الإخوة الأعداء: لماذا تهتم إثيوبيا بتدعيم علاقاتها بالسودان
لم تصدر تلك التصريحات عن وزير إثيوبي متعجرف، ولم تكن مجرد زلة لسان من مسؤول إسرائيلي شامت بالمصريين، بل خرجت من فم مستشار وزارة المائية والكهرباء السودانية، الدكتور «أحمد محمد آدم»، قالها في ندوة عن آثار السد على السودان، نظمتها جمعية المهندسات السودانيات، في مارس الماضي، وألحق تصريحه هذا بعبارات أخرى يصف بها رؤية سودانية لمشروع سد النهضة الإثيوبي:
وفي حين أن تلك التصريحات قد كشفت النقاب حينها عن رؤية سودانية مغايرة للموقف المصري من السد، وربما متصادمة معه أحيانا، فمن المحتمل أنها لم تكن تعبر تماما عن مجمل السياسة السودانية تجاه تلك القضية، لا يمكننا الجزم إذًا هل كان اتجاه الوزير صوتا بين أصوات سودانية تتخذ موقفا حديًا مواليًا للإثيوبيين تمامًا في قضية السد، أم أنها كانت الصوت السوداني الحقيقي.في كل الأحوال فقد آثرنا البدء بتصريحات الرجل لأنها تمثل دليلا حيًا عما نسعى إلى استبيانه في هذا التقرير، وهو أن لإثيوبيا والسودان تاريخا وحاضرا من العلاقات الثنائية، ذات الاعتبارات المصلحية المتبادلة، المنفصلة عن وضع الخرطوم كعضو في الأسرة العربية، ومن شأن فهمنا لتلك النقاط أن يعيننا على قراءة صحيحة لموقف السودان من القضايا الإقليمية عموما، وقضية سد النهضة على وجه الخصوص.سنُبحر إذًا في رحلة عبر التاريخ والحاضر، لمعرفة طبيعة العلاقة بين السودان وإثيوبيا.
العلاقات الإثيوبية السودانية: تاريخ من التقلّب
مرحلة ما قبل البشير وزيناوي: الموقف من الجنوب كـ «ترمومتر» للعلاقة بين البلدين
لم يمض وقت طويل بعد أن نال السودان استقلاله عن التاج البريطاني عام 1956 حتى انطلق كفاح سكان الجنوب من أجل الاستقلال. تأسيسا على تاريخ قريب من الاضطهاد والتهميش الديني والمناطقي، ومدفوعا بحماسة ضاعفتها اكتشافات الثروة والنفط والموارد الطبيعية في أراضي الجنوب، حاول إمبراطور إثيوبيا في ذلك الحين لعب دور الوسيط بين طرفي النزاع، واستضافت العاصمة الإثيوبية في 1971 أول محادثات سلام بين طرفي النزاع، الحكومة السودانية بزعامة الرئيس «جعفر النميري»، وجيش تحرير جنوب السودان، انتهى بتوقيع اتفاق أديس أبابا 1972 والذي قضى بإعطاء الجنوب نوعًا من الحكم الذاتي، مع تخفيف القيود الدينية المفروضة على غير المسلمين، كانت المصلحة الإثيوبية تقتضي أن تجاورها دولة متنوعة دينيا، كمثلها تماما، أما الرئيس السوادني، فقد كان يسعى لتوثيق علاقاته بالغرب عبر البوابة الإثيوبية.لم يستمر «الحياد» الإثيوبي طويلا، ففي عام 1974 تمكن ضباط ماركسيون من الإطاحة بالحكم الإمبراطوري في إثيوبيا عام 1974 وأقاموا حكمًا ماركسيًا مواليًا للسوفيت، وبالنظر إلى الخلاف الأيديولوجي بين الحكام الجدد وبين حكومة النميري التي ضمت خليطا من تحالف علمانيين وإسلاميين، ولم يكن الماركسيون على وفاق مع أي منهم، ومع تجدد الحرب في العام 1983، وإثر تفكك الحكومة المحلية الناشئة في الجنوب وتصدر «الجبهة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة جون قرنق، قررت إثيوبيا دعم الجنوب في الحرب، فيما رد السودان بدعم جماعات المتمردين عن الحكومة المركزية في إثيوبيا، «جبهة تحرير شعب التيجراي» بقيادة مليس زيناوي،و«جبهة تحرير شعب إريتريا» بقيادة أسياس أفورقي، فيما بعد سينتصر ذلك التحالف، وسيتولي زيناوي رئاسة وزراء إثيوبيا ليصبح زعيما تاريخيًا للبلاد حتى وفاته عام 2012، فيما ستنفصل إريتريا لتتكون دولة مستقلة يرأسها أسياس أفورقي نفسه حتى اليوم.
