على حائط غرفة أحد الشباب في إحدى مدن مصر تظهر صورة بالأبيض والأسود لرجل عجوز بملامح غربية تغطي عينيه نظارة بعدسات سميكة وإطار أسود كبير، وكلما دخل أحد أصدقائه الغرفة سألوه في حيرة وتعجب عن هذا الشخص وهذه الصورة. يجيب الشاب بشكل تلقائي «هذا هو «وودي آلن»، كاتب ومخرج أمريكي، ترشح لجائزة الأوسكار 24 مرة وفاز بها أربع مرات، والمفاجأة أنه لم يذهب لاستلام أي منها» ثم يسكت، جرب الشاب هذه الإجابة عشرات المرات وفي كل مرة تنجح في جذب اهتمام السائل بهذا العجوز الذي جعله يحب السينما.

ينجح الشاب أيضًا لأنه يستخدم لغة الأرقام، ولأنه يخبر من يسأله أن وودي آلن قد ترشح لجائزة الأوسكار عن فئة الكتابة 16 مرة، وهو بذلك أكثر من ترشح لهذه الجائزة في تاريخها. لا يذهب آلن لاستلام أي من جوائز الأوسكار التي فاز بها؛ لأنه يرى أن الجائزة قائمة على التفضيل وأنه لو قبل في إحدى السنين أن الأكاديمية قد أحبت فيلمه وأعلنته الأفضل، فعليه أن يقبل في العام القادم أن فيلمه لم يكن جيدًا لمجرد أن الأكاديمية رأت غير ذلك. يرى آلن أنه لا يحق لأي من كان أن يعلن من هو الأفضل، فالسينما لم تُصنع لمثل هذا. ولكن على الرغم من ذلك ينجح هذا الشاب في جذب اهتمام أصدقائه من خلال ذكر جوائز لا تهم من فاز بها، وهذه هي الحياة التي يصفها وودي آلن في آخر أفلامه بأنها تشبه «عرضًا كوميديًا مكتوبًا بواسطة كاتب سادي».


«نكات على عُلبة كبريت فارغة»

شق «وودي آلن» طريقه في خمسينيات القرن الماضي كمؤدٍ لعروض الكوميديا، ينتقل بين وسائل المواصلات ويكتب النكات خلال ذلك، لم يكن كاتبًا له طقوسه الخاصة، يمكنه ببساطه الكتابة في أي وقت وباستخدام أي شيء، حتى لو كان ذلك على «علبة كبريت» فارغة. يحكي آلن أنه في هذه الأيام كان يكتب ما يزيد عن الخمسين نكتة يوميًا ويبيعها ليتمكن من إعالة أسرته، وفي أحد الأيام أشارت عليه زوجته بأن يرسل إحدى كتاباته الكوميدية إلى جريدة The New Yorker، يحكي آلن أنه لم يصدق حينما ردت الجريدة وطلبت منه إجراء بعض التعديلات قبل النشر، كانت «النيو يوركر» صحيفة ذات مكانه مقدسة لدى الأدباء والمثقفين في ذلك الوقت.

صعد اسم آلن بعد ذلك شيئًا فشيئًا، وبدأ في المشاركة في كتابة العديد من البرامج والعروض التليفزيونية الكوميدية حتى وصل إلى شاشة السينما ككاتب وممثل كوميدي في بداية الستينات. لم يكد آلن يمثل أول أعماله حتى قرر أنه سيقوم بإخراج ما يكتبه أيضًا، ومنذ فيلمه الأول كمخرج بالإضافة للكتابة والتمثيل في عام 1966 وحتى اليوم لم يتوقف آلن عن صنع الأفلام، خمسون عامًا بالتمام والكمال من صنع الأفلام.


