احتقان على شفا الانفجار في إثيوبيا
ما الذي قد يجعل المرء مهتمًا بالتعرف على تاريخ إثيوبيا أو حاضرها، وهي البعيدة عنا أرضًا وثقافة، فلم يزرها أحدنا يومًا، ولن يفعل أحد على الأرجح؟.
ثمة إجابتان: أولاهما -وأكثرهما مثالية- أن على المرء أن يتعرف على ثقافات الآخرين، بوصفهم زملاء له في الانتماء للجنس البشري ابتداءً، تحقيقًا للآية الكريمة «وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا». الإجابة الثانية -والأكثر واقعية للأمانة- أن هناك سدًّا يُبنى في هذا البلد من شأنه أن يتحكم في إمدادات المياه الواردة إلى أهل الشمال، وسواء كنت ممن يرى الإثيوبيين في موقع العدو الذي يجب حذره، أو الصديق الذي يمكن تسوية الخلافات معه بالمودة والحوار، فإن معرفته أمر من صميم الواجب، هذا هو السبب الذي من أجله انطلقنا في صناعة هذا المقال، سنتحاول التعرف إذن على إثيوبيا من الداخل، شعبًا وحكومة، تاريخًا وحاضرًا.
أمم في أمة: ممّ يتكون «الشعب الإثيوبي»؟
يعيش في إثيوبيا، التي يبلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة ومساحة أراضيها 1.127.127 مليوم كم مربع، حوالي 70 مجموعة عرقية، وتصل بعض التقديرات بها إلى نحو 100 مجموعة؛ مما يعني أنه ليس من السهل أبدًا على أي نظام أن يقوم بإدارة هذا التنوع. ويتوزع هؤلاء السكان على أقاليم البلاد التسعة، حيث ينص دستور البلاد على الفيدرالية الديمقراطية، كما يعطي سكان الأقاليم المختلفة الحق في تقرير المصير، وإن تكن تلك المبادئ غير مطبقة على أرض الواقع بشكل كبير.
ولتصنيف هذه الجماعات وفق معايير اجتماعية سياسية تاريخية، حسب مقدار نفوذها، ووزنها النسبي وقدرتها على لعب دور سياسي، أثر في تاريخ إثيوبيا وحاضرها. سنقسمها إلى ثلاث مجموعات كبيرة؛ هي الأمهرة، والتيجراي، والأوروميين، فضلا عن جماعات أخرى أقل حجمًا.
الأمهرة
هي الجماعة الثانية في إثيوبيا من حيث عدد السكان، إذ تبلغ نسبتها نحو 30% من مجمل السكان، ولكنها تاريخيًا كان لها الغلبة والسيطرة على مفاتيح السياسة والاقتصاد والثقافة. فاللغة الأمهرية هي اللغة الرسمية، والأمهريون قد ظلوا يحكمون إثيوبيا حتى العام 1991، حين وصل مليس زيناوي إلى السلطة؛ ليؤسس نظامًا جديدا يتحكم فيه التيجراي، كما سنسرد لاحقًا.
يشغل الأمهريون مواقع متقدمة عسكريًا ومدنيًا، ويشكلون الصفوة المتعلمة، ويدين أكثرهم بالمسيحية الأرثوذكسية، فيما تبلغ نسبة المسلمين نحو 17% ويتركزون بشكل أساسي في الجزء الشمالي الغربي من البلاد.
التيجراي
يقع إقليم التيجراي في الجزء الشمالي من البلاد، وتبلغ نسبتهم من 7-10 بالمئة من نسبة السكان، مشكّلين بذلك الجماعة الثالثة من حيث العدد. ويدين أغلب هؤلاء بالمسيحية الأرثوذكسية -كما الأمهريين- ، مع نحو 16% من المسلمين، ومن بينهم عائلة الجبرتي التي ينحدر منها المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي.
يُعتبر التيجراي هم الفئة الحاكمة في إثيوبيا حاليًا، ويتهم رئيس الوزراء السابق مليس زيناوي الذي ينحدر من التيجراي بالتأسيس لحكم أقلوي يستأثر فيه أبناء عرقيته بالسلطة والنفوذ. ورغم أن هناك الكثير من التداخل في السمات والملامح بين الأمهريين والتيجراي، إذ ينحدر كلاهما من أصول سامية ممن سكنوا البلاد قديمًا ويطلق عليهما معًا اسم الأحباش؛ نسبة إلى دولة الحبشة القديمة التي أسسوها، رغم هذا يمكن القول إن ثمة نظرة فوقية متبادلة بين كل من الأمهريين والتيجراي؛ إذ يرى التيجرينيون أنفسهم أكثر عراقة ونقاءً، فيما يراهم الأمهريون جماعة ماضوية منعزلة فلا هي تصلح للحكم، ولا أبناؤها يمتلكون مؤهلات الزعامة.
الأوروميون
هم العرقية الأكبر من حيث عدد السكان في إثيوبيا، تتراوح نسبتهم بين 40-50% من مجمل السكان، ينتشرون في الوسط والجنوب والغرب، وتقع العاصمة أديس أبابا في قلب إقليم الأورومو، والنسبة الأكبر منهم هم من المسلمين، واللغة المحلية هي اللغة الأورومية.
