أخطر الناس على الأسد أقربهم إلى عرينه.

تنطبق هذه المقولة على المخابرات المركزية الأمريكية، التي تعرضت لحرج بالغ بعد تسريب وثائق سرية خاصة بها على يد بعض من العاملين لديها، وتسليمها لموقع ويكليكس لينشرها بدوره كاشفًا عن المزيد من أسرار عمل الأجهزة الأمريكية وطرق تجسسها على الأفراد والدول، لتثار التساؤلات حول ضعف قدرة الاستخبارات على حماية ذاتها، وكذلك الأدوات المستخدمة في التجسس على الحكومات والأفراد.


ويكليكس تهز عرش المخابرات الأمريكية

نشر موقع ويكيليكس، في السابع من مارس/آذار الجاري، حوالي 9 آلاف وثيقة تحت اسم «المخزن رقم سبعة Vault 7 – السنة صفر»، وقد حُصل عليها من قسم التجسس الإلكتروني التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، في اختراق جديد للمؤسسة الأمريكية؛ مما أضعف صورتها أمام الرأي العام الأمريكي سواء من حيث تجسسها على المواطنين أو قدرة جهات أجنبية على اختراقها.

وأظهرت الوثائق المسربة تجسس الـ CIA على الناس حول العالم باستخدام تقنيات تتيح لها اختراق أجهزة الهاتف المحمول والتلفزيون والكمبيوتر، بل اختراق السيارات واستخدامها في تنفيذ عمليات اغتيال لتبدو وكأنها حادث عادي!.

في هذا التقرير لن نخوض في كيفية عمل المخابرات الأمريكية أو أدواتها المستخدمة أو كيف تم تسريبها، فقد تناولها تقرير متميز على الموقع بعنوان «كيف اخترقت الـ CIA حكومات العالم؟ وثائق ويكيليكس تجيبك»، هنا فقط نركز على بعض من جوانبها السياسية والأمنية.

ولحساسية هذا الأمر على آليات عمل الأجهزة الأمريكية،رأى وزير الدفاع الأمريكي السابق والمدير السابق لـ CIA، ليون بانيتا، أن تسريبات ويكيليكس ستجعل مهمة أجهزة الاستخبارات الأمريكية أكثر صعوبة، وتضعف ثقة أجهزة مخابرات الدول الحليفة في التعاون معها.

وليس هذا فقط، بل أكد بانيتا أن التسريبات ستدمر قدرة عناصر المخابرات الأمريكية على جمع المعلومات اللازمة، مضيفًا: «عندما تحدث مثل هذه التسريبات فهي لا تدمر فقط المصادر بل أيضًا التقنيات المستخدمة، ونقل هذه المعلومات إلى الأعداء أمر خطير جدًا بالنسبة لقدرتنا على حماية بلدنا».

ومن المعروف أن المخابرات الأمريكية تتعاون مع أجهزة أخرى في مجال المعلومات والاستخبارات، وهذا قد يكشف طبيعة عمل هذه الأجهزة أيضًا، فقد أظهرت وثائق ويكيليكس تعاون جهاز الاستخبارات البريطاني الخارجي «MI6» مع نظيره الأمريكي في برامج التجسس على الهواتف والأجهزة الذكية الأخرى، ولهذا ستتخذ العديد من الدول الحذر في مشاركة بياناتها مع الولايات المتحدة.

ونتيجة لكشف الوثائق عن بعض آليات عمل الجهاز، فمن المرجح كشف أشخاص يعملون لحساب الـ CIA، ولهذا فتحت السلطات الأميركية تحقيقًا حول التسريبات الأخيرة، بعد تأكيد وكالة الاستخبارات أن نشر ويكيليكس وثائق عن آليات قرصنة المعدات الإلكترونية تضع العملاء الأميركيين في خطر، وتساعد خصوم الولايات المتحدة رغم عدم إقرارها بصحة الوثائق من عدمها.

وتعتبر هذه التسريبات ضربة موجعة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، فتوجيهها في السابق اتهامات لروسيا بقرصنة الانتخابات الرئاسية الأخيرة إدانة لها أيضًا لأنها لم تستطع حماية نفسها ومؤسساتها من الاختراق، وهذا دليل على ضعفها، وقدرة الدول المعادية على التأثير على أمن الولايات المتحدة.

وجاءت تسريبات ويكيليكس الأخيرة، والتي سبقتها أيضًا، لتضيف المزيد من الحرج على هذا الجهاز الحيوي الذي سرعان ما دخل في جدال مع ترامب الرئيس الجديد متهمينه رغم عدم تقديم أدلة قطعية بالحصول على دعم روسي، ساعده على تشويه منافسته هيلاري كلينتون، وهذا جعل الجهاز يتعرض لأول مرة في تاريخه لهجوم كبير من قبل رئيس الدولة بعد فوزه والتشكيك في فعاليته.


ويكليكس تثأر لترامب

شابَ فوزه بالرئاسة الأمريكية الكثير من الشكوك داخل الولايات المتحدة أكثر من غيرها، ووصل الأمر لدرجة اتهام المخابرات الأمريكية للرئيس الجمهوري بالحصول على دعم روسي خلال حملته الانتخابية.

وأوضحت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية في ديسمبر/كانون الأول الماضي نقلًا عن مسؤولين مطلعين أن تقييمًا سريًا لـ CIA أكّد تدخل نشطاء روسيين سرًّا في الحملة الانتخابية في محاولة لضمان فوز ترامب، وذلك عن طريق تزويد هؤلاء النشطاء موقع ويكيليكس برسائل إلكترونية سُرقت من مسؤولي حملة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، وهو ما ساهم في إضعاف صورتها أمام الناخب الأمريكي لصالح ترامب.

