الحركة الإسلامية والقيادة الاجتماعية (1 – 2)
الفصل بين النظر والعمل، بالأصل؛ فصلٌ مدرسيٌّ إجرائيّ. لكنّهُ سمتٌ ملازم لكل الأنساق المعرفيّة الوضعيّة؛ سواء تلك التي انبنت أول أمرها على الوحي الإلهي، أو تلك التي طوَّرها الجدل المادّي بتغييب الوحي. ولزوم هذه الخاصيّة للأنساق المعرفيّة الوضعيّة سببه ليس المكوّن البشريّ مُجرّدًا، بل هيمنة المكوِّن الجدلي حتى على الأنساق ذات الأصل التوحيدي، بتطاول الأمد وتزايُد تشقيق المقولات الجدليّة-المذهبيّة من قلب مقولاتٍ بشرية. لكن العامل الأهم في بروز هذه الإمكانيّة وتفاقُم نتائجها هو صدور التصوّرات الوضعية كافة عن أُطرٍ نظريّة افتراضيّة مجرّدة؛ أُطر عقليّة فقدت صلتها مع الوحي تدريجيًا، أو حتى لم تعرف هذه الصلة أصلًا. وناهيك عن ضَعف أو افتقاد الصلة مع الوحي؛ فإن هذه التصوّرات النظريّة نشأت في مجالٍ افتراضي أو كتصوّراتٍ ذهنيّةٍ مُجرَّدة عن الواقع (في محاكاة للمنطق الصوري أو حتى اعتراضًا عليه كما عند التجريبيين والوضعيين)، ولم تتفاعل مع الوجود والإنسان بما يكفي لتكتسب الصفة “العمليّة”، ومن ثم تؤدي محاولة تنزيلها اعتسافًا على الواقع لكوارث إنسانيّة لا حصر لها! وحتى الفلسفة البراغماتيّة، التي توصَف بالعمليّة والذرائعيّة؛ هي مجرّد توهُّم نظري لفرضيّة عقليّة، عن “فعالية” مُفترضة للإنسان “اللامثالي/المدنَّس” في الكون الموحِش؛ فرضيّة أُسبِغَت عليها صفة “العمليّة”، في حين أنها ليست بهذه “العمليّة” الموهومة التجرُّد، بل تحوي ميتافيزيقيتها الخاصة، هذا إن سلمنا جدلًا بتناقُض النزعة العملية والميتافيزيقا! ورُبّما كان الفصل الذي عقده أستاذنا المسيري للبراغماتية الأمريكية والصهيونية، في كتابه الفردوس الأرضي؛ مُتتبعًا جذور العنف فيهما، رُبّما كان شاهدًا على ما نذهب إليه.
وحين نرُد هذا الفصل بين النظر والعمل إلى المؤثرات الأجنبية المبكِّرة في الحضارة الإسلامية، الفارسيّة أو الإغريقية أو الهنديّة أو غيرها؛ فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنه شرٌّ “برّاني” محض أقحم على الصفاء العقدي للمسلمين، ومن ثمّ يمكن نزعه وسلخه وعزله وإفناؤه؛ ليعود المسلم إلى تديُّنٍ طهوريٍّ موهوم! لكن رد هذا الفصل إلى تلك المؤثرات هو محاولة لإدراك طبيعة المحفِّز والوسائط التي انتقل من خلالها، ومن ثم تفسير أسباب وتوقيت ظهوره، والتعرُّف على الخاص والعام في تركيبه.