يتهم الأوروميون نظام الحكم الحالي بتهميشهم، و خلال الأشهر الأخيرة اندلعت في الإقليم احتجاجات شعبية واسعة ضد سياسة الحكومة -سنفصّل أبعادها لاحقًا-، فضلاً عن وجود مجموعات مسلحة تناهض سلطة الحكومة وتسعى إلى حق تقرير المصير، وأبرزها «جبهة تحرير أورومو Oromo Liberation Front».
الجماعات الأخرى
بخلاف الثلاث مجموعات السابقة، فإن هناك العديد من الجماعات الأخرى الأصغر عددًا والأقل حضورًا، بعضها قد يكون له تأثير في مجريات التاريخ والسياسة، إلا أنه ليس تأثير حاسم.
من أمثلة هؤلاء: الصوماليون في إثيوبيا الذين يسكنون إقليم أوجادين، وهم يشعرون بالانتماء إلى الصومال لا إلى إثيوبيا، رغم كونهم من مواطني الأخيرة، يقاومون سياسة الضم والإلحاق، وتخوض «جبهة تحرير أوجادين» تمردًا مسلحًا ضد سلطة الحكومة المركزية في أديس أبابا.
وهناك أيضًا العفر الذين ينتشرون في إثيوبيا وإريتريا وجييوتي، والفلاشا الذين يعتنقون الديانة اليهودية ولم يبق منهم في إثيوبيا غير بضعة آلاف بعد هجرة أغلبهم إلى إسرائيل أواخر القرن الماضي، فضلاً عن العشرات من الجماعات الأخرى، حتى إن الإقليم الجنوبي يشتمل وحده على ما بين 20 إلى 40 جماعة إثنية.
ليست إثيوبيا إذن أمة متجانسة، بل فسيفساء من جماعات عرقية ودينية متفاوتة الأحجام والتأثير، ومن ثمّ فإن من الصعوبة بمكان على أي حكومة مركزية إدارة هذا التنوع خاصة إذا كانت ذات صبغة أقلوية، كما هي الحكومة الحالية التي يشكل التيجراي نواتها الصلبة.
تاريخ إثيوبيا الحديث: حروب، فحروب، فسلطة مستبدة
بين عامي 1916 و 1974، كانت إثيوبيا تحت حكم إمبراطوري بزعامة هيلا سيلاسي. يعدّ الأخير أحد أهم رموز إثيوبيا الحديثة؛ لطول مدة حكمه، وما شهدته من أحداث جسام أهمها قدرته على طرد الاحتلال الإيطالي للبلاد بمساعدة بريطانية، وتوسعت إثيوبيا في عهده بشكل كبير، كما قام بضم إريتريا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في أواخر عهد هيلا سيلاسي، وعلى خلفية اتهامات بسوء الإدارة وانتشار المجاعات والجفاف، اندلعت احتجاجات وإضرابات شعبية وطلابية، وتمكن المجلس العسكري الشيوعي المدعوم سوفيتيًا بقيادة «منغستو هيلا ميريام» من السيطرة على السلطة. أقام هؤلاء حكمًا شيوعيًا بنظام الحزب الواحد لم يسلم من الحروب الداخلية والمجاعات. مع تدهور الأوضاع داخليًا وانهيار الاتحاد السوفييتي ومن ثم تراجع الدعم المقدم لمنغستو، تمكنت قوات «الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا» من السيطرة على العاصمة؛ لينشأ في البلاد نظام جديد لا يزال ممسكًا بزمام السلطة إلى يومنا هذا.
في البداية كانت الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا تضم طيفًا واسعًا ممثلاً لمعظم الإثنيات الإثيوبية، غير أنه لم يمض عليها وقت طويل في الحكم حتى اندلع خلاف بين مكوناتها؛ ما دفع بعض الفصائل إلى الانفصال عنها، وأهمهة «جبهة تحرير أورومو» التي لا تزال تخوض كفاحًا مسلحًا ضد الحكومة المركزية حتى اليوم. حاليًا تُعتبر الجبهه الثورية الديمقراطية بمثابة الحزب الحاكم في البلاد، وتتشكل من أربعة مكونات هي «جبهة تحرير شعوب تيغراي»، «الحركة الأمهرية الوطنية الديمقراطية»، «منظمة شعوب أورومو الديمقراطية»، «الجبهة الديمقراطية لشعوب أثيوبيا الجنوبية»، وتوصف الأحزاب الثلاثة الأخيرة بأنها أحزاب صورية، مهمتها الأساسية تجميل صورة الحكم الأقلوي الذي يتحكم فيه التيجراي بمفاصل السلطة. ورغم أن رئيس الوزراء الحالي «هيلا ميريام ديسالجين» -والذي جاء للسلطة بعد وفاة مليس زيناوي عام 2012- ليس من التيجراي بل تعود أصوله إلى إحدى المجموعات العرقية الصغيرة والهامشية، إلا أن ذلك لم يغير من حقيقة هيمنة التيجراي على مفاصل الحكم ومواطن النفوذ في البلاد.