حينما يضحك كوميديان يبكي الجميع

في بداية عام 1978 كان آلن النجم الأول على قمة عالم السينما، فاز فيلمه Annie hall الذي أُنتج في العام السابق بأربع جوائز أوسكار، فاز آلن بجائزتي أفضل مخرج وأفضل سيناريو كما فازت بطلته ديان كيتون بجائزة أفضل ممثلة، وفاز الفيلم بجائزة فيلم العام. أثبت آلن للجميع أنه صانع سينما من طينة الكبار وليس مجرد كوميديان يلقي النكات، وحقق نجاحًا غير مسبوق بفيلمه الرومانسي الكوميدي الذي يناقش تساؤلات لا نهاية لها حول الحب والعلاقات العاطفية، كيف يبدأ وكيف يستمر وكيف ننجح في علاقتنا بمن نحب وكيف نستمر في الحياة حتى بعد فشلنا. كان الجميع يتحدث عن صنع جزء ثانٍ من الفيلم من شدة نجاحه، ولكنهم لم يعلموا أن آلن كان يُحضر لشيء آخر.

من فيلم Interiors إنتاج عام 1978 وإخراج وودي آلن

فاجأ آلن الجميع وصنع في هذه السنة فيلمه «Interiors» الذي كان مغايرًا لكل ما صنعه من قبل، فللمرة الأولى غاب آلن عن بطولة أحد أفلامه بعد أن حاز أخيرًا على ترشيح أوسكار في فئة أفضل ممثل في العام السابق، غابت أيضًا الموسيقى التصويرية بشكل كامل عن أحداث الفيلم، تخلى آلن عن ظهوره وعن اختياره للموسيقى الذي يمثل بصمة خاصة يدركها جميع محبيه.

في المقابل قدم آلن هذه المرة فيلمًا ميلودراميًا يتحدث عن علاقات متشابكة داخل أسرة تعاني الأم فيها من ألم نفسي عميق يصاحبه شعور بالاغتراب والرغبة في الانتحار، فتلجأ لبناتها فتجد لكل واحدة منهن مشاكلها الخاصة، فإحداهن تائهة وغير قادرة على تحديد طريقها في الحياة، والأخرى تميل للعزلة وتحاول الهرب من كل ما يفيض به العالم من ضجيج وبريق، والثالثة تنغمس في ملذات الدنيا لدرجة تنسى معها ماهيتها. وسط كل هذا يظهر الأب كهارب من بيت منغلق وبارد يشبه الجبل الجليدي ويرغب في الارتباط بامرأة أخرى تحب ارتداء الألوان والاستلقاء على شاطئ البحر.

هذا التشابك المعقد للغاية وهذا الفيلم الجاد والحزين كان آخر ما يتوقعه جمهور آلن في هذا التوقيت. كان آلن يضحك خارج القاعة فيما كان الجمهور يبكي في واحد من أكثر الأفلام حزنًا في تاريخ هوليود. رُشح الفيلم لخمس جوائز أوسكار لم يفز بأي منها، ولكنه بقي حتى اليوم واحدًا من أفضل أفلام آلن في مسيرته.

كتب النقاد كثيرًا عن تأثير المخرج السويدي الكبير «إنجمار بيرجمان» الذي بدا واضحًا على أسلوب «آلن» في هذا الفيلم، فيما كتب آخرون عن أن التأثير الأكبر يمكن إرجاعه لكتابات الأديب الأمريكي الكبير «أوجين أونيل» على «آلن». ليس من المهم أن نُثبت أيًا من ذلك ولكن الأكيد أن «آلن» أجبر الجميع منذ ذلك الحين على مناقشة أعماله من خلال رؤية تستدعي أسماء الكثير من الأدباء والفلاسفة.


متى تنتهي الحكاية؟

من فيلم Interiors انتاج عام 1978 وكتابة وإخراج وودي ألن
من فيلم Interiors انتاج عام 1978 وكتابة وإخراج وودي ألن
نعم أنا أفضّل كتابة الروايات على صنع الأفلام، يمكنني أن أتحكم في الرواية بشكل أكبر، وهناك شيء آخر هام؛ يمكنني أن أمزقها حتى بعد أن أنتهي من كتابتها إذا لم تعجبني، للأسف لا يمكنني أن أفعل نفس الشيء بالنسبة للأفلام.