وإذا كان الفصل بين النظر والعمل طبيعة إنسانيّة ترتكس إليها كل الأنساق المعرفيّة المبنية على الوحي، في مراحل اضمحلالها؛ فإن الأنساق الماديّة (كل الأنساق الوضعيّة/البشرية التي لا تستند للوحي تدخُل تحت هذا التوصيف) تُعاني ذات الفصل حتى قبل خروج النظريّة إلى حيّز التطبيق. وإذا كان النسق الذي يحمل مُكونًا مُتجاوزًا يرتكِس بسرعة إلى ذلك الفصل بسبب ثِقَل الأثر البشري، برغم المكوّن الإلهي فيه؛ فإن النسق الذي يخلو من ذلك المكوِّن المتجاوِز أقصر عُمرًا بكثير. لهذا أمكن، في نقطة معيِّنةٍ وظروفٍ خاصةٍ؛ استنقاذ النسق الأول باستعادة صلته بالوحي لتتجدَّد مقولاته ويُعاد دمجها في المجال التداولي الحركي، بينما كان المآل الوحيد للثاني هو التحطُّم على صخرة الواقع، وإن بقيت الأدبيّات النظريّة تُنافِح عن “سوء التطبيق”، الذي يبدو كأنه حتميّة إنسانيّة مطردة؛ وتحلُم بتطبيقٍ حرفي طوباوي لا يأتيه الانحراف من بين يديه ولا من خلفه. تطبيق مستحيل التحقُّق أصلًا في الأنساق المستمدَّة من الوحي، فما بالك بما دونها! ويبدو أن الكائن الذي اتخذ الوحي وراءه ظهريًا أكثر غرورًا من الاعتراف بأن التصوّرات النظريّة التي يُطوّرها الإنسان بمعزلٍ عن قيم ومُنطلقات الوحي المتجاوز، لا يمكن له تطبيقها إلا بنسبةٍ ضئيلةٍ جدًا (بقدر ما تُطيقه بقايا الفطرة الإلهية في النفوس)؛ نسبة تجعل الهوّة بين النظر الوضعي والعمل الإنساني دومًا كالفارق بين الأصل والمسخ. بل تقضي رويدًا رويدًا على الأهميّة الحركيّة للنظر؛ ليصير وظيفة مُنفصلة وقائمة بذاتها، برغم ضعف أثرها على الحركة الإنسانيّة، بل وتُحوِّلها من التقويم والتصويب إلى التأصيل والتبرير؛ بعد أن انفصل العمل عن كُل مركز وانطلق من عقالِهِ لا يلوي على شيء. لقد نيطت استقامة جدليّة الإنسان مع الوجود بدوام مُكابدته الوحي الإلهي، فمتى أخلد إلى الأرض؛ تشوّهت تصوّراته وظن أنها نهائية معصومة. إن أوهام الإنسان النظريّة المحضة عن الوجود تُحيل حياته لجحيم مُقيم حين تكتسب صفة الإطلاق. وإذا كان تهرؤ صلة النسق بالوحي قد يقتله في الريعان، فإن النسق غير الموصول بالوحي يولد ميتًا.
*****
والفصل بين النظر والعمل انتكاسة لها سوابق أكثر من أن تُحصى في تاريخنا. لكنه سلوكٌ تكرَّس بين المسلمين المحدثين مع ترسُّخ الدول القوميّة القُطريّة؛ سواء التجربة الكماليّة التي ورثت التحديث العثماني، أو الناصريّة التي وَرِثت خِفَّة الوفد، أو تجربتي البعث الفاشيّتين، أو تأسيس باكستان على أشلاء الملايين، أو كتابة دستور ماليزيا “الإسلامي” على يد البريطانيين، أو الصعود المشبوه لرضا خان إلى سُدَّة الحكم في إيران … إلخ. صحيح أن بوادر شيوع ذلك الفصل تظهر بوضوح شديد مع بدء حركة التحديث في العالم الإسلامي، رُبما منذ زمن السلطان محمود الثاني العثماني الذي عاصر أوائل حكم القاجار في إيران وصعود محمد علي لسُدّة الحكم في مصر. لكن ترسُّخ فصام النظر والعمل كان يعني تغيُّر الوجهة السوسيومعرفيّة كُليًا وبالضرورة، وتهيؤها للوضع الجديد؛ ومن ثم استغرق الأمر ما يقرُب من قرن ونصف لتكريسه كواقع، ومصدر للتصوّرات؛ مصدر يُعيد صياغة الرؤية الكونيّة وفق تركيبته الجديدة.
