آخر الوعود المبتورة
في ليلة صيفية، جلست على مكتبي الرخامي أنتظر زوجتي وهي تتجهز لحضور عرس جارتنا، وصديقتها الأثيرة، التي يبعد بيتها عن بيتنا عشرات الأمتار، والتي لم تكن قبل زواجها تفارق بيتنا وأريكتنا المريحة التي ما أخذت كفايتي منها مذ تزوجت، لأجلها وزياراتها الكثيرة، كنت أظنني أحب الأصدقاء ومجالستهم وأحب لزوجتي أن تكون مثلي، لكن كان اكتشافًا أني أفضل الوحدة والتمتع بما لدي منفردًا.هَنا؛ الحسناء الصغيرة ذات الثلاث أعوام، تطرق باب غرفتي وقد ارتدت تنورةً صيفيةً شفافة، تُبدي بياض جلدها وحُسنها. كانت الجميلة تتخايل من الفرح على أنغام أهازيج أمها وهي تُلبسها وترتدي معها الثياب التي أعدتها للمناسبة قبل شهر، وبعد شهر. (قبل شهر من المناسبة وبعد شهر من البحث والتنقيب عن المقطوعة النادرة، التي لا أدري فيما أعجبتها لكن وللأمانة أثنيت على اختيارها مرغمًا، وفرحًا)ألقت هَنا تحيتها المعهودة وطبعت على جبيني قبلة حميمية ويداها الصغيرتان تطوّقان رقبتي، ولمّا لم يعجبها اهتمامي بمجيئها، قررت أن تقاطع أعمالي وتفرض نفسها علىّ، وأخذت من الكرسي المقابل لي صديقًا يحملها إلى أعلى مكتبي، وأخذت تزيدني ضوضاءً، دَقةً بحذائها ودقةً بلسانها وهو يضرب تجاويف فمها الصغير، وهي تغني مما علّمتها أمها.ولما كان لا مفر من إيقاف الأعمال واحتواء الثائرة الصغيرة، ضممتها إلى صدري وفارقت معها المكتب إلى أريكتي، التي جعلتها في مقابلةٍ دارميةٍ مع الشُّباك، فأرى من خلالها ما تخفيه الحوائط والأسقف وما جعله الناس مع مرور الزمن حائلًا بينهم وبين الطبيعة والذكريات، ومع هدوئها تدريجيًا ورضاها بما كان مني لها، دقت في ذاكرتي كلمات مسيح الشعراء، نزار.كان قباني رفيق الصبى ومغامرات الشباب، ومع ما أحيا به اليوم من ترف العيش واستقرار الخاطر، إلا أن سؤالًا واحدًا لا يزال يفتك بي، لا أجد له إجابة، أبهذه الحياة كنت أحلم؟ وهل هذه هي المغامرة التي كنت يومًا بطلَها ومفتاح حلها وأزمتها وجوهرها؟نظرت إلى صغيرتي الهادئة بعد ثورتها، وقد غافلها برد الشُّباك فنامت، وتذكرت رثاء نزار لحبيبته بلقيس، وقد ذهبت بها حربٌ على حكم العراق بين حزب البعث وحزب الدعوة الإسلامي. وكان حزب الدعوة غير راضٍ عن قيادة البعث للبلاد، (1968-2003)، وغير راضٍ بدرجة أكبر عن الحرب التي يخوضها الحزب مع إخوان المذهب في إيران، والتي بدأت قبل عام.صديقي نزار رحمة الله عليه، لم يكن يحب صدام للحد الذي يجعله في حزبه، ومع هذا قُتل معه، لا بل قتل دونه، إذ مات صدام بعد نزار بعشرات السنين! صحيح أن نزار مدح تلاقي طرفي البعث، السوري والعراقي، وقال فيه، «فعل البعث مثلما فعلنا»، (أنا وبلقيس)، لكن هل استحق به السحق والقتل؟ معلومٌ أن نزار لم يكن شاعرًا سياسيًا وإن تغنى بالسياسة في مناسباتٍ قليلة؟ لم تكن له عداواتٌ سياسية، مدح الجميع تقريبًا، مدح حسني الزعيم وكذا فعل مع صدام والقذافي وعبدالناصر، الذي لقبه بالهرم الرابع. كان نزار يحب من يتغنون بالعرب والعروبة، ولم لا وقد عُرف حبه للعرب حد الهجاء والشتيمة.
