كيف تمدد الحوثيون من صعدة إلى عدن (1-3): من مران إلى عمران
في الثانية عشرة بتوقيت مكة من صباح الخميس 26 مارس/آذار من عام 2015، نفذت مقاتلات سعودية أولى غاراتها الجوية على معاقل «الحوثيين» باليمن. وتحت اسم «عاصفة الحزم» أعلن «عادل جبير» السفير السعودي بواشنطن إطلاق عملية عسكرية واسعة ضد الحوثيين بمشاركة دول الخليج باستثناء سطنة عُمَان، بالإضافة للأردن والمغرب والسودان، وأعلنت مصر وباكستان والولايات المتحدة دعمها للعملية، فماذا يحدث باليمن؟ وكيف وصلنا إلى هذه العملية العسكرية؟
ما يجب أن تعرفه قبل سرد الحكاية
أولاً: جغرافيا اليمن
في 22 مايو/أيار 1991م، تأسست الجمهورية اليمنية بعد توحيد شطري اليمن الشمالي والجنوبي، ويحدها شرقاً سلطنة عمان، وغرباً البحر الأحمر، وشمالاً المملكة العربية السعودية، وجنوباً خليج عدن ومضيق باب المندب الاستراتيجي لكل دول الإقليم.
ثانيًا: القوى المتصارعة الأساسية:
1. حزب المؤتمر الشعبي العام: أكبر الأحزاب اليمنية. يقوده الرئيس اليمني المخلوع «علي عبد الله صالح» الذي حكم اليمن 33 عامًا وأطيح في «ثورة الشباب السلمية».
2. التجمع اليمني للإصلاح: ثاني أكبر الأحزاب اليمنية، ويمثل الامتداد الفكري والتنظيمي للإخوان المسلمين. قاد تحالف المعارضة إبان حكم صالح، والذي كان عبارة عن 6 أحزاب تحت اسم «اللقاء المشترك».
3. الجيش اليمني: طرأت على تركيبته عشرات التغييرات الجوهرية بمرور الزمن، وعمل صالح ما بوسعه لضمان ولاء الجيش، بتنصيب حلفائه وأقربائه في المناصب العليا، وبنهاية حكمه أصبح جناح الحرس الجمهوري بقيادة ابنه «أحمد» قوته الضاربة وذراعه الأيمن، ينافسه جناح حليفه السابق وعدوه اللاحق «الفرقة الأولى مدرع» بقيادة الجنرال «علي محسن الأحمر».
4. قبائل حاشد: أكبر تجمع قبلي باليمن. يتمركزون شمالاً بمحافظات صعدة وحجة وعمران والمحويت وصنعاء، يقودهم «آل الأحمر» أكبر قبائل اليمن وأعظمهم نفوذاً عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، وتعتبر محافظة عمران مركز ثقلهم الاستراتيجي. علاقاتهم بالتجمع اليمني للإصلاح تترواح بين الانتماء التنظيمي أو التحالف الدائم.
5. الدعوة السلفية: ليس لهم حضور سياسي كبير، لكن تأثيرهم الدعوي متوغل في القبائل اليمنية. أبرز مدارسهم «دار الحديث» في بلدة «دماج» بمحافظة «صعدة» أسسها الداعية «مقبل بن هادي الوادعي»، وكانت المدرسة تستقطب طلاب العلم من جميع أنحاء العالم. هناك أيضًا «جمعية الحكمة» بمحافظة «تعز»، و«جمعية الإحسان» بمحافظة «حضرموت»، وحزب «الرشاد».
6. أنصار الشريعة (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب): تشكل من فرعي القاعدة باليمن والسعودية بعد اندماجهما في عام 2009. تعتبره الولايات المتحدة أخطر فروع التنظيم على الإطلاق، وتحاربه من غرف عمليات كبيرة في الخليج. تبنى عشرات العمليات النوعية ضد المصالح الأميركية في الخليج قبل عام 2010. وضعته السعودية على رأس تهديداتها بعد تزايد وتيرة ونوع العمليات التي تبناها التنظيم داخل المملكة وأهمها محاولة اغتيال «محمد بن نايف» وزير الداخلية، في 28 أغسطس/آب 2009.
7. الحراك الجنوبي: القوى السياسية بمحافظات الجنوب تتعدد مطالبها بين فك الارتباط عن شمال اليمن والفيدرالية والكونفدرالية.