ويمكن اعتبار السيد رشيد رضا من أوائل نماذج التكريس المُعاصر لذلك الفصل؛ إذ اشتهر بصنعة الإفتاء والكتابة دون غيرهما، وذلك دون كثير انشغال بالتعليم والتربية الاجتماعيّة الذين حاول شيخه محمد عبده ممارستهما، ومفارقًا الشكل المنظّم للعمل السياسي الجامع الذي مارسه الأستاذ الأفغاني. وقد حاول الأستاذ البنا الجمع بين صنعة الفُتيا والتنظير عند رشيد رضا، والاهتمام بالتربية عند عبده، والعمل السياسي المنظَّم عند الأفغاني؛ فكانت حياته كلها محاولة للتوازُن بين هذه الأطراف المؤسِّسة للعمل الإسلامي، لولا غلبة طبيعته الشخصيّة وطبيعة العصر. ليبدأ انجراف البنّا للعمل السياسي تدريجيًا بعد انتقال المركز العام إلى القاهرة بفترة وجيزة؛ وهو الانجراف الذي شكَّل مآل الجماعة الأولى، بل وخطّ مصير مؤسسها رحمه الله. وقد اشتهرعن البنا قبيل استشهاده وبعد حلّ الجماعة، ما نقله عنه غير واحد؛ أنه ندم على انجرافه في بحر السياسة أكثر مما ينبغي، وما أدى إليه ذلك من تقصيرٍ واضحٍ في جانب التربية-التزكية، التي تُعيد تشكيل المجتمع من أسفل إلى أعلى؛ لصناعة الإجماع الحقيقي.
وإذا كانت الجماعة الثانية قد سعت لتجاوز ذلك القصور، الذي فتَّت الجماعة الأولى باستشهاد البنا؛ يحدوها اتزان رؤية الهضيبي وحكمته كقاضٍ ونُضج سيّد قطب كمفكّر وداعية، فإن جماعة التلمساني الثالثة قد ارتكست ليس عن محاولة الهضيبي فحسب، بل عن تصوّر البنا نفسه في محاولة الموازنة بين عناصر الحركة، التربية الاجتماعيّة والتنظير والعمل السياسي؛ لينتهي بها الحال بالتمركُز الكامل حول الوهم السياسي بعناصر ضحلة من شباب الجامعة، الذين شكَّلوا ما عُرف بعدها بجيل الوسط في الحركة الإسلامية (أكثرهم في العقد السادس من عمره اﻵن). وهو الجيل الذي شكَّل قطيعة معرفية وحركيّة حقيقية ليس مع تاريخ جماعة الإخوان المسلمين فحسب، بل مع مسار الأمة المسلمة وحركتها ككُل، بسعيه للدمج في اللعبة السياسيّة و”العمليّة الديمقراطية”! (لمزيد من التفاصيل؛ راجع مقالنا: “الإخوان المسلمون جماعة أم جماعات“؛ بأجزائه الثلاثة).
ويُمكن اعتبار الشيخين محمد الغزالي وناصر الألباني هما الأبوين الشرعيين لذلك الجيل وما بعده من أبناء الحركة الإسلامية؛ سواء الجناح الذي تماهي مع السلطة وصار جزءًا من ديكورها السياسي (ومثَّلته جماعة الإخوان)، أو ذلك الذي حَفِظَ الديكور السياسي بالصمت عنه والتغاضي عن كل موبقاته بغير ثمن (ومثَّلته الجيوب السلفية)، ولا حتى ثمن نظري! لقد أسقط هذا الجيل النظر نهائيًا وبشكلٍ شِبه كامل، برغم وسم بعض مُنتسبيه بالسلفية “العلمية”؛ بله أن يتكبّد عناء الربط بين كل من النظر الأصولي-الحركي وصنعة الفُتيا والنشاط السياسي. وما عدا بعض الجيوب المسلّحة؛ فإن المسيّسين ومن هجروا السياسة قد نبذوا جميعًا النظر في سُنن وآليات وصيرورة تكوّن المجتمع المسلم تسليمًا بوهم وجوده النهائي والمطلق، واعتمادًا على وجود آحاد المسلمين، ولو كان ما يجمعهم لا علاقة له بالإسلام.
