دائمًا ما يظهر عالم 2050 كعالم الصراعات من أجل المياه والطاقة وطرق النقل البحري، عالم حروب الشرق الأوسط والتوغل الصهيوني في أفريقيا والتفوق الاقتصادي الصيني، ذلك العالم الذي يتوقع كثيرون فيه انهيار الاتحاد الأوروبي بينما تسود الولايات المتحدة الأمريكية ويتربع رئيسها على عرش الكرة الأرضية. ينتشر النقاش على شبكات التواصل الاجتماعي حول شكل النظام العالمي بعد ثلاثة عقود، هل ستبقى الديمقراطية هي الحل السياسي الرائج والمسيطر أم أن البشرية ستنتج نظامًا أفضل؟، هل ستبقى الرأسمالية هي لغة العصر الاقتصادية؟، أسئلة كثيرة لكنها في الأغلب تدور في فلك المعقول والمتوقع.

يبدو أن من يطرح هذه الأسئلة يفتقد قليلاً إلى الخيال أو أنه غير قادر على تصور أن تغيرًا جذريًا ربما يطرأ على هذا العالم بناءً على بعض المتغيرات التي لا علاقة لها بالسياسة أو الاقتصاد على الإطلاق وإنما هي تغيرات تقنية أو ما يسمى بالتدمير أو الاضطراب الرقمي Digital Disruption.


التحول الرقمي

أوبر، أكبر موفر لخدمة سيارات الأجرة في العالم حاليًا، لا يمتلك أي سيارة. فيسبوك، أكبر شبكة تواصل اجتماعي في العالم لا تصنع أي محتوى وإنما فقط تديره، إير بي إن بي، أكبر موفر للشقق حول العالم لا يمتلك أي شقة.

كانت هذه الكلمات حاضرة في أحد مقالات فوربس الخاصة بالتحول الرقمي وتأثيره على العالم، بل وتتردد هذه الكلمات دومًا حينما يتطرق الحديث إلى التغيرات التي ألمت بالعالم في السنوات الأخيرة وكيف كان للتكنولوجيا أثر بالغ في هذه التغيرات. العديد من الصناعات اندثرت ومعها اندثرت وظائف ومهن كثيرة، في الوقت الذي استُحدثت فيه مهن أخرى فرضتها الظروف الجديدة.

في السادس والعشرين من مارس الماضي توقفت الإندبندنت عن إصدار نسختها الورقية واكتفت فقط بالإلكترونية، في الوقت الذي أعلنت فيه شركة كوداك، رائدة التصوير الفوتوغرافي، إفلاسها في يناير 2012 بعد أكثر من مائة وثلاثين عامًا من التوهج في عالم الاقتصاد. حتى نوكيا، عملاق الهواتف المحمولة حتى عشر سنوات انقضت، لم تنجُ من المذبحة رغم أنها قد ولدت رقمية لكن حين جاءت أبل بمنتج ونموذج عمل أكثر رقمية استطاعت أن تحيلها إلى التقاعد.

لم يكتف التحول الرقمي بتحويل كل ما هو ورقي إلى رقمي، بل تطرق أيضًا إلى آفاق جديدة أعاد فيها تعريف صناعات كاملة وأدخل لاعبين جدد إلى ساحة المنافسة اعتمادًا على تقنيات مبتكرة مثل إنترنت الأشياء Internet of Things، البيانات الضخمة Big Data، آليات الاتصال Mobility، وغيرها من المسميات التي لم تكن موجودة أو متداولة منذ عشر سنوات فقط. بل إن بعض هذه التغيرات جاء كنتيجة لنماذج عمل مبتكرة Business models مثل تلك التي تعتمد على الحشود crowd sourcing ومنها أوبر وويكيبيديا وإي باي وغيرها.


أكبر من دولة!