قام وودي آلن حتى الآن بإخراج ما يزيد عن الخمسين فيلمًا، ولا يبدو أنه سيتوقف رغم إكماله لعامه الواحد والثمانين في الأول من ديسمبر هذا العام. يبدو أنه وكما قال يوفر كتابة الروايات للأيام التي لن يقدر فيها على الخروج من بيته في الصباح للذهاب لمواقع التصوير، ويبدو أيضًا أن محبي السينما على مستوى العالم يشاركونه نفس الأمنية، ففيلم وودي آلن السنوي دائمًا يستحق المشاهدة، وكما يُقال فأسوأ ما يمكن أن يقدمه وودي آلن من أفلام سيظل أفضل بكثير من معظم ما يحيط بنا الآن.

وعلى جانب آخر فالمفاجآت السارة ستظل منتظرة من هذا العجوز الأمريكي، فعندما ظن الكثيرون أنه انتهى صنع لنا «Midnight in Paris» الذي ضمن له آخر جوائزه في الأوسكار على مستوى الكتابة، حينما نقل لنا باريس بصورتها الأكثر رومانسية ليجعلنا نشعر بالحنين لشوارعها بمجرد مشاهدة الفيلم وكأنك تسترجع ذكريات لم تحدث لك أصلاً.

ثم أهدى أخيرًا «كيت بلانشيت» جائزة أوسكار أفضل ممثلة عن دورها المركب والمعقد للغاية في فيلمه «Blue Jasmine». يتحدث كثيرون عن أنه انتهى ويَنسوْن أن هذا حدث في الحفل الذي تم في العام قبل الماضي، صنع آلن بعدها ثلاثة أفلام في أقل من ثلاث سنوات، وربما لو وجهت هذا السؤال له فلن يهمه الأمر، هو يصنع الأفلام لأنه يحب ذلك ولأنها تشغله عن العالم بكل ما فيه من بؤس وحيرة.


من فيلم Manhattan إنتاج 1979 من كتابة إخراج وبطولة وودي ألن
من فيلم Manhattan إنتاج 1979 من إخراج وودي آلن

تتبع آلن عبر السنين جماعة من محبي أفلامه، تمثل أغانيها بالنسبة لهم الموسيقى التصويرية لحياتهم، وتتصدر قائمة أمانيهم أن يستمعوا لعزفه مع فرقة الجاز الخاصة به والتي تعزف يوم الإثنين من كل أسبوع في «كافيه كارليل» الذي يقع بإحدى ضواحي نيويورك. أحب هؤلاء نيويورك التي أحبها آلن وقدمها في صورة مدينة الأحلام والرومانسية الضائعة في معظم أفلامه. ستجد أحد كادرات المدينة من فيلمه «Manhattan» على أحد حوائط غرفهم، أو ربما ستجدها صورة حسابهم الشخصي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي.

بعيدًا عن كل هذا لا يرى آلن نفسه بنفس الصورة، ولا يعتبر نفسه صانع سينما عظيمًا، كما لا يفضّل أن تتم معاملته بشكل أيقوني. يسخر وودي آلن من أي شيء جدي يُثار حول أفلامه، كما أنه تقريبًا يسخر من كل شيء آخر، ولا يمانع في أن يسخر منه الجميع. ربما هذا هو أجمل ما في السينما، أنها تجعلك قادرًا على أن تصنع صورتك الخاصة عن أبطالك المفضلين، تشاركهم هواجسهم وأفكارهم، حتى لو لم يكونوا بنفس الشكل الذي تصورتهم فيه، يكفي في النهاية ما تركوه من آثار في روحك وأحلامك، حتى لو كان هذا دون قصد.

لم أفكر أبدًا في الأفلام كغاية، أردتها دائمًا كوسيلة لحياة أفضل.