8. جماعة أنصار الله (الحوثيون): سنتعرف إليهم لاحقًا بالتفصيل، لكنهم فصيل يبسط سيطرته اليوم على معظم التراب اليمني بعد أن انتصر على كل القوى سالفة الذكر.
ثالثًا: الفرق والمذاهب الدينية
1. المذهب الشافعي: تتبناه الغالبية العظمى من اليمنيين ويتركز ثقله في المحافظات الجنوبية ويقل مريدوه بالتوجه إلى شمال الشمال حيث محافظة «صعدة».
2. المذهب الزيدي: يتبناه 30% من اليمنيين ويتركز في الشمال بمحافظات «صعدة» ثم جزئياً في «الجوف» و «حجة» و «عمران» و «صنعاء» ويتقلص مريدوه بالتوجه جنوباً.
3. الصوفية بالشرق ومذاهب وأديان أخرى بالغرب على هامش الصراع.
الجزء الأول: الحوثيون من صعدة إلى عمران
تبدأ الأمور بمجموعة صغيرة تدعو لمبادئ سامية، ترفض الظلم الواقع عليها، تتبنى الحكم كـــــ «وسيلة» للتغيير ثم يتحول لــــ «غاية»، ثم تصبح الوسيلة غير شريفة، وبعد الوصول للغاية تمارس أبشع أشكال الظلم التي استنكرتها في طريقها إليها. هذا ما حدث ما جماعة الحوثي.
من هم الحوثيون؟
جماعة شيعية تتبنى صيغة معدلة من المذهب الزيدي. يعتبرون نسبتهم للإمام «زيد بن علي» نسبة حركية لا مذهبية. يرون أنهم امتداد لأئمة «آل البيت» في الحكم. حوثيون نسبة لمؤسسها «حسين بدر الدين الحوثي». يتبنون خطاباً معادياً للسعودية ولا يخفون في خطاباتهم رغبتهم بإسقاط حكم آل سعود و «تحرير» الجزيرة من «احتلالهم»، ويعتبرون أنهم أحق بحكم جزيرة العرب. تدعمهم إيران سياسياً وعسكرياً وإعلامياً.
في 1986 ظهروا بمحافظة «صعدة» كجماعة تعليمية تربوية في شمالي الشمال على الحدود مع السعودية، حيث المعقل التاريخي للأئمة الزيديين تحت اسم «اتحاد الشباب». في عام 1990 أسسوا «حزب الحق»، وفي عام 1992 أسسوا «منتدى الشباب المؤمن»، ثم «تنظيم الشباب المؤمن» في عام 1997، وفي عام 2002 أطلقوا شعارهم المعروف بالـ«صرخة» وهي: «الله أكبر.. الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام».
تلقوا في البدء دعمًا من الرئيس صالح، ولعل أبرز صوره تجلي بترشيح «يحيى بدر الدين الحوثي» (شقيق مؤس الجماعة) لعضوية البرلمان اليمني عن حزب المؤتمر وتعيين دعاتهم في المساجد. استخدمهم كأداة لتقليل نفوذ الإخوان المسلمين والسلفيين في صعدة، ثم تدهورت العلاقة بينهما بعد حرب العراق، حيث اعتبر الحوثي الحرب الأمريكية «تمثيلية» لتبرير السيطرة على المنطقة.
تبنى الحوثي خطابًا شعبويًا، وتوغل في المحيط المجتمعي من الباب الخدمي بتبني هموم المواطن البسيط، وتعددت صور النوافذ الخدمية من المساعدات المادية إلى المستشفيات.. إلخ، ما ثبّت حاضنته الشعبية في صعدة وجوارها. على الصعيد العسكري، تعتبر كهوف جبال «مران» في صعدة خزّانهم الاستراتيجي من السلاح والمخابئ وغرف العمليات.
حروب صعدة الست
بين 2004 و 2010 دخلت علاقة صالح والحوثيين مرحلة مختلفة كليًا، خاض فيها ست حروب ضد الحوثيين. كانت الأولى في عام 2004، عندما اتهمهم بتأسيس ميليشيا مسلحة، ونفذ حملة اعتقالات واسعة في صفوفهم، وعين السلفيين بدلاً منهم بالمساجد. بعد مقتل ثلاثة جنود من الجيش تطورت الأمور لحرب دامت ثلاثة أشهر، انتهت بقتل مؤسس الجماعة «حسين بدر الدين الحوثي»، وتولى شقيقه «عبد الملك بدر الدين الحوثي» قيادة الحركة.