ظلت الصين متربعة على عرش العالم من حيث عدد السكان مسجلة أكثر من مليار وثلاثمائة مليون نسمة، واقتربت الهند من نفس المعدلات، إلى أن جاءت دولة مارك زوكربرج لتطيح بكليهما من على القمة بعدد مستخدمين بلغ أكثر من مليار ونصف المليار وهو عدد مرشح للزيادة بصورة كبيرة ومطردة، بينما اقترب تطبيق الواتساب والماسنجر بأعداد قاربت المليار لكل منهما، وغرد تويتر في المركز التاسع بعدد مستخدمين مساوٍ لعدد سكان الولايات المتحدة الامريكية؛ تلك الدولة التي تهيمن على مقاليد الأمور في العالم والتي تحتل المرتبة الثالثة عالميًا من حيث عدد السكان إلى جانب تصدرها دول العالم على المستوى الاقتصادي.

ربما تقبع جمهورية تويتر بعيدًا إلى حد ما في عالم الاقتصاد والقيمة السوقية مسجلة أكثر من 11 مليار دولار لكنها تتفوق على ميزانيات أكثر من مائة وأربعين دولة في العالم، في الوقت نفسه فإن أبل عملاق التكنولوجيا جاءت في المركز الأول بقيمة سوقية تبلغ 722 مليار دولار وإيرادات حجمها 234 مليار دولار لتغدو منافسًا قويًا للدول الصناعية السبع الكبرى وتصنف رقميًا كإحدى دول العشرين، مسجلة فائضًا في الأرباح في عام 2015 يقدر بأكثر من خمسين مليار دولار لتحل في المركز الثاني عالميًا بعد دولة الكويت (60 مليار دولار فائض).


تشكُّل إمبراطوريات الاستحواذ

قامت شركة جوجل منذ عام 2001 وحتى الآن بمائة وتسعين عملية استحواذ أهمها يوتيوب (2006 – مليار دولار ونصف)، موتورولا (2011- 12 مليار ونصف)، نيست (2014 – حوالي 3 مليار دولار)، في الوقت الذي قامت فيه مايكروسوفت بقرابة 200 عملية استحواذ أهمها فيزيو (2000 – مليار دولار)، جريت بلاين (2001 – مليار دولار)، سكايب (2011 – 8 مليار دولار)، يامر (2012 – مليار دولار)، نوكيا (2013 – 7 مليار دولار)، وآخرها الاستحواذ منذ عدة أيام على «لينكد إن» في عملية تخطت قيمتها 26 مليار دولار.فيسبوك أيضًا أجرى قرابة الخمسين عملية استحواذ على مدار عمره القصير كان أهمها الإنستجرام والواتس آب. ديل استحوذت على إي إم سي، وهاينز على كرافت، وإنتل على ألتيرا. عشرات العمليات سنويًا تجريها أكبر الشركات العالمية لتزداد تضخمًا وثراءً والتي لولاها لما تربعت وول مارت على عرش أكبر شركات العالم من حيث الإيرادات (482 مليار دولار) بعدد موظفين يقارب عدد سكان مقدونيا وسلوفينيا وقطر وأكثر من ستين دولة أخرى (2 مليون موظف).


حتى البنوك تتعرض للتهديد!

«سلسلة الكتل»، تبدو الكلمة بالعربية مبهمة إلى حد كبير، لكنها لا تبدو أكثر بساطة إذا ذُكر اسمها بالإنجليزية «Block chain»؛ هذا البروتوكول الجديد الذي يُقدر له أن يُغير من شكل العالم، أن يُحدِث انقلابًا في المجال المصرفي. ربما تكون التفاصيل الفنية المتعلقة بهذا البروتوكول معقدة بما لا يسمح لغير المتخصصين باستيعابها لكن يكفي أن نعرف أن الحاجة للبنوك وربما القطاع المصرفي كله ستصبح غير موجودة، تمامًا كما استطاعت تطبيقات VOIP مثل سكايب ولاين وماسنجر أن تقلل احتياجنا إلى مشغلي الخدمات الهاتفية حول العالم، لا يحتاج المواطن الأوروبي الذي يحتاج عمله إلى التنقل بين دول الاتحاد الأوروبي إلا لشريحة بيانات يجري من خلالها اتصالاته الدولية بدلًًا من عشرات الشرائح وبضعة آلاف يورو ثمنًا لفاتورة التجوال.

لن نحتاج مستقبلًا لمن يقوم بتمرير اتصالاتنا الدولية، تمامًا كما لن نحتاج لمن يقوم بدور الوسيط في عملياتنا المصرفية والتحويلات بين الأفراد بعد ظهور شركات ما يسمى FinTech وسطوع نجم باي بال (PayPal) وأبل باي والدفع عن طريق مشغلي الهاتف (Payment over Carrier).


