إسلاميون أم مسلمون ؟ (2-2)
أسهبنا في القسم الأول في تتبُّع الخلفية التاريخية للمصطلح واشتقاقاته، وفي هذا القسم نتتبع أثره، وأسباب استخدامه، لتكتمل الأطروحة.
لقد عبَّر استخدام لفظة «إسلامي» ليس عن طارئ لغوي فحسب، ولا عن مُجرَّد أدلجة جعلت من الإسلام أداة لمحاربة المذاهب البشرية ومنافستها على أرضيّتها الوضعيّة؛ بل عبَّر عن تغيُّرٍ أعمق اعترى الحركة الإسلاميّة في التصوّر والاعتقاد. ما يُمكن تسميته ب«الأثر السلفي» أو «الأثر السعودي». وعلى عكس ما يتوهَّم العلمانيون والمراقبون والباحثون الغربيون؛ فقد كان جوهر ذلك الأثر تشوُّهًا في الرؤية وتسطيحًا للتصوّر الإسلامي للجيل الذي عاش في السعودية وأكشاك الخليج، وتاجر فيها ومعها؛ إذ تم دمجه بهديه الظاهر في منظومة الاقتصاد الرأسمالي، ولو على يسار تلك المنظومة؛ بديباجات إسلاميّة طنانة (السعد والريان والبنوك الإسلامية حالات نماذجية)، بالإضافة لدمجه بعد ذلك في النظام السياسي ما بعد الكولونيالي تحت السادات، بمعونة من عمر التلمساني ومن تخفّى وراءه من كوادر النظام الخاص. وكان الأثر الأفدح هو «اعتدالُ» رؤية هذا الجيل السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة؛ إن شئنا النظر بعين الغرب وأدواته. «اعتدال دعويّ» وبراغماتيّة إجرائيّة صاحبها تطرُّف وتمركُزٌ حول جُزئيّات الفقه وتفاصيل الاعتقاد النظريّة. «اعتدالٌ» عملي وطنطنة نظريّة استهدفت أسلمة مظاهر الواقع المتعفِّنة كما هي، بدلًا من إعادة تشكيل أسس الاجتماع الإنساني على مهل. وكان المظهر الأهم لهذه الخلخلة هو انتقال الإخوان الفجّ من خانة المربي-الداعية الذي يعمل على بثّ تعاليم الإسلام أفقيًا في الوجود، لتغيير بنية الاجتماع الإنساني (والسياسي والاقتصادي فروع منه)؛ إلى خانة الحزبي الذي يُنفق عمره في محاولة إقناع السلطة المتغلّبة بتقنين الشريعة وتقييد رحابتها، تمهيدًا لتطبيقها؛ حتى تصير الدولة ما بعد الكولونيالية دولةً إسلاميّة!
لقد فرضت البنية الهرميّة للتنظيم نفسها على التصوّرات وأعادت صياغتها، حتى أننا لا نغالي حين نذهب إلى أن منتسبي جماعة الإخوان لم يشغلوا خانة الداعية-المربي اجتماعيًا وأفقيًا إلا في حالات نادرة، وفردية، وشاذة. إذ كان السمت الغالب هو الداعية-الحزبي الذي يصُبّ أيديولوجيته على من هو دونه رُتبة داخل التنظيم الرأسي. وحتى حين يدعو أحدًا من خارج تنظيمه؛ فإنه لا يدعوه إلى الله مُتجرّدًا، بل يدعو إلى حزب يتوهَّم أنه «حزب الله». لذا؛ كان من الطبيعي أن تتفكك جماعة الإخوان كمبدأ وتصوّر، منذ السبعينيات؛ وتنحلّ إلى عدّة حركات وتنظيمات حزبيّة؛ تقوم كل منها على ثغرٍ مما فرَّط فيه الإخوان (السلفية العلمية، الجهاد، إلخ)، ولو اعترى ذلك تشوشٌ واضح في التصوّر، لا يقل خطورة عن التشوُّش الإخواني. إذ تُعاني جميعها من أزمة الحزبيّة؛ كونها جميعًا مجرد ردود أفعال على نكول بعضهم بعضًا عن القيام بواجبات الحركة الإسلامية/الداعية المسلم كاملة.