هذا التصوّر الطوباوي/الهندسي/الإلحادي للمجتمع، والاجتماع الإنساني عمومًا؛ كان أحد أهم عوامل انتكاس مسيرة الحركة الإسلامية على يد ذلك الجيل من”الإسلاميين”، وصعود مفهوم الخلاص الفردي البروتستنتي/السلفي، الذي ارتبط فيما بعد بالتنمية البشرية وعلوم الإدارة؛ وفك ارتباط التقوى والمكابدة الفرديّتين بفريضة اﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمكابدة الاجتماعية. وبعبارةٍ أُخرى؛ صار التواصي الاجتماعي-القرآني بالحق والصبر أمرًا ثانويًا، بل ومستهجنًا؛ وإذا كان المجتمع ملائكيًا لا يحيد عن الحق المبين، فلم يبق إذن إلا التنافُس في الوصول إلى السلطة (أو خدمتها!) لتحقيق الفردوس الأرضي اﻵن وهنا. إن وجود المجتمع المسلم المثالي، من وجهة نظر هؤلاء؛ وجودٌ لا تاريخي قطعيّ نهائي لا شك فيه ولا نكول عنه، ومن ثم فلا حاجة لدعوة أو جهد اجتماعي-دعوي من أي نوع، لإعادة تشكيل المجتمع الإنساني المسلم وتصحيح وجهته. إنه مجتمعٌ/مجتمعات لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد صار مُطلقًا مُتجاوزًا للتاريخ والكبد. وامتدَّت أوهام العصمة إلى الوجوه المتصدِّرة في هذه المجتمعات؛ فصاروا نجومًا يُهتدى بها، ويستحيل قبول الإنكار عليها. لتبقى عقيدة الخلاص الفردي هي المتنفَّس الوحيد المسموح به في هذه المجتمعات المريضة؛ سواءً بالولوغ في عالمي السياسة أو الاقتصاد، أو حتى بطلب “العلم” النظري الساكن لمن حِيل بينه وبين السببين الأولين.
إن وجود آحاد المسلمين وآلاف اللافتات “الإسلاميّة” لا يعني بالضرورة وجود المجتمع المسلم؛ فالمجتمع المسلم هو بالضرورة وحصرًا ذلك المجتمع الذي ارتضى وجه الله لنفسه وِجهةً لا يولّي وجهه عنها، واتخذ السلوك إليه سبيلًا من خلال سلوكيّات أفراده (أو أكثرهم). إن المجتمع المسلم لا يتشكَّل بمجرد اجتماع بعض “المسلمين” في صعيدٍ واحد، بل بأن تتصل روابطهم وتتشكَّل علاقاتهم ويتوثَّق اجتماعهم حصرًا وقصرًا على قاعدة من قيم الإسلام وأصوله، تصديقًا لوحدة الوجهة التي جمعتهم. إن المجتمع المسلم لا يكتسب هذه الصفة إلا باجتماع أفراده على الدعوة إلى الله دون غيرها. ومن ثمّ فهو مُجتمع يُعين الفرد على تزكية نفسه، وهي التزكية التي تعرُج بالفرد إلى الله، وتوجِّه المجتمع وتدفعه في مُجمل حركته إلى الاضطلاع بمهمة الاستخلاف التي ابتُعث لأجلها. فإذا مُكِّن المجتمع بإذن الله من أداء وظيفته على الوجه الذي ارتضاه الله؛ انعكس ذلك ثانية على حُسن رعايته لتزكية أفراده أنفسهم. إنها دورة وجوديّة لا مركزيّة فيها لأي شيء سوى الدعوة إلى الله، لا رفاه ولا تقنية ولا حضارة ولا ثقافة ولا سياسة ولا اقتصاد، لا شيء مما يتوهَّمه المسلمون المحدثون مُطلقًا؛ ففي هذا المجتمع يتراجع كل شيء للهامش حاشا الدعوة إلى الله. فلا شيء يشغل مركز وجود