ناقشنا في المقال السّابق الخطأ النّظريّ الذي اعتبرنا أنّ الشباب المرتبط بالثورات وقع فيه في قراءة علاقة الثّقافة والمجتمَع بالاستبداد السياسيّ، والقضايا التي ينبغي التنبّه لها في معالجة هذه العلاقة، وننتقلُ في هذا المقال إلى الخطأ العمليّ المترتّب على ذلك الخطأ النظريّ، ألا وهو الانتقال من المواجهة السياسيّة للاستبداد إلى المواجهة الثقافيّة مع المجتمَع.


الخطأ العمليّ: من المواجَهة السياسيّة للاستبداد إلى المواجهة الثقافيّة مع المجتمَع

من الواردِ جدّا أن يتماهى الشّابّ مع حالة المواجهة الثقافيّة للمجتمع، فالشابّ أصلا يشعرُ بمرارة شديدة تجاه المجتمَع الذي خذله يومَ ثار على الاستبداد، والذي أيّد الديكتاتور أو انتخبَ أزلامَ النّظام القديم وسفّه أحلام الشّباب، إلى درجة أن يُصبحُ وصفٌ ينبغي أن يكون مُشرِّفا مثل «شباب الثورة» إلى مُرادفٍ للطّيش والضّحالة، وأن يُستعمَل للاستخفاف والتحقير.

من السهل والمفهومِ جدّا أن يُصبحَ كلُّ ما في المجتمعِ مُذكِّرًا للشباب بالاستبداد السياسيّ الذي ثار ضدّه. هذه الحالة ليست وضعيةً مثاليّة للفحصِ العقلانيّ الهادئ للعلاقة التي قد يتصوّرُها الشّابّ بين نظام الأسرة والاستبداد، أو للرابط المحتملِ الذي قد يراه بين أنماط التديّن أو الدين نفسِه وبين الاستبداد المستحكِم والمجال السياسيّ المستغلِق. على العكس تماما، هذه وضعيّة فوران وغلَيان ونزوعٍ قويٍّ ومفهوم نحوَ الرّفض، ومنها تولَد مقولاتٌ وشعاراتٌ مُغرية، لكنّها لا تتركُ مجالا لفحصِها واختبارِها، من قبيل «لن نتحرّر من الاستبدادِ السياسيّ حتّى تتحرّر المرأة من الاستبداد الاجتماعيّ»، أو «الحرّيات السياسيّة تبدأ من الحرّيات الجنسيّة»، أو «التخلّص من الاستبداد الدّيني ضرورة للتخلّص من الاستبداد السياسيّ»، وغيرِها. هذه المقولات والشّعاراتُ كلُّها تبدو مُغرية سيكولوجيّا، وأحيانا منطقيّا، لكنّ التجربة العمليّة والتاريخيّة لا تؤيّدُها بالضرورة كما أسهبنا في النّقاش السابق.

يُضافُ لذلك أنّ هذه المقولاتِ تغفلُ عن أنّ المجال السياسيّ هو المجال الذي ينبغي أن يكونَ مُتاحا لفئات المجتمعِ كلِّها على اختلاف توجّهاتِها الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، فهو المساحةُ التي يحصلُ فيها التّدافعُ ويحدثُ فيها التّوافق، فمع أنّ المجال السياسيّ والشأن السياسيّ يتداخلان ويشتبِكان مع المجالات الأخرى، من ثقافيّ واجتماعيّ واقتصاديّ ودينيّ، إلا أنّ المجالَ السياسيّ والشأنَ السياسيّ مساحة ذات استقلال نسبيّ عن هذه المجالات، وبحاجة لممارسات وأدوات وذهنيّات ذات استقلالٍ نسبيّ عن الممارسات والأدوات والذهنيّات التي تحكمُ المجالات الأخرى.

يمكنُ للأكاديميّ أن ينقد الدينَ جذريًّا ويدعو للإلحاد، لكنّ هذا الأكاديميّ عليه أن يتّخذَ مقاربةً مختلِفة إذا ما أراد المُساهمة في اجتراح مجال سياسيّ، ويُمكنُ للممثّل أو المغنّي أن ينقدَ ويهاجمَ ويسخرَ من كثيرٍ من مكوّنات المجال الاجتماعي، لكنّ هذا يظلُّ عملا فنّيّا نقديّا تُحسَبُ قيمتُه في سياقِه، ولن يُسهمَ بالضرورة أو بشكلٍ تلقائيّ مؤكَّد في دفع التحرّر السياسيّ.