لقد كان أسوأ ما في «الأثر السعودي» هو انتقال عدوى الانبطاح للسلطة من السلفية النجدية السلطوية لتُشكِّل قلب الأيديولوجية الجديدة لجماعة الإخوان المسلمين (وربّما كان هذا هو سبب ظهور التيار السروري كرد فعل لاحق)، في الوقت نفسه كان محمد قطب يعزل نفسه في السعوديّة، ويتبنّى ويُربّي جيل «سعودي» على قيمٍ مُناقضة تمامًا. كان تأثير الفراغ الذي خلفه آل قطب في مصر شنيعا، فتمكَّنت السلفيّة النجديّة في مصر عبر المركب الإخواني وبأموال السعوديين، في حين انكمشت قيم الحركة الإسلاميّة، بشمولها؛ لتُربَّى بها نخبة صغيرة، شكَّلت إلى حد ما؛ ما عُرف بعد ذلك في السعوديّة بجيل الصحوة … المجهضة! وكأنه قُدِّر للحركة الإسلاميّة الاحتفاظ بقيمها، إلى أجل؛ في جيل آخر وبلدٍ آخر، بل ومواجهة ذات التجربة مع الاعتقالات والتدجين، لتمحيص الصف، وحفظ المبدأ نقيًا في أصله، مهما تكاثف عليه الغبار وتغبّشت الممارسة. وهو ما اصطُنعت الفرقة المدخليّة بعدها لتفكيكه؛ حتى يتساوى حجم السائل في الآنية «العربية» المستطرقة للحركة الإسلامية، فلعب ربيع المدخلي في سعوديّة التسعينيات دور شيوخ الأزهر في مصر الستينيات.
وبعد أن كانت الحركة الإسلامية أملًا حقيقيًا، بتمثيلها النسبي لطليعة الأمة؛ أملًا يُعاني تعثُّرًا اجتماعيًا ودعويًا بسبب القيود التنظيمية التي يُجاهد للتفلُّت منها، فقد تفككت الحركة/الجماعة إلى فرق وأحزاب وجيوب أيديولوجية انكفأت جميعها على محاولة تحقيق حلم «تطبيق الشريعة» في طوبيا «الدولة الإسلامية»؛ سواء باستخدام أدوات السلطة السياسية ما بعد الكولونيالية (الإخوان)، أو بمحاولة الاستيلاء على هذه السلطة بقوة السلاح (الجهاد والجماعة الإسلامية)، أو حتى بالتنظير لهذا التطبيق المغلوط والحض «السلمي» عليه (السلفية العلمية والدعوية). لقد استُبدل الحراك الاجتماعي-الدعوي-التربوي من أسفل، في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين؛ بمعركة تطبيق الشريعة من أعلى وبناء مؤسساتها القانونيّة، وهي المعركة التي شاركت فيها عشرات الأقلام والأصوات المشهورة، خصوصًا في مجلّتي الدعوة والاعتصام؛ وهللت لما توهَّمته إعادة للحق إلى نصابه وتحكيمًا للشريعة في باكستان، على يد ضياء الحق وبمعاونة الجماعة الإسلاميّة. فكان «الإسلاميون» المصريّون يهاجمون صوفي أبو طالب تارة، وتارة يطالبونه بالانصياع للجماهير المسلمة؛ كأن من المسلَّم به (والطبيعي!) أن تعزل الشرائع الإلهيّة في مجتمع مسلم ويُتحاكم إلى الطاغوت، وتظلّ الجماهير المسلمة الغيورة صامتة لا تحرك ساكنًا، يحدوها الرجاء؛ بانتظار تفضُّل أولي الأمر على شريعة الله! وقد تزامن ذلك مع أسلمة النظام البنكي وظهور ما سُمّي بالبنوك الإسلاميّة، بالإضافة للموجة العارمة من الكتب التي تسعى لتقديم حلول قانونية/فقهيّة لكل إشكالات الواقع «الإسلامي»؛ بدءًا بالتنظير للبنك الإسلامي وانتهاءً بالتأصيل للدولة «الإسلاميّة»، ومرورًا بأسلمة النظام البرلماني والمنظومة الديمقراطية؛ بل وتفنيد آراء الشاب –حينذاك- عبد الوهاب الأفندي، الذي كتب في مجلة العربي الكويتية، التي كان يرأس تحريرها أحمد بهاء الدين؛ مُعارضًا تطبيق الشريعة، رُبّما بتأثير التجربة السودانيّة.