لماذا كانت إثيوبيا ترفض تقسيم السودان؟ ولماذا قبلت به لاحقًا؟
صحيح أن«مليس زيناوي» كان شاكرًا للدعم السواداني الذي ساعده في الوصول إلى السلطة والإطاحة بنظام الجنرالات، فقد كانت لديه كذلك اعتباراته البراجماتية إزاء السودان شمالًا وجنوبًا، ظهرت التشققات التي ظهرت في صفوف الحركة الشعبية، وفشلت السلطات المحلية في الجنوب في توفير نظام حكم ناضج ومتكامل، وهو ما أثار مخاوف زيناوي من أن جنوبًا مستقلًا هو جنوبٌ غير مستقر، فضلا عن أن الصراع بين الجنوب والشمال سيثير اضطرابات في مناطق إثيوبيا الحدودية، خاصة مناطق «بني جوموز» و «بني شنقول»، تلك المناطق ذات الحساسية التي يمر عبرها النيل الأزرق من إثيوبيا إلى السودان، و يُقام بها سد النهضة حاليًا، والتي تتمتع بتركيب إثني مشابه لجوارها السوداني، ولا ينظر سكانها أصلا بارتياح إلى الحكومة المركزية في أديس أبابا. فضلا عن الاعتبارات السابقة، فقد كان زيناوي – وهو الطامع إلى لعب دور إقليمي، و صاحب الطموحات العريضة وأفكار المشروعات الكبري على مياه النيل – يخشى أن دعمًا إثيوبيا للجنوب سيدفع بالشمال إلى أحضان المصريين، وستكون حرب بالوكالة بين القاهرة وأديس أبابا، وهو ما من شأنه أن يضر بالاستقرار الإقليمي، وهو ما لم تكن إثيوبيا ترغبه – أو تقدر عليه – في ذلك الحين. لهذه الأسباب توقف الدعم الأثيوبي للحركة الشعبية في الجنوب، مرحليًا على الأقل، ففقدت الحركة عمودها الفقري، وفشلت في مواصلة حربها ضد حكومة الخرطوم.لعبت إثيوبيا لاحقا دورا فاعلا كوسيط بين الشمال والجنوب، فرعت «إعلان مبادئ منظمة الإيغاد» عام 1994، الذي أورد حق تقرير المصير للجنوب، لكنه أعطى أولوية لمبدأ وحدة السودان، ونادى بنظام أكثر تعددية وعلمانية يستوعب الجميع، قبلت الجبهة الشعبية الإعلان الذي رفضته حكومة « البشير – الترابي» ذات التوجه الإسلامي، والتي جاءت إلى الحكم عبر انقلاب عسكري سمته حركة «الإنقاذ»، ورغم أن نظام البشير كان في البداية على علاقة جيدة بأديس أبابا، فقد بدأ وضوح توجهاته الإسلامية لاحقا يزعج الإثيوبيين. تواترت الأنباء عن دعم سوادني لفصائل إسلامية انفصالية في إثيوبيا، و تصاعد الموقف مع محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا 1995، وُجهت أصابع الاتهام فيها إلى السلطات السودانية بتزويد المتهمين بالسلاح وجوازات السفر، وهو ما نفته السودان، قرر زيناوي حينئذ استئناف دعم الحركة الشعبية، إلى الحد الذي دخلت فيه قوات إثيوبية إلى الأراضي السودانية لمساندة الجنوبين، ومع الخسائر الفادحة التي تلقتها القوات الحكومية، اضطر البشير إلى توقيع إعلان مبادئ الإيغاد عام 1997.