لا مقاومة تجدي!

ربما تكون قد استغرقت خمس دقائق لقراءة ما سبق وهي فترة تبدو قليلة نوعًا ما، لكن نظرة سريعة على عالم الإنترنت تخبرنا أن خُمس هذه المدة فقط (دقيقة واحدة) يحمل أكثر من 2 مليون عملية بحث على محرك جوجل، 2 مليون وثمانمئة ألف مشاهدة للفيديوهات على يوتيوب، 20 مليون رسالة على الواتس آب، أكثر من مائتي ألف دولار لعمليات البيع على أمازون، وأكثر من ألف طلب توصيل على أوبر.

دقيقة واحدة فقط لا تمثل شيئًا في حياة الأمم والدول؛ لكنها تمثل الكثير للشركات متعددة الجنسيات، عمالقة الاقتصاد، وسادة العالم المحتملين. تبدو هذه الشركات أكثر خفة في تحركاتها وخطواتها بينما تظهر الحكومات بمظهر الأفيال ثقيلة الحركة، الديناصورات التي أوشكت على الانقراض، لا تستطيع التكيف مع التغيرات التي تحدث حولها، تقاتل باستماتة من أجل الحفاظ على مصالحها وعلى وجودها، تسن التشريعات التي تعرقل هذه التغيرات -أو هكذا تظن- لكنها في الحقيقة تقاوم تيارًا جارفًا لن تعوقه سلطة هذه الحكومات. بل إن هذه الحكومات سريعًا ما ترضخ تحت إصرار مواطنيها ورغباتهم لتعود وتقنن ما جرمته سابقًا، كما فعلت الإمارات من قبل مع بلاكبيري، بل وربما تدعمه ماليًا كما فعلت السعودية مؤخرًا مع أوبر. معركة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي مع أبل تبدو مؤشرًا على هذا الصراع ورمزًا له بغض النظر عما آلت إليه نتيجة هذه المعركة.


عالم 2050: جنسياتنا الجديدة

هل نحتاج الآن إلى قليل من الخيال لنرى عالم 2050 بلا حكومات؟، نراه وقد استحوذت فيه الشركات العالمية على مقادير الناس، عالم يستبدل فيه الجميع انتماءاته الاجتماعية أو المهنية بانتماءاته الجغرافية، تصبح جنسيته هي فيسبوك أو أبل بدلًا من الجنسية الأمريكية أو الصينية، جنسية افتراضية تمنح حاملها نفس الامتيازات المعتادة، تأمينًا صحيًا وعلاجيًا، برامج تعليم عن بعد تكفلها هذه الشركات حيث لا جامعات أو شهادات، عالم تمنحك فيه فيسبوك الإنترنت عن طريق مشروع internet.org، عالم بلا حاجة إلى استخراج رخصة قيادة طالما وفرت جوجل سيارتها الجديدة بدون سائق، عالم تسيطر عليه التحويلات المباشرة بين الأفراد (P2P Payments) والقروض المباشرة (P2P Lending) دون الحاجة إلى وسيط.

هل هذا العالم هو ما نحتاجه؟، بالتأكيد لا نمتلك إجابة محددة عن هذا السؤال. فكما يكفل لنا التغير الرقمي كثيرًا من المميزات والفوائد التي ربما لو استطعنا أن نحيا بدونها فبالتأكيد لن يستطيع أبناؤنا ذلك، فإن هذا التغير يحمل لنا الكثير من الكوارث، يحمل لنا أزمات البطالة بعد شيوع استخدام الروبوتات، يحمل لنا الكثير من استباحة البيانات الشخصية والخصوصيات، يحمل لنا أعتى مبادئ الرأسمالية متجسدة في كل تفاصيل حياتنا.

هل نملك ما نفعله حتى نمنع هذا؟، ربما. لا أحد يستطيع أن يجزم هل يكون عالم 2050 أقل جمالًا من عالمنا أم أفضل حالًا، لكن يبدو أن هذا العالم سيكون مختلفًا عما نتخيله الآن.