الحرب السادسة والأهم كانت «الأرض المحروقة» في عام 2009. طالت زمانيًا ومكانيًا بزيادة عدد الحوثيين وعتادتهم واحتلالهم لمواقع حدودية سعودية وتسللهم لجبل «الدخان» بقرية «خوبة» الحدودية. شارك الجيش السعودي بهذه الجولة التي انتهت بانسحاب الحوثيين من جبل «الدخان» في يناير/كانون الثاني 2010، ثم انسحبوا من شمال صعدة في فبراير/شباط 2010.
اعتمد صالح في الحروب الست بصفة أساسية على الحرس الجمهوري، وهنا من المهم أن نأتي على ذكر محاولة صالح التخلص من الجنرال «علي محسن الأحمر» قائد الفرقة الأولى مدرع، بإعطاء إحداثيات موقعه للطيران السعودي كموقع للحوثيين، كما أفادت وثيقة مسربة نشرها موقع ويكيليكس، يعود تاريخها إلى فبراير/شباط عام 2010. أما «التجمع اليمني» فلم يؤيد إجراءات صالح ضد الحوثيين — ستفسر هذه الواقعة الكثير مما سيأتي لاحقًا.
ثورة فبراير والسيطرة على صعدة
في 11 فبراير/شباط عام 2011، انقلت شرارة الربيع العربي لليمن. انتفض الشباب واعتصموا في ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء. أيدت أحزاب «اللقاء المشترك» وفي طليعتها «التجمع اليمني للإصلاح» و«آل الأحمر» الثورة، ووقفت الفرقة الأولى مدرع مع المعتصمين. انضم الحوثيون للميادين واحتفت بهم القوى المعتصمة.
في 24 مارس/آذار 2011، استغل الحوثيون ثقة الشباب وانتقال ثقل الجيش للشارع، فأحكموا سيطرتهم على محافظة صعدة وعزلوا محافظها «طه هاجر» واستبدلوه بــ «فارس مناع» — تاجر سلاح معروف. على التوازي، بدأوا بالسيطرة على محافظتي «الجوف» و«حجة». أصبحت «دماج» و«دار الحديث» السلفية، فجأة، في محيط حوثي بصعدة. لم يرق هذا للحوثيين ولا للطلاب أيضًا.
في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، أبرز الحوثيون البعد الطائفي للمرة الأولى بتاريخهم بحصارهم لدماج. اتهم «عبد الملك الحوثي» مدير دار الحديث «يحيى بن علي الحجوري» بما اتهم به صالح أخاه «الحسين» من قبل، ومنعوا دخول الطلاب والدواء والغذاء، ومنعوا خروج السكان لأداء مناسك الحج.
في 15يناير/كانون الثاني 2013، بدأت المرحلة الثانية من الحصار، الذي اضطرت الدولة أمامه للقبول باتفاق يقضي بتهجير الطلاب السلفيين، الذين ناهز عددهم 12 ألفًا، من «صعدة» إلى «الحديدة» في مقابل انتشار الجيش بدماج. في اليوم التالي خرج الطلاب، لكن الحوثيين اقتحموا دماج وأفرغوها مما تبقى منها، وبهذا أحكموا سيطرتهم الكاملة على «دويلة صعدة الحوثية»، لتكون عقبة «السلفيين» أول ما أزاله الحوثيون من طريق للتمدد.
المبادرة الخليجية
تعرّضت الثورة اليمنية للقمع، وارتكبت المجازر بأسلحة الجيش كما في غيرها من ثورات الربيع العربي، وبعد تعرض الثورة لسلسلة معتادة من المؤامرات، وصلت لطريق مسدود، ووقع اللقاء المشترك وحلفاؤه مع حزب «المؤتمر العام» وحلفائه «المبادرة الخليجية» في الرياض في 23 نوفبر/تشرين الثاني عام 2011، برعاية الدول الخمس الأعضاء الدائمين بالأمم المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي — باستثناء قطر.
قضت المبادرة بحصانة «صالح» وأسرته من الملاحقة القضائية، ونقل السلطة لنائبه «عبد ربه منصور هادي»، وعقد مؤتمر للحوار الوطني، وانتخابات رئاسية، ودستور جديد للبلاد. وقع «حزب الحق» التابع للحوثيين على المبادرة، لكن المكتب السياسي للجماعة التي أطلقت على نفسها اسمًا جديدًا هو «أنصار الله» لم يوقع.