لنأخذْ مثالا متكرّرا. يتقدّم الإسلاميّون في انتخاباتٍ أو يصلون إلى السلطة، فيسعى غيرُ الإسلاميّين إلى الحدّ من تأثير ذلك ومواجهتِه. هذا امرٌ وجيهٌ ومشروعٌ وصحّيّ، وجزء من التدافع السياسيّ إذا تمّ بأدوات المجال السياسيّ، من قبيل التحزّب والتكتّل ونقد خطاب الإسلاميّين وأدائهم في السّلطة والسعي لهزيمتِهم انتخابيا. لكن ليس هذا ما يحدُث. لا نريدُ أن نتحدّثَ عن التّحالف مع الرّجعيّات والملكيّات والعسكر لمواجهة الإسلاميّين، مع أنّ هذا من أشدّ ما يُخرّبُ إمكانية قيامِ مجالٍ سياسيّ، لكن لنتحدّث عمّا يقعُ غير الإسلاميّين فيه بشكلٍ متكرّر، ألا وهو الاتّجاه إلى «مواجهةُ الجذور الفكريّة والاجتماعيّة التي أدّت إلى وصولِ الإسلاميّين للسلطة»، وهذا يعني أشياء كثيرة، منها مهاجمة الإسلامي الحركيّ فكريّا، ونقدِ أنماطِ التديّن المرتبطة به لصالح أخرى، وأحيانا نقد التّراث أو الإسلام نفسِه.

مرّة أخرى، هذه كلُّها أهدافٌ فكريّة وأكاديميّة مشروعة، لكنّها لا تساعدُ على قيام مجالٍ سياسيّ، فحين تحصرُ المعركة في نقد فكر الإسلاميّين وأنماط تديّنِهم وربّما دينِهم، فأنتَ تُرسّخ قناعة شائعة لديهم ولدى المجتمَع بأنّ المستهدَف ليس مُدافعة الإسلاميّين سياسيًّا، وإنما محاربة التديّن والدّين ونشر «العلمانيّة والإلحاد». يزيدُ الأمرَ سوءًا أن يرضى غيرُ الإسلاميّين عن الانقلابات ضدّ الإسلاميّين وعن تمويل الرجعيّات المستبدّة لجهودِ القضاء عليهم. هذه وصفة جاهزة لقتلِ المجالِ السياسيّ: تترك الميدانِ السياسيّ للعسكر والمال الأجنبيّ ليواجهوا الإسلاميّين، فتخنقُ إمكانَ تطوير السياسة والتدافع والتداول السّلميّ على السّلطة، وتتفرّغُ لنقد فكرِ الإسلاميّين أوتديّنِهم أودينِهم، فتُرسِّخُ لديهم ولدى جمهورِهم ولدى قطاعات واسعةٍ من المجتمع أن المُستهدَف هو الدّين والتديّن، فتزيدُهم إحجاما عن المشاركة السياسيّة والنّقاش السياسيّ، فتقتلُ المجالَ السياسيّ مرّتَين.


نقدُ المجتمَع: تضحيات ومكاسب

يطيبُ لمن يتحوّل مسارُهم من مواجهة الاستبداد السياسيّ إلى نقد المجتمَع أن يُصوّروا ما يقومونَ به على أنّه منتَهى التّضحية وعلى أنّه معركةٌ خاسرةٌ لا يُمكنُ أن يخرجَ منها أحدٌ بغير الشّهادة، لكنّ هذا ليس صحيحا دائما. نقدُ المجتمَع ونظمَه الاجتماعيّة والثّقافيّة والدينيّة عملٌ يتطلّبُ شجاعةً وتضحياتٍ بالفعل، لكنّه كثيرا ما يأتي بمكاسب كذلك.

باتَ واضحًا أنّ الدولة العربيّة ليست مُحافِظة بالضّرورة ودائمًا، ولا انحلاليّة بالضّرورة ودائمًا. الدّولة العربيّة سلطويّة دائمًا، وتستخدمُ كلّا من المُحافَظة والانفتاح حسبَ الحاجة لمزيدٍ من الهيمنة. إذا كانتِ قوى التغيير مُحافِظة، كالإسلاميّين، فالدّولة العربيّة تُخوّف ليبيراليّيها والغرب منهم وتقدّم نفسَها باعتبارِها حاميةً للتنوّع والحرّيات الشخصيّة وأنماطِ الحياة المنفتِحة، أما حين تكونُ قوى التغيير ليبيراليّة أو «تقدُّميّة»، فالدولة تخوّفُ مجتمَعَها المُحافِظَ منهم وتستخدمُ الدّينَ وبعضَ أنماطِ التديّنِ ضدَّهم.