إن الإسلامي في الممارسة التاريخية-الكلامية هو من أوَّلَ النصّ وشقق المقولات، ولو كان ذلك بضرب النصوص ببعضها. وهو يختلف عن المسلم في أنّهُ يمتحن الناس ويواليهم ويتبرأ منهم على تأويله، أو تأويل شيخه، لا على النصوص المحكمة التي كان الرسول يُعلّمها لكل أحد. أما المقلِّدُ أو العامّي فهم الجمهور؛ الذين قد ينحازوا لتأويلٍ أو رأيٍ، لمجرد التقليد والشعور بالانتماء؛ لكنَّ شبكة علاقاتهم الإنسانية والاجتماعيّة لا تتشكَّل على أساسه، وإن تعصّبوا له حينًا، وفي أوقات الشحن المذهبي. أما الإسلامي المحدث فتضاف لصفته السالفة صفتين أخريين: أولاهما دوام تعلُّق نظره بالدولة باعتبارها هدفًا وغاية، ووسيلة وحيدة لحفظ الدين والدعوة إليه، وضرب المثل المبتغى، وتجسيد النموذج الربّاني. فهو عبدٌ للبنى الصلبة؛ لا يثق في المجتمع صراحة، ولا يثق في أثر القرآن ضمنًا، ولا يعترف بوازع ل«المؤمن» إلا وازع السلطان، وإن دبَّج الخطب عن مكانة القرآن والسُنّة؛ إلا أنه في قرارة نفسه يظل مُعلَّق القلب مُعطَّل العقل بانتظار دولة التمكين التي ينتفي فيها التكليف الفردي، ويلزم المجتمع حدّه، ويتوقف التاريخ بالتطبيق الصارم ل«القانون الإسلامي»، وهو بهذا يعامل السلطة/الإمامة، ضمنًا؛ باعتبارها من أصول الدين. أما الصفة الثالثة فهي الفصل بين المعرفة، بكل فروعها؛ والديانة، وبين المنتجات الحضاريّة والإجراءات التقنيّة من جهة وبين الرؤية الكونيّة الحاكمة؛ فهو يقبل كل شيء بغير تمحيص ولا عرض حقيقي على القيم الحاكمة للإسلام، ورأس ذلك قبوله للنظام الرأسمالي بلا غضاضة؛ لعجزه عن تفكيكه اجتهادًا، وتشوّش رؤيته وتشظّيها. لهذا؛ فإن أكثر تعامله مع الأمور الحياتيّة والدنيويّة هو تعامُل تسويغ وتبرير وتأصيل سطحي، وليس تفكيكًا وتركيبًا اجتهاديًا يقف على طبيعة الظاهرة الإنسانية ويستكنه حقيقتها، ومن ثمّ يقيس حلّها أو حرمتها. إن الإسلامي المحدث مُقلِّد بطبيعته، وهو يُقلِّد الغرب في أكثر مظاهر معاشه بغير تحرُّج، كما يُقلِّد هو وشيخه غيرهما، ويواليان ويتبريّان على ما يُعجزهما الاستدلال عليه!