فجأة اندلع نزاع حدودي بين إثيوبيا وإريتريا – حديثة العهد بالاستقلال عن أديس أبابا -، أدت خشية زيناوي من أن يؤدي التباعد بينه وبين البشير إلى دعم الأخير لنظام حليفه الأريتري السابق وعدوه الحالي أسياس أفورقي، إلى سعيه للتخفيف من حدة العداوة وإصلاح العلاقات مع القادة في الخرطوم، وسُحبت القوات الإثيوبية من السودان، وحين انتهت الحرب عام 2000، كانت إثيوبيا مستعدة للعودة للعب الدور الذي لعبته سابقا: الوساطة، وإدارة التفاوض.مرة أخرى، جرى التفاوض تحت عباءة منظمة الإيغاد التي تمتعت إثيوبيا فيها بنفوذ كبير، وفي النهاية تم توقيع اتفاق السلام الشامل 2005 الذي وضع حجر الأساس لاستقلال الجنوب بعد استفتاء أجري في العام 2011، ويمكن القول أن سنوات عدم الثقة بين الخرطوم وأديس أبابا قد أدت إلى تغيير في الموقف الإثيوبي تجاه استقلال الجنوب، فضلا عن الرغبة الدولية في حسم المسألة بإقرار الانفصال. كان هناك في تلك المرحلة مخاوف إثيوبية عدة، أولاها أن يثير ذلك الانفصال النزعات الانفصالية الأخرى في الداخل الإثيوبي كـ«جبهة تحرير أورومو»، و«جبهة تحرير أوجادين»، فضلا عن أن من شأن اندلاع خلاف بين السودانَيْن الشمال والجنوبي أن يدفع بأعداد كبيرة من السودانيين إلى إثيوبيا، حيث تتداخل قبائل النوير والأنواك في كلتا الدولتين، أضف إلى ذلك أن الحدود بين إثيوبيا ودولة جنوب السودان لم يتم ترسيمها بشكل كامل، كيف تغلبت أثيوبيا عن هذه المخاوف ؟ لعلها العلاقات الوثيقة بين إثيوبيا وواشنطن، دفعت أديس أبابا إلى الاعتقاد أن واشنطن ستكون ضامنا للوحدة الإثيوبية.دخلت إثيوبيا بقواتها العسكرية إلى السودان مرة أخرى عام 2011، لكن هذه المرة كان الأمر تحت مظلة أممية وبموافقة من السودانيين، شمالًا وجنوبًا، لم يحسم انفصال الجنوب مسألة المناطق المتنازع عليه وأهمها منطقة «أبيي» الغنية بالنفط، ومع اندلاع الاشتباكات بين السودانين على المنطقة، تقرر إرسال قوات حفظ سلام إلى المنطقة للفصل بين القوات المتنازعة، كانت هذا القوات إثيوبية حصرًا، جندًا وقيادة، وقد أصر زيناوي على أن تكون تحت مظلة أممية لا إفريقية، كان من شأن ذلك أن يسهل من مهمتها بخصوص التمويل والخدمات اللوجستية، والأهم، منح ذلك الإثيوبيين اعترافا أمميا بأن أديس أبابا قوة فاعلة إقليميا يجدر الاعتماد عليها، كانت تلك خطوة غير مسبوقة، سيكون لها ما بعدها.وتجدر الإشارة إلى أنه نظرًا للعلاقة الخاصة التي ربطت بين الرئيس عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق ميليس زيناوي، فعندما قررت المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة توقيف بحق البشير، استطاعت إثيوبيا استصدار قرار من الاتحاد الإفريقي برفض التوقيف، وتحريض الأفارقة ضد المحكمة، باعتبارها مجرد أداة سياسية، وهو الموقف الذي يكشف عن عمق العلاقة بين نظامي البلدين.