واستغلالًا لهذه الفرصة في ظل رغبة ترامب السيطرة على الوكالة،أعلن المتحدث باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، أن الرئيس الأمريكي يرى أن نظام (CIA) قديم، ووضع التكنولوجيا في الوكالة بحاجة إلى التطوير، بل وصفها كما وصف حلف الناتو من قبل بأنها «عفا عليه الزمن».

ولهذا يعد إظهار أجهزة المخابرات الأمريكية بأنها مخترقة تشكيكًا في صحة مزاعمها بدعم موسكو لترامب؛ لأنها غير قادرة على حماية نفسها، وهذا ما أوضحه الرئيس الجمهوري، الذي اعتبر أنه من المشين بالنسبة لـ CIA أن تتحدث عن معلومات ملفقة وخاطئة، وقال: «أعتقد أنه أمر معيب، فهذا الشيء كانت تفعله ألمانيا النازية».

وهزت انتقادات ترامب الدائمة الثقة في فعالية الجهاز وطريقة عمله، وقد اتهم مسؤولون سابقون ساكن البيت الأبيض بأن اتهاماته وتشكيكه في أجهزة المخابرات يقوض عمل الجهاز، كما أوضح رئيس الـ CIA الأسبق، مايكل هايدن، أن انتقاد ترامب الدائم لعمل المخابرات الأمريكية يقوض من جهود عملها ويعرض العاملين فيها للخطر.


هل تقف روسيا وراء ويكليكس؟

تعتبر روسيا من أكبر المستفيدين من تسريبات ويكيليكس، حتى وإن لم تكن وراء نشرها، وذلك على النحو التالي:

  • إثارة الشكوك فيمن يعملون داخل ولصالح الاستخبارات الأمريكية، وكشف عملائها، إذ أكد جوليان أسانج صاحب موقع ويكليكس أن الوثائق حصل عليها بمساعدة أفراد من داخل الجهاز.
  • زيادة التوتر بين أجهزة المخابرات الأمريكية وترامب، إذ اعتبر الرئيس الجمهوري أن الـ CIA أساليب عملها أصبحت من الماضي، وشكك في معلوماتها وطريقة عملها.
  • خلق قناعة لدى الولايات المتحدة أن روسيا قادرة على الإضرار بها وبحلفائها، وبالتالي كسب ورقة جيدة في التعامل والتفاوض مع الغرب.
  • التأثير على أجهزة مخابرات الدول الأخرى وإثارة الشكوك لديها في التعامل مع نظيرتها الأمريكية.

وكما اتهمت الولايات المتحدة روسيا بالوقوف وراء قرصنة الانتخابات الأمريكية، اتهمتها أيضًا بدعم موقع ويكيليكس رغم أن هذا لم يتم بشكل رسمي، حيث اعتبر المدير الأسبق لـ CIA، مايكل هايدن، أن الموقع يعمل كذراع لروسيا؛ لأنه لم ينشر أي بيانات عن موسكو قد تمثل تهديدًا لها.

وأكدت وكالة الاستخبارات المركزية ذاتها أن نشر ويكيليكس وثائق عن آليات قرصنة المعدات الإلكترونية تضع العملاء الأميركيين في خطر، وتساعد خصوم الولايات المتحدة، رغم رفضها تأكيد صحة الوثائق من عدمها.


أوروبا تحصن نفسها

كشفت التسريبات الأخيرة لويكليكس عن ضعف المخابرات الأمريكية، فهي إن كانت صحيحة فهذا بمثابة فضحية لـCIA من ناحية القدرة على اختراقها، ومن جهة أخرى تجسسها على مواطنيها بشكل مخالف للدستور وضعها في مأزق أخلاقي، كذلك استطاعت روسيا إثارة المخاوف لدى الغرب من قدراتها على اختراقه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

وهذا ما أوضحه وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، أن روسيا لديها القدرة على تنفيذ هجمات إلكترونية ضد الغرب، رغم تأكيده أنه لا توجد دلائل على شن موسكو هجمات قرصنة ضد دول أوروبا.

ولتخوف أوروبا من تكرار السيناريو الأمريكي في انتخابات الرئاسة،طلبت المخابرات البريطانية من الأحزاب السياسية حماية نفسها من هجمات قرصنة إلكترونية محتملة، محذرة من محاولة متسللين روس التأثير عليهم، واعترفت أن الهجمات المحتملة ضد بريطانيا لا تستهدف فقط الأحزاب وإنما قد تشمل هجمات على البرلمان ومكاتب الدوائر الانتخابية والمراكز البحثية وجماعات الضغط.

وبالنسبة إلى برلين،اهتمت بالتسريبات وأوضحت السلطات الألمانية أنها ليس في حيازتها ما يثبت مصداقية الوثائق التي نشرها ويكليكس لكنها أكدت أنها تأخذ الأمور بجدية، وتتواصل مع نظيرتها الأمريكية لخطورته عليها، فقد زعم الموقع أن CIA استخدمت القنصلية الأمريكية في فرانكفورت الألمانية كقاعدة كبيرة للتسلل الإلكتروني، وإن صح هذا التسريب فهو يعني إما أن برلين متواطئة مع واشنطن أو أن الأخيرة تستغل أراضيها للتجسس على حلفائها الأوروبيين.

ويمكن القول إن تسريبات ويكليكس تكتسب هذه المرة أهمية سياسية وأمنية عما سبقها من تسريبات؛ لأنها استخدمت في قضايا سياسية فاصلة مثل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ووجود تخوفات أوروبية شديدة من حصول هذا السيناريو معها وخاصة من قبل روسيا التي تسعى لوصول تيارات اليمين المتشدد في أوروبا إلى الحكم.