في هذا السّياق، هنالك وزاراتٌ ومراكزُ بحثيّة وأموالٌ تُستخدَم للإنفاق على نقد ثقافة المجتمَع، وباتَ لنقدِ المنظوماتِ الاجتماعيّة والثقافيّة والدّينيّة في المجتمَع منابرُ معروفة وجمهورٌ يمنحُ سلطةً رمزيّة وجوائزُ متنوّعة وصيتٌ ثقافيّ ورصيدٌ معنويّ. الخُلاصة، كلٌّ منَ المحافظة والنّقد لهما مكاسبُ وخسائر، وليسَ أيٌّ منهما عملا استثنائيًّا وشُجاعًا بالضرورة، فكلاهما يمكنُ أن يكون نفعيّة وانتهازيّة وارتزاقًا.

أمّا نقدُ السّلطة ومُقارعتُها ومُدافعتُها، ومحاولة اجتراح وتطوير مجالٍ سياسيّ، فما تزالُ كلُّها نشاطاتٍ خطِرة وغير مرغوبة وتؤدّي للملاحقة والأذى. بالتّالي، فبالإضافة لما سبق وحاجَجنا بشأنِه من أنّ تحويلَ السياسيّ إلى ثقافيّ أو اجتماعيّ أو دينيّ ينطوي على خطأ نظريّ، وضعفٍ في الفعالية العمليّة، نُضيفُ هنا أنّه لعبٌ في مساحة اكثرَ أمنا وبُعدا عن بطش السّلطة، بل قد يكونُ لعِبا في حضنِ السّلطة وجالبا لرِضاها ولمكاسبَ أخرى. الثّائرُ الشّابّ بَشَرٌ مجبولٌ على طلب السّلامة وتجنّب المشقّة والأذى، وستتولّى كثيرٌ من الحيلِ النّفسية والضغوطِ التي تُمارسُها السّلطة إقناعَه بأنّ نضالَه الثّقافيّ لا يقلّ نُبلاً وأهمّية، بل قد يزيد، عن النّضال السياسيّ. هذا الاقتناعُ الذي قد يبدأُ مهزوزا ومشكوكاً فيه سيتحوّلُ مع الزّمن إلى رضا لا واعٍ باللعبة وتماهٍ معها، وسيُساعدُ على ذلك أمرٌ شديدُ الأهمّية: حرّيات الحيّز الخاص والتصرُّفُ في الجَسَد.


حرّيّات الحيّزِ الخاصّ: أو ما لا تطالُه السُّلطة

علينا ألا نغفل عن أنّ الشبابَ هو مرحلةُ الاستكشافِ المتوتّر للعلاقة مع المجتمع. حتّى في المجتمعات الديموقراطيّة التي تُسخِّرُ إمكاناتٍ هائلة للتعليم ومساعدة الشباب على صناعة مستقبلِهم، وتوفِّرُ لهم كثيرا من الحرّيّة في استكشاف علاقتِهم بأجسادِهم ونزوعاتِهم العاطفيّة والجسديّة، تظلُّ هذه العلاقةُ متوتّرة وقلِقة، فما بالك بمجتمعاتٍ لا تُنفِقُ شيئا يُذكَرُ على التّعليم والبحث العلميّ، وتقمعُ الإبداع والابتكار لدى الشباب، وتخنقُ البيروقراطيةُ فيها كلّ أملٍ لدى الشباب بإبداعٍ مهنيّ أو شقّ طرقٍ جديدة في تحصيل الرزق، وتُحاصرُ النزعات الجسديّة والعاطفيّة للشباب بعارٍ يطالُ من يُقدِم على الحرام أو الممنوع، وبقيودٍ هائلة وجائرة على من ينشدُ الحلالَ أو ما ينبغي أن يكون مُباحًا وسموحًا؟

