هناك حائط بطولات واحد في العالم لا يحتوي على أية كؤوس تقريبًا، بل يعلوه مجموعة من الصور لمدربين ولاعبين آخرين؛ «جوارديولا»، «بوكيتينو»، «بيريدزو»، وغيرهم، يقع هذا الحائط شمال «بيونس آيرس» بالأرجنتين أعلى مدفأة «مارسيلو بييلسا»، الرجل الوحيد الذي أطلق اسمه على استاد كرة قدم وهو مازال على قيد الحياة؛ ملعب «نيويلز أولد بويز» في بلدة «روزاريو» المجيدة التي قدمت للعالم «جيفارا» و«ميسي».

الحديث عن «بييلسا» دائمًا صعب، ربما لأن الرجل لم يمنحنا العديد من الإجابات على السؤال الأبرز؛ ماذا حقق؟ وفي عالم لا يُثمن إلا المحاولات الناجحة والنتائج النهائية وسجلات التاريخ تبدو الأجواء معادية لرجل لم يُعرف إلا بلقب «لوكو» أو المجنون، نفس العالم الذي منح ذات الأذنين لـ«دي ماتيو» ومنعها عن «ألليجري» و«كونتي»، ونفس التاريخ الذي لن يسجل كأس عالم لـ«مالديني» وسيسجلها لـ«أربيلوا»، ما يجعلك تتساءل عمّن المجنون حقًا.

ولكن لماذا نتحدث عن بييلسا من الأصل؟ لا لسبب إلا لكونه نجح في إضافة صورة جديدة لحائط بطولاته؛ بطلها أرجنتيني آخر اسمه «خورخي سامباولي».


جيل اللوكو

عكس الاعتقاد الشائع، يرى علماء النفس أن الأصول التكتيكية للعبة لا يعود فضلها لروادها ومبتكريها فقط، بل أن دورهم انحصر في بلورة ظروف اقتصادية وثقافية وسياسية في منتج رياضي يعبر عن مجد بلد ما أو أزمة مجتمعها؛ فكان لنظام البرازيل القمعي في السبعينيات والثمانينيات الفضل الأكبر في إنتاج جيل ساحر لا تعجزه التكتلات الدفاعية والضغط والترهيب البدني في الملعب، وهولندا المهددة بالغرق دومًا عبر التاريخ أخرجت كرتها الشاملة المهووسة بالمساحات لحد الجنون، حتى كاتيناتشو إيطاليا كان نتيجة لإحساس دائم بالدونية البدنية وعدم القدرة على التنافس مع كبار القارة طبقًا لمؤرخها الرياضي الأعظم «جياني بريرا».

http://gty.im/465671880

ربما لهذا رأي «بارني روني» محرر «الجارديان» أن بييلسا كان ضرورة لا بد منها، وأنه يعبر عن فكرة حتمية كان خروجها للعالم مسألة وقت لا أكثر؛ الجمع بين الفعالية والنجاعة من جهة وبين الجماليات من أخرى حتى وإن فشل فيها الأرجنتيني ونجح فيها كل تلاميذه تقريبًا، وعكس كل الأمثلة المذكورة فإن فكرة بييلسا لم تأتي لتعبر عن طبقات الشعب الكادحة أو ظروفهم القاسية، فالرجل نشأ في عائلة ميسورة الحال تعمل بالسياسة والمحاماة ولم تكن عقليته المتفردة إلا محاولة مستمرة للتمرد على الواقع والمألوف.

خرج بييلسا في بلد ممزق تكتيكيًا بين مدرستيه الأشهر؛ «المينوتيزم» و«البيلارديزم» نسبة إلى «لويس سيزار مينوتي» و«كارلوس بيلاردو»؛ الثنائي الذي منح الذهب لبلاد الفضة مرتين في تاريخها بطرق متناقضة تمامًا بين هجوم الـ«فلاكو» مينوتي في مونديال 78 وبراجماتية الـ«ناريجون» بيلاردو الدفاعية في 86، وهذا لا يعني بالطبع أن اللوكو من أنصار التوازن وإلا لما صار لوكو من الأساس، لكن لنقل أن الرجل ليس من أنصار التطرف على الأقل.