مات نزار مرتين؛ مرةً حين أقدم انتحاريٌّ في الخامس عشر من كانون الأول لعام 1981، وفجر السفارة العراقية في بيروت. بيروتُ التي كانت ساحةً جاهزةً لحرب الآخرين على مر السنين، قبل أن تعود كل حرب من حيث أتت مع بداية الألفية الحالية، وراح ضحية الانفجار بلقيس الراوي، أم عمر وزينب نزار قباني، ومرة أخرى حين قابله ملك الموت في إحدى مشافي العاصمة البريطانية لندن عام 1998.يرثيها نزار ولا يدري بأي ذنب فرق الشيعيّ بينهما، هل كان نزار سُنيًا إلى هذا الحد؟ بعثيًا إلى هذه الدرجة؟ سياسيًا محنكًا ورجلًا له موقف يمنع به الدعوة من هزيمة البعث؟ لا بأس لا بأس من هذه الأسئلة المُحرجة، هل وصل قاتلو بلقيس إلى السلطة بعدها؟ أو لنقول، هل رحل صدام على إثر وفاة سفير بلاده في لبنان؟ هل انقضت عدة الحرب مع إيران؟ أم أتمت فيما وراء الحادث سبعًا عجافًا، أكلن من تاريخ العراق وإيران مثلما أكلن من روح نزار الهزيلة؟أتخيل صديقي وتتوه الكلمات من ذاكرتي، في هكذا موقف لا شيء مبرر، أتصور القتل أحيانًا كما الحب، غير مبررٍ، لا يمكن منعه إذا ما قُدر له الوقوع، غير أن التبعات مؤلمة بقدر ما تترك في النفس من أثر.يتعجب نزار ويثير أسئلة يعلم إجابتها ويدرك القارئ المتواضع مجراها ومرساها؛ (أيةُ أمةٍ عربيةٍ تلك التي تغتال أصوات البلابل؟ أين السموألُ والمهلهلُ؟ والغطاريف الأوائل؟ فقبائلٌ أكلت قبائل، وثعالبٌ قتلت ثعالب، وعناكبٌ قتلت عناكب، قسمًا بعينيك اللتين إليهما تأوي ملايين الكواكب، سأقول يا قمري عن العرب العجائب، فهل البطولة كذبةٌ عربيةٌ؟ أو مثلنا التاريخ كاذب؟) يستشهد نزار في تنكيله بالعرب بآباءهم من الشعراء الجاهليين أمثال السموأل، وهو السموأل الأزدي، مضرب الوفاء عند العرب، إذ كان له حصنٌ في شمال جزيرة العرب، وأودعه امرؤ القيس قبل أن يموت دروعًا كانت لملوك كندة يتوارثونها، أمانةً في حمايته، فلما طلبها ملك الحيرة منعها عنه حتى حاصر حصنه، وكان له ولدٌ قد ذهب للصيد فأسره جيش الحيرة، وخُير السموأل بين ولده والدروع فأوفى بعهده لورثة امرؤ القيس وقُتل ولده في الأسر.يثير نزار واللهِ في نفسي ألمًا عظيمًا، كانت بيروت حينها ميدان كل المتحاربين، يقول بحقها نزار لائمًا ومعاتبًا، (بيروتُ تقتل كل يومٍ واحدًا منا وتبحث كل يومٍ عن ضحية!)، (وبيروت التي قتلتكِ لا تدري جريمتها، وبيروت التي عشقتك تجهل أنها قتلت عشيقتها وأطفأت القمر)، (أيتها الصديقة، والرفيقة، والرقيقة مثل زهرة أقحوان، ضاقت بنا بيروت، ضاق البحر، ضاق بنا المكان)، (البحر في بيروت بعد رحيل عينيك استقالْ، والشعر يسأل عن قصيدته التي لم تكتمل كلماتها)، لكن ليتك حييت يا نزار حتى صارت كل أرضنا بيروت، وأمَا وأنك اقتحمت ذاكرتي فوالله لأعكرن صفو مماتك الأبدي بآخر ما تبقى من حطام الأرض، من ركام العرب، بآخر ما توارثه الذين سألتهم يومًا أن يرحموك ويرحموا طفليك، أن يُرجعوا زيتونة أو ليمونةً أو يمحوا عن التاريخ عاره.ذات يوم لم أكن بعدُ أفرّق بين جِلد الأولياء وجلد أبي لهب، فأردت أن أُظهر رأيًا في زنزانة خُيّل إلىّ من فرط وسعها وكثرة من فيها أنها ليست كذلك، ووجدت القوم قد اصطفوا فرأيت ألا أصطفّ، بل أميل لمن تقاطعت معهم مصالح الثورة أكثر من غيرهم، أعرف أن وقع الكلمة جديدٌ بين العرب يا نزار، فآخر ما شاهدت منهم ومدحته كان (ثورة) الضباط الأحرار.