة أدت لتدمير النظام الخاص مما جعلها فريسة سهلة لنظام عبد الناصر.. هذه السياسة ونتائجها هي التي جعلت البعض يقول بأنه اختراق ماسوني للجماعة، وبرأيي أنه لولا صموده الرهيب هذا لكانت فكرة أنه اختراق ماسوني لتدمير الجماعة هي التفسير الأقوى لما حدث.
المهم في سياق موضوعنا الآن أن مشكلة الإخوان لم تكن في بنية التنظيم نفسه، لأننا نستطيع أن نعد تنظيمات استطاعت أن تحقق مشاريعها من خلال ثورات أو انقلابات.. وإنما تبدو المشكلة برأيي في ثلاث أمور:
طول الأمد: وهو ما أنتج مشكلات التنظيم التي قال بها أيمن –وأوافقه عليها- في مقاله الثالث.. ذلك أنه يجب التنبه إلى أن الدعوات الناجحة إنما حققت هدف الوصول إلى السلطة (التنظيم الأقوى) في عهد المؤسس أو في عهد تلاميذه بحد أقصى.. فإن طال الزمن بأكثر من هذا دخلت «الدعوة، الحركة، التنظيم» في مراحل الجمود والتيبس والفشل. وهو أمر لم تراعيه الجماعة بل ظلت تقول «ثمانون سنة ليست شيئا في عمر الأمم» وكأننا نكوِّن أمة لا نصنع حركة دعوية تغييرية.
تشوش المهمة: مما أدى إلى تشوش الوسائل، وهو من مقتضيات وتوابع «طول الأمد»، فمن بعد اغتيال البنا، لم يكن واضحا عندهم ما هي «المهمة» التي يريدون تنفيذها، ولهذا استغرقتهم جوانب الدعوة والمقاومة كلها، فكأنهم يدعون إلى الدين من الجديد لا أنهم يكونون فريق العمل الذي يمثل الطليعة التي تشتبك مع السلطة، ولهذا استهلكوا أنفسهم في مسالك كثيرة ومتفرقة ومتباعدة، وقد رقعوا فساد الأنظمة بما فعلوه من أعمال الخير والبر لمساعدة الناس (ثم كانت السلطة تضربهم ضربة قاضية، فلا يتحرك لهم أولئك الناس الذين ساعدوهم، بل ربما ساعد أولئك الناسُ السلطةَ في ضربهم)، وأدى هذا إلى أن اجتذبت صفوفهم كثيرا من غير المؤهلين للدعوة إما لصفاتهم الشخصية أو لأوضاعهم المالية أو الاجتماعية فكانوا بهذا عبئا على الجماعة إذ استنفدوا كثيرا من مجهودها وكثَّروا البطالة الدعوية في صفوفها وأبطأوا حركتها وجعلوها مترهلة (أعددا كثيرة لكن الفَعَّالين قليل) ثم إن طول الأمد بلا تحقق إنجازات ملموسة أصابها بالجمود والتيبس وأنشأ فيها الجهاز التبريري الذي صار روحا تجعل من الإنجاز القليل نجاحا كبيرا وتجعل من طول الوقت «لا شئ في عمر الأمم» بل والأهم أنها تجعل من الفشل «ليس في الإمكان أبدع مما كان» ثم يصير هذا الذي في الإمكان هو الأصل الذي ما كان ينبغي أن يُفعل غيره، وهنا تدخل دوامات التنظير لتصنع وعيا جديدا: فيتحول الحكام من خصوم إلى محل دعوة، ومن تابعين للغرب إلى وطنيين يمكن التفاهم معهم، ويتحول العلمانيون من أعداء للمشروع الإسلامي إلى رفاق كفاح ضد الاستبداد.. وعند اللحظة التي يولد فيها مثل هذا التنظير تنحرف البوصلة ويتغير الاتجاه.
افتقاد القوة: سواء القوة الذاتية التي يملكون بها أن يكونوا جزءا من معادلة السياسة والتغيير والحكم، أو القوة الداعمة التي تمثلها مظلة دولة إقليمية أو دولة كبرى، وانعدام القوة يجعل أي تنظيم مهما كان محكما ضعيف، وأي جماعة مهما كانت بارعة أسيرة لدى صاحب القوة. ولهذا كان يمكن دائما للتنظيم الأقوى منها (الدولة) أن يضربها وقتما شاء، وأن يزيل كل مكاسبها التي حازتها في أوقات الفسحة التي سمح هو أيضا بها إما لغرض في نفسه (كضرب التيارات الجهادية) أو لأنها أهون من أن تهدد حكمه.
والتنظيمات المؤثرة والفاعلة شرقا وغربا لم تخل أبدا من هذه القوة.. وأقربها لنا مكانا وزمانا: حزب الله والحوثيين.
فالمشكلة ليست في بنية التنظيم نفسه، بل في «زمنه»، و«مهمته»، و«قوته».