في 25 فبراير/شباط 2012، أصبح «عبد ربه منصور هادي» رئيسًا للجمهوية اليمنية، بعد الانتخابات التي خاضها منفردًا.
مؤتمر الحوار الوطني
عُقدت أولى جلسات الحوار الوطني في 18 مارس/آذار 2013 بالعاصمة صنعاء، ورغم عدم توقيع جماعة «أنصار الله» للمبادرة الخليجية، إلا أنها انضمت للحوار، ووجدت ترحيبًا من القوى السياسية على أمل أنها ستمارس السياسة وتتخلى عن فرض نفسها بقوة السلاح.
في 21 يناير/كانون الثاني 2014، وُقّعت وثيقة مخرجات الحوار، والتي قضت -لحل مشكلة الجنوب- بتحويل اليمن لدولة اتحادية من 6 أقاليم، كما قضت بمنع وجود ميليشيات مسلحة في صعدة، وتمكين الدولة من بسط نفوذها فيها لحلحلة الأزمة التي تتفاقم بمرور الوقت.
معركة عمران وبداية التمدد
بعد سقوط صالح وسيطرة الحوثيين على صعدة وجوراها، قرر الحوثيون استئناف تمددهم لباقي المحافظات، وكما كان سلفيو دماج العائق الأول في معركة صعدة، كان على الحوثيين تقييم الوضع لتحديد العائق الثاني. التحدي هذه المرة هو قبائل حاشد وبالأخص آل الأحمر والتجمع اليمني للإصلاح و«الفرقة الأولى مدرع» أعظم قوة سياسية وعسكرية باليمن.
هنا نشأ حلف اقتضته المصلحة بين صالح والحوثيين. الأول يريد أن يستعيد نفوذه والثاني يريد أن يبسط سيطرته على اليمن. العائق الوحيد أن إعلان هذا التحالف يتناقض مع خطاب الحوثيين «الثوري». لا بأس إذًا أن يبقى التحالف في الظل إلى أن تنتهي حاجة الحوثيين للقوة الناعمة وخطاب المبادئ — كما سنرى لاحقًا.
استخدم الحوثيون «الحوار الوطني» غطاءً لإضاعة الوقت، وفي 2 فبراير/شباط 2014 بدأوا معركة «عمران» حيث الثقل الاستراتيجي لآل الأحمر واللواء «310» التابع «للفرقة الأولى مدرع» بقيادة العميد الركن «حميد القشيبي» — طيب السمعة المعروف بشجعاته وصاحب الدور البارز في حماية المتظاهرين والتصدي للقوى الموالية لصالح إبان الثورة، والمحسوب على التجمع اليمني للإصلاح.
كانت هذه المعركة الأعنف والأهم والأطول في تاريخ الثورة اليمنية وآخر معركة حقيقية يقودها قيادي بالجيش اليمني باستبسال إلى نهايتها (ونهايته). استمرت المعركة خمسة أشهر وانتهت في الثامن من يوليو/تموز عام 2014 بخيانة من قوى الجيش الموالية لصالح، مكنت الحوثيين من قتل العميد الركن القشيبي والتمثيل بجثته بعد أسره، وإحكام السيطرة على عمران والاستيلاء على ممتلكات آل الأحمر وارتكاب فظاعات سيأتي تفصيلها لاحقًا.
في اليوم التالي قصف سلاح الجو اليمني مقر اللواء على استحياء وأعلن الرئيس هادي أن عمران تحت سيطرة الدولة — وهو ما سيثبت زيفه بعد أيام، عندما يبدأ الحوثيون معركة صنعاء.
[تحديث] بتاريخ 28 يونيو/حزيران 2016: بثت قناة الجزيرة تسجيلاً مسربًا يوثق مكالمات بين قيادات من جماعة الحوثي بعد قتل العميد الركن القشيبي يشرحون كيفية قتله، ويظهر التسجيل مدى حرصهم على التأكد من التخلص منه.
* في الجزء الثاني نستعرض كواليس الأحداث الأكثر إثارة التي مكنت الحوثيين من التمدد من عمران إلى صنعاء وإسقاط العاصمة في خلال أربعة أيام فقط، وفي الجزء الثالث نستعرض خطوات الحوثيين للوصول إلى عدن ومضيق باب المندب في الجنوب وصولاً إلى «عاصفة الحزم».