إن إعادة تعريف المسلم، بما أن الإسلام أصلًا إيمان بهيمنة الوحي على التاريخ والحياة؛ بأنه «إسلامي»، حتى لا يواجه من يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض بحقيقتهم؛ ثم تضييق التعريف ثانية إلى تعريف مذهبي فرقي. هذه العملية التي تحدث غالبًا بشكل دفاعي غير واع، تبتعد بالفرق عن حقيقة الإسلام بمقدار ما تنقسم على نفسها، لتُفرز أحزابًا وفرقًا جديدة؛ إنه تأهيل للمجتمع لقبول الكثير من مظاهر الشرك، والتأصيل لها بحُجّة «عدم التكفير». من ناحية أخرى؛ فإن إسباغ المحدثين لصفة «إسلامي» على شخص أو مذهب أو شيئ، صارت تسحبه لمجال المُطلقات المقدسة وتنهي به حركة التاريخ، على نقيض الاستخدام التراثي؛ فقد تحقق الفردوس الموعود ب«أسلمة» البنك الربوي أو التنظيمات الشركية ذات الطبيعة الهرميّة أو الرؤية التي أفرزتهما؛ قبل أن يُرفعا لمرتبة القداسة. إن هذا التصور السكوني مُناقضٌ للإسلام على طول الخط، وهو انحدار لإلزام المتمذهِب ب«لازم» مذهبه، ليستريح المؤدلجون الكسالى من التفكير والرصد والبحث والفهم.
لقد التقى مقصد الأشعري «التدنيسي» من استخدام اللفظة مع واقع الإسلاميين المعاصر، برغم أنهم قصدوا عكس الدلالة؛ لأن القداسة التي يُسبغها الإنسان على شيء/شخص لا تنتهي إلا بنزع القداسة عنه كليًا، بل بتقوّض فكرة القداسة نفسها، والوقوع في شرك الدنس؛ وذلك حين يفشل الشيء/الشخص في تحقيق مهمته الدنيوية «المدنسة». وربّما كان هذا هو ما يُفسِّر موجة إلحاد شباب الإسلاميين الحزبيين في الأعوام الأخيرة.
إن قبول تسمية أخرى للمستخلف، واعتبارها ضمنًا أسمى من وصف «المسلم» الذي ارتضاه الله لعباده، هو في حد ذاته تجل لانغلاق النسق وانحراف أصحابه. وليس ثمة فارق حقيقي بين اعتبار السلفية «مذهب» الصحابة والتابعين، وبين اعتبارهم أشاعرة؛ فهو ذات النسق الوضعي يملئه المتحزبون، تحت أي شعار؛ بترهاتهم. إن المسلمون يجاهدون الجاهلية في أنفسهم وأهليهم، لإقامة دين الله فيها، وفي الأرض كلها؛ قيامًا بواجب البلاغ عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن الإسلاميين «يجاهدون» بعضهم بعضًا في سبيل السلطة؛ «يجاهدون» في الانتخابات فقط!
وأحد لوازم هذه الرؤية الحزبية في مراحلها الأخيرة، قبل تحطم النسق؛ هي السعي لاقتلاع مخالفها (ولو بمعاونة السلطة كما فعل المعتزلة مع الإمام أحمد والبرهاميّة مع الإخوان)، ويكون ذلك إيذانًا بتحطم وشيك للجميع. إن الهلاك يكمُن فيما يتوهمه المتحزب حفظًا لنقاء «العقيدة». ذلك أن التمذهُب كتقليد هو بطبعه تصور سكوني نهائي للإسلام كقوى مُحركة ومتحركة. فشتان بين العقيدة النهائية التي انعقد القلب على تفاصيلها النظريّة، وبين الإسلام كتصور حي نابض مُتدفق أبدًا؛ يزيد العمل فعاليته أو ينتقص منها في النفس والوجود.
منذ بضعة عقود ألف أستاذنا محمد قطب، رحمه الله؛ كتابًا بعنوان: «هل نحن مسلمون؟»، وظني أنه سؤال الوقت وكل وقت، والذي لا يمكن إجابته بشكل نهائي؛ خصوصًا لإسلاميي السلطة. وإذا كانت الأيديولوجيات كلها تعاني من مسألة تعريف المنتمي إليها في مرحلة تحطُّم النسق كما في مرحلة تشكله؛ فإن الإسلام لا يقتضي إعادة تعريف المنتمي إليه تعريفًا نظريًا رياضيًا مثل: السلفي أو اليهودي أو الاشتراكي أو الشيعي إلخ، وإنما يقتضي دوام محاكمة الواقع الإنساني والاجتماعي للتعريف القرآني المتجاوز للتاريخ، بغير سفسطة عن أصول نظريّة وجذور تاريخية وماديّة. وشتان!