لماذا تهتم إثيوبيا بإشراك السودان بمشروع سد النهضة؟
تاريخيًا، كانت السياسة الخارجية الإثيوبية محكومة بما يمكن أن نسميه «عقدة الحصار»، أي اعتبار أن إثيوبيا محاصرة دومابمجموعة من الأعداء وهو ما يفرض عليها أن تتعامل بشكّ مع الجميع، غير أن وصول ميليس زيناوي إلى السلطة أوائل التسعينات قد أتاح الفرصة لتغير نوعي في هذا الاتجاه، كان الرجل يرى أن الاقتصاد هو مفتاح الحكم، ومفتاح السياسة، ومفتاح كل شيء (حتى أنه أصر على دراسة الاقتصاد وهو في منصب رئيس الوزراء، و حصل على الماجستير من جامعة إيراسموس الهولندية عام 2004). ينحدر مليس زيناوي من أقلية «التيجراي» في بلد يضم نحو مائة مجموعة عرقية ودينية وتموج باضطرابات سياسية شتي على خلفية هذا التنوع، ومن ثم فقد كانت «شرعية الإنجاز الاقتصادي» هي سبيله الأمثل لتدعيم سلطانه الشخصي، وسلطان جماعته، ومن هنا فقد كانت خطط التنمية الاقتصادية هي محور السياسة الإثيوبية داخليا وخارجيا لعقدين ونصف من الزمان، وحتى بعد رحيل زيناوي فقد ظل «حلمه الاقتصادي» يحكم من القبر.كان حلم التنمية الاقتصادية يتطلب التخلي عن «عقدة الحصار» هذه لصالح إستراتيجية أكثر انفتاحا وتعاونا مع الجيران، وفي الحالة السودانية فقد كان التحالف السابق بين قادة البلدين عاملًا مساعدًا ومحفزًا على تعاون كهذا، وحين نتحدث عن خطط التنمية الأثيوبية فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو السدود التي تسعى أديس أبابا إلى تشييدها على النيل، وأبرزها بالطبع «سد النهضة »، يقع الأخير على بعد 40 كيلومترا من الحدود السودانية، وتهدف أثيوبيا من خلاله إلى أن تصبح أحد أكبر منتجي الكهرباء في القارة السمراء، هذا فضلا عما سيتيحه امتلاك بناء إستراتيجي ضخم كهذا من تغيير موازين القوى الجيوسياسية في منطقة حوض النيل، لصالح إثيوبيا وضد الهيمنة التاريخية لمصر. تريد إثيوبيا إذا أن تصبح سيدة حوض النيل، من خلال حشد دوله وراء خططها المائية، وهي تقدم إغراءاتها للسودان طمعًا في استمالته بعيدا عن الموقف المصري، فتارة تغريه بكهرباء السد المنتظرة والتي ستسهم بشكل كبير في سد الاحتياحات المتزادية للسودان من الطاقة، وتارة يدور الحديث عن فوائد حجز سد النهضة لكميات كبيرة من الطمي، وهو ما سيطيل عمر السدود السودانية، أو تتم الإشارة إلى فرص استغلال كميات المياه الهائلة التي سيتم تخزينها في بحيرة السد، والتي بإمكان السودان الاستفادة منها في زراعة مساحات وافرة من أراضيه، تحاول إثيوبيا تسويق مشروع سد النهضة لدي المسؤولين في الخرطوم باستخدام جملة العروض هذه وغيرها، ويبدو – من خلال قراءة الموقف السوداني تجاه تلك القضية – أن مساعي أديس أبابا تنجح بشكل كبير.
هل لإثيوبيا في السودان مآربُ أخرى غير السد؟
ليس سد النهضة هو كل شيء على كل حال، فمنذ استقلال إريتريا قبل ربع قرن، صارت إثيوبيا دولة حبيسة، بلا منفذ على بحر أو محيط، ومن ثم فهي تعتمد في حركة تجارتها على موانئ دول الجوار، ومنها موانئ السودان، كما أن إثيوبيا تحصل على النفط السوداني بمزايا تفضيلية. كما أن أعدادا كبيرة من الإثيوبيين قد نزحت إلى السودان واندمجت في سوق العمل، وتمثل تحويلاتهم المالية موردا اقتصاديا هاما للدولة الإثيوبية، أضف إلى ذلك أن المستثمرين السودانيين يأتون في المرتبة الثالثة في الاستثمار في إثيوبيا بعد الصين والسعودية، حيث تبلغ استثماراتهم حوالي مليار و 600 مليون دولار أمريكي. لا يخلو الأمر مما يعكر صفو العلاقة أحيانا، كالخلاف الحدودي على «منطقة الفشقة» الخصيبة والتي تعتبرها الخرطوم أرضا سودانية، وتتهم مزارعين إثيوبيين بالتعدي عليها، وقد تم تشكيل لجنة مشتركة بين البلدين لتسوية هذا النزاع فيما اعتبر محاولة أخري من أديس أبابا لتلطيف الأجواء من المسؤولين السودانيين على خلفية قضية السد.