المجتمع المسلم ووجهته سوى الدعوة إلى الله، فإن حلَّ محلها أي شيء، العلم أو المال أو التقدُّم أو الرفاه أو التقنية إلخ؛ انتكس المجتمع لفوره وبدأت عُرى إسلامه الجمعي تنفصم الواحدة تلو الأخرى، وأولها قبوله بحُكم الطواغيت وعدم تأفُفه من العبوديّة لها وآخرها توهُّمه الإسلام فيمن ترك الصلاة حتى لا يعود ثمة فارق في الوعي الجمعي لذلك المجتمع بين المسلم وغير المسلم. في هذه الحال قد يوجد آحاد المسلمين، لكن ينتفي قطعًا وجود المجتمع المسلم؛ لتشوّش وجهة الجماعة الإنسانية وتغبّش مقصدها الجمعي وانحراف مسارها؛ ولو كان أكثر المجتمع ممن يُصلّون ويصومون ويلتزمون بظاهر الهدي النبوي. ذلك أن مفهوم الخلاص الفردي السلفي/البروتستنتي نقيض وجود المجتمع المسلم، بل لا يُمكن أن يُهيمن هذا المفهوم الأناني أصلًا على مجتمعٍ مسلم. إنه إذا كان إيمان الفرد يزيد وينقُص وتُخالطه الجاهلية، فإن إيمان المجتمعات كذلك. إنها حالٌ تجب معها دعوة المجتمع إلى الإسلام ثانية؛ ليس لأنه مجتمع كافر، بل لأن إسلامه اختلط بما ليس منه من عادات المعيشة وأوهاق التحقُق التاريخي، فلم يتوهَّم فحسب اقتصار الإسلام على قيامٍ وقعودٍ لا يقوم بحقّه، بل توهَّم تمام ذلك الإسلام في بعض مظاهر وجوده الحضاريّة/الثقافيّة التي قعدت به عن دعوته؛ ليفتن بها بعضه بعضًا، كما فتن بها الذين كفروا (راجع مقالنا: لماذا تُهزم الدول وتنتصر الحركات).
لقد ساهمت المجتمعات “المسلمة” ونجومها، ومن قبلهم الأنظمة السياسية؛ في تغييب فريضة الحركة الاجتماعية بالدعوة داخل المجتمعات المسلمة، ومن ثم ساهم ذلك بقسط كبيرٍ في اختفاء وظيفة القيادة الاجتماعيّة المرتبطة بالدعوة. إذ أن الاستسلام للدولة، أو حتى مشاركتها السلطة؛ يعني بالضرورة تراجُع مركزيّة الدعوة (راجع مقالنا: صعود الدولة ونهاية الدعوة)، ومن ثم تراجُع الحاجة للقيادة الاجتماعيّة لحساب السياسيين المرتزقة أصحاب الألسنة الزلقة. وحتى حين بدأت القيادات الاجتماعيّة تختفي، لم تكن الوجوه السياسية والدعوية التي برزت على إثرها بقياداتٍ حقيقية، برغم تصدُّرها للمجال العام وتحوّلها لنجومٍ إعلامية يُشار لها بالبنان؛ بل كانت ولا زالت مُجرَّد دُمي في أيدي حكوماتٍ ورجال أعمال، دُمي عاجزة كُليًا عن تحريك الجماهير فضلًا عن توجيهها لما ينفعها. لهذا كان هلع تلك الدُمي شديدًا بعد يناير2011، إذ سقطت هيبتها ومصداقيتها الواحدة تلو الأخرى؛ وأسفر هذا الهلع عن وجوهها الدميمة حين أفسح لها الانقلاب العسكري الأخير مجالًا للتنفيس، فتداعوا وورّثوا بعضهم مقاعد بعض، وأفسحوا المجال لشهرة من كان مغمورًا منهم، وتعالى مُكائهم وتصديتهم بغير حياء، ووشوا بكثيرٍ من الوجوه القيادية الواعدة، التي بدأت الجماهير تتلمَّس فيها قدرًا من الإخلاص؛ وهو فعل الأحمق الذي يتوهَّم دوام الحال!