هذا يُضاف لكلّ ما فصّلناه حتّى الآن. هناك مجالٌ سياسيّ مستغلِق، وثوراتٌ أطلقت طاقة تحرّرٍ هائلة ما لبثت أن وجدت نفسَها بلا تصريف، و«المجتمَع» وثقافتُه أصبحا مُتَّهَمَين في نظر الشّابّ ومسؤولين عن كبتِ هذه الطّاقة وخنقِها، وتضافرت أفكارٌ متعجّلة ومقولاتٌ غير مفحوصة في تحويلِ المواجهة السياسيّة للاستبداد إلى مواجهة ثقافيّة ضدّ المجتمَع، ويُساعدُ على ذلك أن نقدَ المجتمعَ، رغمَ خسائرِه، يظلُّ مساحةً أكثر أمانا من الاشتباك السياسيّ، بل قد يُحقّقُ بعضَ المكاسب كما أسلفنا. ومع من يحدثُ ذلك؟ مع شابّ يعيشُ أصلا مرحلة توتّر في علاقتِه مع المجتمَع، أيّ مجتمَع، فضلا عن قيودٍ خاصّة في مجتمعاتِنا العربيّة الإسلاميّة. هذه كلُّها ظروفٌ ذهبيّة لميلاد «حرّيات الحيّز الخاصّ» و «حرّيات الجسَد».

قال فرويد بوجود علاقة عكسيّة بين النّزعات الغريزيّة من جهة، وبين الثّقافة والاجتماع من جهة أخرى. بحسبِه، تنشأ الثقافة والاجتماع حين يمتنعُ البشرُ عن إشباع غرائزِهم هُنا والآن، فالثقافة حالة تسامٍ عن الإشباع العاجل لحاجات الجسَد، بمعنى أنّ التنازل عن الإشباع الفوريّ لحاجات الجسَد شرطٌ ضروريّ لقيام ثقافة واجتماع.

يُمكنُ أن نقرأ العلاقة في الاتّجاه الآخر أيضا: حين تنحدرُ الثقافة وتتدهور أسسُ الاجتماع، تقوى حاجات الجسد وتبحث عن متنفّسات. هذا مُرشَّحٌ لأن يكونَ أكثرَ وضوحا إذا ما ترافق انحدارُ الثقافة وتدهورُ أسس الاجتماع مع استخدامٍ مُفرِطٍ للقوّة من قبل السّلطة، فارتباطُ الغريزة الجنسيّة بالعدوانيّة، وتناوبُهما وتبادليّتُهما كمنفذَين في التصريف أمرٌ مُشاهَد وملحوظ، ففائضَ الرغبة الجنسيّة قد يتمّ تصريفُه كعدوانيّة، وفائضَ العدوانيّة قد يتمّ تفريغُه كجنس، وما يزيدُ أحدَهُما قد يزيدُ الآخر.

بطبيعة الحال، نحتاج رصدًا جيّدًا للوقائع -أي بحثًا إمبريقيًّا- كي نؤيّدَ أو ننفي نظريّةً من هذا النوع، لكنّ هنالك مجموعة مشاهَدات تجعلُها جديرة بالاعتبار على الأقلّ.

من هذه المُشاهدات، ذلك الانتشار المُريع للحديث الجنسيّ، والرموز الجنسيّة، والتلميحات الجنسيّة، لدى الجمهور المؤيّد للانقلاب في مصر بعدَه وبعدَ فضّ رابعة. جرى تصوير السيسي باعتباره فحلا جنسيًّا «جاذبًا للسيّدات» على حدّ تعبير رئيس وزرائه حازم الببلاوي، وفقدان السيسي لهذه المقوّمات يصعبُ الاختلاف فيه. نُصِبَ مؤقتا في ميدان التحرير بعد فضّ رابعة نُصُبٌ لا يمكنُ أن تُخطِئَ العينُ دلالتَه الجنسيّة، وانتشرت مقالاتٌ صحفيّة ذات إيحاءات جنسيّة صريحة.

وبمعزلٍ عن الجمهور المؤيِّدِ للانقلاب، وبالنّظر إلى قطاعاتٍ أوسعَ في المجتمَع، يمكنُ أن نلاحظَ انتشارا واسعاً للأحاديث المرتبطة بالجنس بأشكالِها المختلفة، فلدينا مُشاهداتٌ كثيرةٌ فيما يتعلّقُ بالزّيادة الملحوظة في النقاشات والحوارات والكتابات والجدالات العموميّة المتعلّقة بقضايا الأسرة والزّواج والطّلاق وإنجاب الأبناء والعلاقات بين الجنسَين ولباس المرأة والحجاب وخلعِه وقضايا ذوي السّلوك الجنسيّ المثلي وقضايا المخدّرات والكحول، وكلّ ما يتّصلُ بحرّيّات الحيّز الخاص.