الحاجة إلى الجماعات الوسيطة
فهل معنى هذا أننا لا نحتاج إلى جماعات وسيطة؟
أبدا، ولا يمكن أن أقول هذا.. وفي مقالات كثيرة ومحاضرات سابقة كنت أفيض في شرح مزايا أن تكون الأمة فوق السلطة، وأن طبيعة النظام الإسلامي هو أنه مؤسس على «توازن القوى» بخلاف النظام الغربي المؤسس على «احتكار القوة من قبل الدولة»، مما يجعل المجتمع الإسلامي في غاية الاستقلال عن السلطة ماليا فتستمر الحضارة وإن ضعف النظام السياسي، ولا يؤثر الضعف السياسي على ضعف المجتمع، ويستمر المجتمع في المقاومة وإن انهزم الجيش الرسمي على عكس نظام الدولة المركزية الذي يعني سقوط الجيش النظامي انهيار الدولة ونهاية الحرب.. وكم حاولت بيان مزايا وفضائل هذا النظام الذي يقصر من يد السلطة ويعصم الناس من شرها وتغولها.
كل هذا وغيره وأكثر منه تحدثنا وكتبنا فيه كثيرا.. لكن هذا سياق، وهذا سياق آخر.
إن الجماعات الوسيطة ضرورية للمجتمع، ولكننا لن نستطيع إطلاق طاقاتها إلا إذا أمسكنا بهذه السلطة، فالجماعات الوسيطة لا تنجح إلا في ظل سلطة تسمح لها بالقيام بدورها أو تنسجم معها. إن المشروع السياسي الإسلامي مشروع قائم على «تمكين الأمة» وترشيد السلطة، لا على النموذج الفرعوني في السلطة الذي يستعبد الأمة (يجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم).
لو أننا الآن نعيش في ظل أنظمة مخلصة للأمة لكان للدعوة إلى استبدال الجماعات الوسيطة بالتنظيمات المقاوِمة وجه من النظر، أما ونحن نعيش في أنظمة احتلالية وفي دولة مركزية فلا مناص من تنظيمات تقاومها (وقد أثبتا في أول المقال أن السلطة –باعتبارها التنظيم الأقوى- لا تسقط إلا على يد تنظيم، داخلي كالثورة والانقلاب أو خارجي: الدولة المحتلة) وعليه فإن حل التنظيمات إنما هو هدية للأنظمة الاحتلالية بإزالة العقبة الكأداء في طريقها، مهما كان تقييمنا لهذه العقبة وقوتها.
إن مجرد التركيز على الإخوان كجماعة وتقديم الحلول لها لدليل في ذاته على أنها صاحبة الفاعلية، وصاحبة قرار مؤثر، وأنها لو سمعت لهذه النصيحة أو أخذت هذا الحل لكان الحال أفضل.. إن مناهضي التنظيمات مضطرون لمخاطبة التنظيمات في نهاية الأمر، وهذا هو عينه دليل أهمية التنظيم.
متفرقات
طال المقال جدا، برغم حرصي على الاختصار في كل ما مضى، وبقيت أمور لا بد من الإشارة إليها ولو في أسطر:
إن كل الأمثلة التي ضربها أخي أيمن نصرة لفكرته لا تخرج عن أهمية الجماعات الوسيطة في خوض معركة أو الحفاظ على هوية أو تحقيق منفعة عامة لم ينهض لها أحد، وهي أمور أتفق معه فيها، لكنها لا تدل على أن الجماعات الوسيطة تستطيع تحقيق نصر كامل في حرب (ربما في جولة) أو إسقاط أنظمة فاسدة (كما حدث في ثورة العلماء على خورشيد التي نجحت في إسقاط خورشيد لكنهم اضطروا بعد ذلك للإتيان بمحمد علي: نموذج الحاكم الصالح في نفس النظام وبذات الشرعية) أو تحقيق منفعة في ظرف عصيب بشرط أن قد وُجِد من الظروف ما حافظ على هذا النموذج ولم يحاربه.
وهذه ليست مشكلتنا الآن..
كما أن العيوب التي ذكرها للتنظيمات لا تخرج عن كونها وقعت في واحدة من الثلاثة: طول الأمد، انحراف الوجهة لتشوش المهمة والغاية، انعدام القوة.
إن الصحابة حين اختاروا خليفة قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عبروا عن أهمية «السلطة» في الإسلام، وأنها شيء لا يؤخر، ولهذا فإن معركة السلطة هي معركة الإصلاح الحقيقية لأن الله «يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» ولأن «الناس على دين ملوكهم».. ولهذا فلا يسعنا –ونحن تحت الاحتلال بالوكالة- أن نؤخر معركة السلطة لنتحدث عن معركة تكوين المجتمع.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يمتعنا بأخي الحبيب أيمن عبد الرحيم وأن يفتح عليه من بركاته ورحماته وأن يجعله من رواد هذه الأمة والقائمين لله بالحجة في زمنه.