من بني قومي من اعتاد الهوان، ساءني فيما بعدُ أنْ لم أعتده ولم أقدر على تذوقه في زمرة الناس، وفي صباح يومٍ -ربما أموت وهو أسوأ يومٍ طلعت عليّ فيه شمس، ولا أذكر أنها طلعت، فقد كنت نائمًا وقت شروقها وأعماني الدخان طيلة النهار-، كنت أحسب أن الهويات المشتركة تحول دون أن يقع بين الناس دمٌ (بهذه الغزارة)، لكنه الحُكم وقد فرّق بين الأخ وأخيه، والعَمَى وقد تكفّل بما بقي.تمنعني المرارة في الحلق من الإمعان في التفاصيل، لكنني أذكر وقد غرقت الأرض يومها في الدماء، يوم الرابع عشر من آب لعام 2013. كانت نيران الأسلحة الخفيفة والثقيلة تمطر الناس من كل حدب. كنت للمرة الأولى أتعلم حقيقة أن صوت الرصاص ينبغي أن يطمئنك، فطالما سمعت صوتها فهي بعُد لم تصب منك مرادها، هذه التي ستصيبك لن تسمع صوتها، ستخترقك وتنخر فيك، ليس بكثرة ما في السلاح الذي خرجت منه من عزيمة، وإنما بوفرة ما في قلب صاحبه من حقد، وبقدر ما في نفسك من حسرة وأسى، أن تموت هنا، وأنت أعزلٌ لم تمسك بحياتك جُلها سلاحًا ولا تطيق نفسك أن تقتل حيوانًا، فضلًا عن أن تقتل مَن هو مثلك، يحمل من الأماني والآلام بقدر ما تحمل وربما يزيد.قررت لئن أنجاني الله في هذا المشهد لأعتزلن حياة الناس إلى صومعةٍ صغيرة، أبنيها بداخلي، أُسكِن فيها من أشاء ومن يأتلف معه قلبي، حتى لم يكد ينتهي اليوم، وأجد فتاةً بُنية العينين بيضاء تبكي، وقد ذهب عنها والدها ولم تعلم بخبره شيء، فأخذت أُطمئنها (ولست بواثق) وأذكر لها من ألطاف الله ما تعجز الذاكرة عن استرجاعه، لكن ما علق بذهني أنْ أحببتها وأردتها في صومعتي -إن أنجانا الله من هذا الغم وذاك الكرب-.وفي لحظات لم تطُل، أسرفت لها في الوعد، وأغدقت عليها من العطف ما أفرغت منه نفسي. نسينا ما نحن فيه، وبنينا في الذاكرة ما يحتاج لعشرات الأعوام، تعلقنا بالأمل، وخرجنا من ضيق الواقع إلى سعة الخيال، وصنعنا من رحم المأساة معركتنا الصغيرة، حتى لأذكر أني سميّت من أولادنا اثنين، أين سنعمل، وإلى أين سنرحل، أنا سأتولى من شؤوننا كذا وهي ستتولى ما تبقى على ألا أثقل عليها. وعلى هذا سافرتُ في خيالي، لكن آثمًا باغتنا بطلقة لتوها أخطأتني وأصابت ظلي، فمتُّ بها مرتين، وخسرت بها في آن واحدٍ معركتين، وتهدمت للتو نظريةً للحرب أنّ ما تسمع صوته لم يُصبك، لكنه ويا أسفي قد يصيب حبيبًا وأخًا ورفيقًا وزهرة أقحوان، ودرة تاج قلبك وليلى!تشجعت لثوانٍ للثأر في حبيبتي، فصوّب آثمٌ آخر فوهة مدفعه فأصاب مني بكراتٍ حديديةٍ صغيرة مقدمة يدي. خفت ودبّ الوجل بقلبي وهربت أمامه كعصفورٍ يطارده قناصه، فأمطرني بوابل من الكرات، طالت رأسي حتى اخترقت حذائي، فلا يكاد يفرِق بين كرة وأخرى بعض السنتيمترات. رأيت الموت بقلبي وأدركته بعيني، بموت ليلى وفراري من أرضٍ قتلت فيها.مات حينها الخيال الذي للتو هربنا به معًا من مرارة الواقع، وسطوته. خسرنا معركة كُنا قوامها. كنا مفرطين أنا وليلى لتوّنا في التفاؤل، وفي قدرتنا على خلق معركة صغيرة نربحها بعيدًا عن خساراتنا المتتابعة، يا لقساوة الزمن ويا لجرأتها بيروت!
- إبراهيم .. إبراهيم ..!!
- ها .. تجهزتِ يا سارة؟ كنت أنتظرك مع صديقتنا الصغيرة، لكنها نعست ونامت.
- وأنا أرقُبك منذ دقائق وأنت تراقب السماء وتذرف دمعك، بم فكرت؟
لم أخبر سارة بشيء وكذبت بشأن ما سبق وخالط ذاكرتي، بما لا يدع مجالًا للشك ليصل لقلبها، لكنني ظللت أفكر، أي مغامرةٍ أحياها مع سارة؟ وقد باتت حياتنا أيسر من أن نحارب فيها؟ أو -لأ أدري- ربما صارت قلوبنا أضعف من أن تُحارب.راحت ليلى وبقيت ذكراها، وراحت بلقيس وبقي شعر نزار. صحيح لست نزار ولا أقول القصائد، وهل القصيدة إلا طعنةٌ في القلب ليس لها شفاء!أخذتُ سارة من يدها وانطلقنا إلى فندق كارديف، حيث حفل زفاف جارتنا وصديقتها الإنكليزية.