لقد رسّخ الغزالي والألباني الفصل بين النظر والعمل، بالفصل بين الحركة والنظر؛ كل على طريقته. فإذا كان الألباني يُهادِن الأنظمة السياسية الملكية مُنكفئًا على أسانيد السنة بغير عنايةٍ بالمتون وحسن قرائتها وإسقاطها على الواقع بكل عناصره، فإن الغزالي قد أدّى مهمّته بتأصيل الحركة المتوهّمة بمشاركة الأنظمة “الجمهوريّة” في فضائي السياسة والاقتصاد الجاهليين باعتبارها هي الحركة الإسلامية المطلوبة؛ لتظهر البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال … إلخ، على يد جيوش من المهنيين والتكنوقراط الملتحين؛ كتعويض عن قصور الحركة كدعوة مُجرَّدة إلى الله. ومن ثم تكرَّس الفصل بين الفقيه التقليدي، وبين “المثقف” الإسلامي الجديد. وبينهما من ناحية، وبين الحركات الإسلامية كتنظيماتٍ حزبيةٍ تسعى للوصول للسلطة؛ سواء بالتسلُّل من داخل النظام أو بمحاولة تقويضه من الخارج.
هذا الفصام بين النظر والعمل هو أهم عوامل ظهور طيف عريض من حركات الغلو الإسلاميّ كبنى تنظيميّة حداثيّة في حقبَة ما بعد الإخوان، والتي دشّنت في سبعينيات القرن العشرين. دُشّنت بتحوّل الإخوان إلى حزب يتمركز كُليًا حول الوهم السياسي، ويُغفِل أسئلة الوجود الاجتماعي والدعوي، التي كانت تؤرِّق غالبية الجيل بعد هزيمة الناصريّة في1967. ومن ثم نفر غيرهم للإجابة عليها؛ كل حسب طاقته، ولكلٍ زلاته. وقد تكرَّس الفصام وترسَّخ، وبرز وجهه الحداثي القبيح بتبلور أيديولوجيات السبعينيات “الإسلامية”، والتي اتخذت الدولة قبلة. كانت عبادة ذلك الجيل للدولة سببًا ونتيجة بذات الوقت لما ستُعانيه الحركة لعقود.
وقد أدى الفصام بين النظر والعمل، جنبًا إلى جنب مع عبادة الدولة؛ لأزمة القيادة العنيفة التي تصطليها الحركة الإسلاميّة حاليًا، خصوصًا في الفضاء السُنّي. وهذا الفصل نفسه، الذي دشَّنه رشيد رضا؛ قد جعل انجراف تلميذه البنا للسياسة مآلًا شبه حتمي؛ تلبيةً لمهاراته التنظيميّة والقياديّة وطموحاته السياسيّة، التي تحتاج لمتنفَّس سريع؛ فهو سبب ونتيجة بذات الوقت. لتظهر بعدها نماذج محدودة قد تملك بعض القدرات القيادية لكنها لا تملك رؤية ولا تصورًا واضحًا لواقعها ناهيك عن المعرفة بتاريخها، وهي نماذج يتم وأدها مباشرة داخل الهرمية التنظيمية الوثنية؛ كما نُبذ على حواف تلك التنظيمات أيضًا بعض المشوّشين من أصحاب الرؤى، والذين يفتقدون للمقدرة القيادية. لتستقر الأزمة كأنها حال طبيعية.
وإذا كانت الحركة الإسلاميّة، بعد تخفُّفها نسبيًا في2011 من ضوضاء ما يُسمّى بجيل الوسط؛ تُعاني حاليًا من نقصٍ مُخلٍ وحاجةٍ شديدةٍ إلى القيادة الاجتماعية ذات الخلفية المعرفية المناسبة والوجهة الدعويّة الواضحة، والتي تُسهم في صُنع الإجماع الحقيقي وتوجيه الحركة الاجتماعيّة؛ فإن الأحزاب الإسلاميّة ليست بأفضل حالًا، فهي تُعاني بدرجة أكبر من تشوّه وتشوّش القيادات المعاقة فكريًا وحركيًا، والمتصدِّرة سياسيًا. ورُبّما كان السبب الحقيقي لأزمة القيادة في هذه الأحزاب المسيّسة ناتجًا عن أزمة القيادة الاجتماعيّة في المقام الثاني، لكنّه سببٌ من أهم أسبابها في المقام الأول، وتجلٍّ لانصراف الإسلاميين عن الفرض التوقيفي طمعًا بغنائم النفل التوفيقي!