والسؤال الذي تطرحه العلمنة الفجة للممارسة والتصوّرات السياسية ل«الإسلاميين»؛ هو: هل يُغني وصف «إسلامي» عن حقيقة «المسلم»؟ وهو مجرَّد سؤال بلاغي يفضحه اطراد نسق الممارسات اليومية. وبعد أن كان الإسلاميون يتقاتلون على تأويله، ها هم يحثون خطاهم اليوم لتنحية الكتاب كله. إنه إذا كانت ثقافة الإسلاميين السياسية لا زالت دون الديمقراطية بكثير، من وجهة نظر الغرب؛ فإنهم لا زالوا يحتاجون للديمقراطية لفرض «شرعيتهم». ذلك أن حضور الإسلاميين السياسي يجعل من دعوى الديمقراطية التي يتبناها أي نظام يُقصيهم من المجال السياسي؛ مجرد هراء. وكما يقول أوليفييه روا: لم يعد الإسلاميون والديمقراطية في العالم العربي يستطيعون الحياة بغير بعضهم بعضًا، فقد صارا قرينين!
إن الإسلام ليس «مشروعًا حضاريًا» ولا «برنامجًا نهضويًا» يُمكن فصله إجرائيًا ومعرفيًا عن نظام الاعتقاد والعبادة، ومن ثم نُحسن التمييز بين المسلم والإسلامي على دين من يؤيديون استخدام المصطلح. إن الإسلام أصلًا وحصرًا هو نظام للاعتقاد والعبادة يُفرز تلقائيًا، من خلال حيوات المسلمين؛ منتجاته الحضاريّة والسياسي والاقتصادي بعض منها. إن الحضارة والنهضة، وسائر المسمّيات البرّاقة التي يفرح بها المهزومون؛ هي مُجرَّد ثمار لرحلة طويلة من التزكية أثمرت في مراحلها النهائية هذه المنتجات «الحضاريّة» التي يُفاخر بها البعض. إن هذه المنتجات الحضاريّة البرّانية هي أكثر ثمار الرحلة هزالًا وضعة؛ إنها المشهد الأخير في رحلة طويلة من الكبد للعروج إلى الله، إنها أتفه ثمار القُرب من الله، ولا يُمكن قطعًا استعادة تلك الثمار بغير استنبات جديد للبذور.
لكن هل تُثمر البذور بهذه النيّة أصلًا؟
هذا هو سؤال الفعاليّة الاجتماعيّة.
إن علو أصحاب المنتجات الحضاريّة والمادية من غير المسلمين داخل الحضارة الإسلامية يعني انحدار المجتمع المسلم للانسلاخ من الوحي. صحيح أن المنتج الحضاري لغير المسلم يظل موسومًا بوصف «الإسلامي»، معرفيًا وأجرائيًا؛ وصحيح أن حجم أثر الإسلام كنظام للكون يبرُز فيه بشكل لا يُمكن للعين أن تخطئه؛ لكنه أثر ميت لتقليد محض. إنه ليس الأثر المحرك للإسلام نفسه غضًا طريًا، بقدر ما هي بقاياه المتكلِّسة في الفضاء الاجتماعي. إن الإسلام الذي يُمكن تقصّيه في المنتجات الحضاريّة كافة هو إسلام مجتمعات مُسنّة مريضة، قعدت عن كثير من العزائم وتفلتت من أكثر التكليف، وارتمت في أحضان الترخُّص والترف. إن هذا الإثمار مؤشر على علمنة التصوّر، والانحدارٌ السريعٌ للإخلاد إلى الأرض. وفي سياق الحركات الإسلاميّة المعاصرة؛ يصير مثل هذا الانكباب على وهم «الإثمار الحضاري» مجرد رد فعل علماني على علمنة الغرب والدولة ما بعد الكولونيالية، لكنه يُسهم في إثمار جهدهم، ولا يقاومه على الحقيقة. إنه تكريسٌ لحصار الإسلام في أصغر بقعة ممكنة من النفس والمجتمع، وهذا ما سنفّصله عند الحديث على علمنة الحركات الإسلاميّة إن شاء الله.