إذا وافقَ القارئُ على أنّ هذه المُشاهَدات جديرةٌ بالبحث من جهة علاقتِها بالتغيّر السياسيّ المرتبط بالرّبيع العربيّ والثورة المُضادّة، فثمّة كثيرٌ من الفرضيّات التي يمكنُ طرحُها للتفسير، وسيكونُ «السياسيّ» حاضرًا في أكثرِها.

مثلا، تُطرَح فرضيةٌ مفادُها أنّ هذه التغيّرات نتيجةٌ لفشل مشروع الإسلاميّين، المُحافظِ بطبيعتِه، وبالتّالي فمن المتوقَّعِ أن تكونَ النتيجة اتّجاها نحو قدرٍ أقلّ من المُحافظةِ الاجتماعيّة. هذه فرضيةٌ وجيهة، ومركزيّة السياسيّ فيها أوضحُ من أن تحتاجَ إلى مناقشة. وضوحُ مركزيّة السياسيّ في هذه النّظريّة لا يتوقّفُ فقط على أنّ الفشلَ السياسيّ أنتجَ تحوّلاتٍ فكريّة واجتماعيّة، بل يظهرُ كذلك من خلال مركزيّة السياسيّ في فكر الإسلاميين ونظريّتِهم التغييريّة، فتعليقُ «النّصر» و«التمكين» على الصلاح الفرديّ والالتزام الدّينيّ فكريّا واجتماعيّا يعكسُ مركزيّة كُبرى لـ «السياسيّ» باعتبارِه النتيجة النّهائيّة والاختبارَ الحقيقيّ لسلامة المنهج وصحّة النظريّة. حين لا يتحقّقُ النّصر والتمكين، فالتفسير المُتاح هو إما أنّ الصّلاح الفرديّ والالتزام الدّينيّ فكريّا واجتماعيّا لم يتحقّقا بالقدر الكافي، وبالتّالي فالنصر غير مُستحَقّ، وهذا ما تتبنّاه رواية الإسلاميّين الرسميّة، وإمّا أنّ النظريّة كلّها مُختلّة، وأنّ هذا التركيزَ على الطّهوريّة الفرديّة والالتزام الفكريذ الاجتماعيّ مُبالَغٌ فيه ولا يُحقّقُ نتائجَه المرجوّة، وبالتّالي فالتحرّر منه أفضل، وهذا ما يتبنّاه الخارجون من نطاق الـ «إسلاميّة» بمعناها الحركيّ السياسيّ.

ما نطرحُه هو فرضيّة أوسعُ مفادُها أنّ الفشلَ في إحداثِ تغييرٍ سياسيّ، مهما كانت نظريةُ التغييرِ المُتّبَعة، يدفعُ باتّجاه حضورٍ أكبرَ لحرّيّات الحيّزِ الخاصّ، سواءٌ أكانت نظريّة التغيير مُحافِظة أم غيرَ مُحافِظة.

دليلٌ مهمّ على هذه الفرضيّة هو أمريكا الستّينيّات، فحركةُ التغييرِ التي عانت من تحوّلاتٍ شبيهة لم تكن مُحافِظة مُطلَقا، بل على العكس، كانت اليسارَ الأمريكيّ الـ «انفتاحي» و«التقدّمي». بسبب اغتيال كينيدي وفظاعات حرب فيتنام، وشعورِ اليسار بالعجزِ عن إحداث تغييرٍ سياسيّ من خلال المجالِ السياسيّ وأدواتِه، نتج اليسار الثّقافيّ، ونشأت اتّجاهات تحرير المرأة والمساواة وحقوق ذوي السّلوك الجنسيّ المثليّ واتّسعَ إلى نطاقٍ غير محدود الحديثُ في الجنس والعلاقات الجنسيّة والحرّياتِ الجنسيّة، وانتشرت الماريغوانا والمهلوسات انتشاراً هائلا، والشبهُ بين هذه الحقبة وما نُعالجُه في هذه السلسلة لا تُخطئُه العين. نعتقدُ أنّ هذا يؤكّدُ فرضيّتَنا التي تزعمُ أنّ الاتّجاه نحو حرّياتِ الحيّز الخاصّ وقضايا الجسد أمرٌ مرتبطٌ عموما بانغلاقِ المجال السياسيّ، حتى ولو كانت قوى التغيير غيرَ مُحافِظة، وبالتّالي فهذه الفرضيّة تُقدّم نطاقا أوسعَ ممّا تقدّمُه الفرضيّة التي تعزو هذه التحوّلات إلى مُحافظة الإسلاميّين.