يواجه الحزب الحاكم في البلاد اتهامات بالسيطرة المطلقة والانفراد بالحكم وقمع المعارضين، تُضيّق السلطات على حرية الإعلام وتعتقل الصحفيين غير المرغوب فيهم، وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت في 2015، حصل الحزب الحاكم على 89% من مقاعد البرلمان، تاركًا النسبة الباقية لحلفائه من الأحزاب الصغيرة، وبعبارة أخرى:لم تفز المعارضة بمقعد واحد.
ما الذي يقض مضاجع الحكام في أديس أبابا ؟
يواجه الحكم الحالي في إثيوبيا عقبات عدة، بداية من الحركات المسلحة التي تقاتل القوات الحكومية، كجبهة تحرير أوجادين وجبهة تحرير أورومو، وهي حركات تخوض تمردًا مسلحًا يقضّ مضاجع المسؤولين في أديس أبابا.
فضلاً عن المتمردين المسلحين، فإن ثمة احتجاجات شعبية تنطلق بين حين وآخر اعتراضا على السياسات الحكومية، كان آخرها ما شهده إقليم الأورومو خلال أغسطس/آب الجاري. كان السبب الظاهر للاحتجاجات هو قرار الحكومة بتوسيع العاصمة الإثيوبية، إذ تقع أديس أبابا ضمن أراضي إقليم الأورومو؛ ما يعني أن توسيعها سيكون على حساب أراضي المزارعين والسكان من الأورومو. أثار الأمر حراكًا شعبيًا واسعًا تصدّره طلاب المدارس والجامعات، ردت الحكومة باتهام المحتجين بالخيانة والارتباط بالمتمردين والإرهابيين، وتصدت لهم قوات الأمن بعنف مفرط أدى إلى مقتل العشرات؛ الأمر الذي أعاد تسليط الضوء على هشاشة الوضع السياسي القائم في البلاد وإمكانية انفجار الأوضاع وخروجها عن السيطرة في أي لحظة.
يمكن القول إن تلك الاحتجاجات مثلت في واقع الأمر مؤشرًا على الغضب والإحباط المتصاعد في أوساط كثير من الإثيوبيين، جراء التهميش الاجتماعي وحالة انسداد الأفق التي يعاني منها الكثير من الشباب. وجاء رد الفعل الحكومي المرتبك كدليل على التخبط الذي يسود بين أوساط النخبة الحاكمة في مرحلة ما بعد زيناوي، بدا لوهلة أنه ليس لدى القادة الجدد للبلاد رؤية موحدة واضحة، وبدت البلاد كما لو كانت تعيش على ما تبقى من رؤية زيناوي فقط، كانت أشلاء زيناوي تحكم من القبر.
فضلاً عن الدلالات السياسية والاجتماعية لتلك الاحتجاجات، فإنها أعادت كذلك تسليط الضوء على إشكالات عدة في النظام القانوني الإثيوبي. ينص القانون على ملكية الدولة لكافة الأراضي، وكانت تلك هي حجة الحكومة لتنفيذ خطتها لتوسيع العاصمة. كما ينص الدستور على أن إثيوبيا دولة فيدرالية، ورغم ذلك لم تلتزم الحكومة المركزية بروح النظام الفيدرالي قط، وبقي تدخل الحكومة المركزية في السياسات المحلية قائمًا.
رغم ما سبق، لم تخلُ فترة حكم مليس زيناوي ومن بعده هيلا ميريام ديسالجين من إنجازات. ينظر الكثير من الاقتصاديين الدوليين لإثيوبيا كأحد أبرز التجارب الاقتصادية الرائدة، ويحقق الاقتصاد الإثيوبي معدلات نمو مرتفعة يروق للحكومة أن تتباهى بها في المحافل الدولية، وتستخدمها كمبرر للحصول على المزيد من الأموال من الجهات الدولية وتعزيز شرعيتها الداخلية. غير أن بعض التقارير القليلة تشكك في جدية هذه الأرقام، أو في أن السياسات الحكومية تحقق استفادة المواطنين الفعلية من عائدات هذا النمو.
حققت إثيوبيا -كذلك- الكثير من المنجزات على مستوي العلاقات الدولية والنفوذ الإقليمي، تمكنت أديس أبابا من الاحتفاظ بعلاقات متميزة مع الولايات المتحدة التي اعتبرتها حجر زاوية لمحاربة الإرهاب في شرق أفريقيا، فضلاً عن نفوذ إقليمي متنامٍ تعززه تدخلاتها العسكرية في الصومال ومشاركاتها المتعددة في قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي. وكان لهذا الوضع الدولي دوره في تشجيع الحكومة على المضي قدمًا في مشروعاتها الكبرى ومن بينها «سد النهضة»، مطمئنين إلى دعم -أو على الأقل عدم اعتراض- القوى الكبرى على خطواتها الراغبة في تغيير موازين القوى الإقليمية في منطقة حوض النيل.
- عبد السلام البغدادي، البعد الإيجابي في العلاقات العربية الإفريقية والتعددية الإثنية كرابط ثقافي، كتاب صادر عن المركز العربي