الثائر الحق

لذا سيُعد الحديث عن سامباولي بدون ذكر بييلسا كالحديث عن مانشستر بدون فيرجسون أو ميلان بلا ساكي، يمكننا القول بضمير مطمئن أن شخصية شيلي الحالية تكونت على يد اللوكو في الفترة من 2007 إلى 2011 عندما قاد الـ«روخا» للتأهل للمونديال بعد فشلهم في التأهل لدورتين متتاليتين، أعقب رحيله فترة فاشلة مع أرجنتيني آخر هو «بورجي» الذي لَفَظه الشيليون سريعًا رافضين التفريط في ملامح الـ«بييلسيستا» التي انطبعت على وجه منتخبهم، قبل أن يعود سامباولي ويقودهم لأول بطولة في تاريخهم على الاطلاق أمام منتخب بلاده بعد اكتساحه البطولات المحلية لأربع سنوات متتالية مع «يونيفرسيداد دو تشيلي» وحصوله على أول «ليبرتادوريس» شيلية في آخر عقدين من الزمن.

توقيت سامباولي كان مثاليًا، الأرجنتيني الذكي قرر استكمال بناء بييلسا الذي يعتبره أحد أفضل العقول التكتيكية في تاريخ اللعبة بلا مواربة، ونجح في المزج بين مجموعة «كولو كولو» بأبرز أعضاءها؛ كلاوديو برافو، فيدال، خارا، فالديفيا وسانشيز، والتي كانت تدين بالولاء للمدرب السابق بورجي الذي تولى تدريبهم في النادي والمنتخب ومجموعة أخرى ضمت جاري ميديل وماوريسيو إيسلا وأوجينيو مينا جمعها بالأولى منتخب الشباب الذي حقق أفضل مركز دولي كثالث عالم في مونديال 2007، ليستفيد من أفضل جيل ارتدى ألوان الروخا في التاريخ.

النتيجة ليست أكثر من مجرد رقم، معلومة أخرى كإزدياد معدل المواليد .. لنقل أنّي أكثر اهتمامًا بالعملية التي تؤدي إلى زيادة المواليد، لا تستطيع أن تنكر أنها أكثر متعة
خورخي سامباولي

http://gty.im/585263332

عادت شيلي مرة أخرى للكرة الكهربية الحيوية السريعة وتعافت من ست هزائم متتالية مع بورجي كانت ثلاثة منها في مشوار التصفيات لتتأهل لكأس العالم لتقع في مجموعة انتحارية ضمت الأسبان بطل العالم، هولندا وأستراليا، عندها خرج سامباولي بتصريحه الشهير عن شيلي التي لن تفرط في طريقة لعبها ولن تخضع للضغوط ولن تنتظر الخصوم، شيلي التي أتت للبرازيل لتكون بطلة الرواية على حد تعبيره، تصريح لم يعره الكثيرين اهتمامًا كبيرًا حتى حقق الروخا فوزين متتاليين أحدهما كان على حامل اللقب ليبدأ الهمس عن الحصان الأسود للبطولة.

شيء واحد ميز سامباولي عن معلمه هو مرونته الشديدة وتمكنه التام من التحولات بين 3-3-3-1 الأشهر للبييلسيستا وشركائها 3-4-1-2 و4-3-1-2 لينتقل بين خط دفاع ثلاثي لآخر رباعي ونفس الأمر يتم في خط الهجوم بالتزامن مستغلًا الثلاثي التكتيكي جاري ميديل، أرتورو فيدال وأليكسيس سانشيز الذي يمكنه اللعب في أي مركز في الدفاع، الوسط والهجوم على الترتيب.

هل تُميز ذلك الـ1 الذي يسبق الـ2 دائمًا؟ ليس صانع لعب تقليدي خلف ثنائي هجومي بل 9 وهمي هو فالديفيا وجناحين هم سانشيز وفارجاس دورهم ينحصر في فتح الملعب على مصراعيه وتثبيت أوتاد الشبكة على أقصى الطرف حتى صعود واحد من ثلاثي الارتكاز أو ظهيري الطرف قبل أن يتجهوا للعمق مرة أخرى للتسجيل كما تكرر أكثر من مرة أمام أستراليا وأسبانيا في المونديال، ليتكون خط هجوم الروخا من خماسي على الأقل وهذا هو التوازن الوحيد الذي يعترف به البييلسيستا؛ دافع بخمسة وهاجم بخمسة .. مبدأ يبدو مألوفًا في كرة القدم الحديثة لأن «كونتي» تحدث عنه كثيرًا وهو بدوره أحد الناقلين عن مدرسة اللوكو، فحتى الطليان لم يستطيعوا تجاهل عبقرية الرجل.

http://gty.im/465665468


المتعة أم النجاح؟ لا يوجد سؤال

كأي بييلسيستا مخلص لأفكاره فسامباولي يرفض الابتزاز الفني بالنتائج، تلك المدرسة خرجت لتثبت أن التكتيك ليس مقتصرًا على الطرق الدفاعية كما كان معروفا قديمًا، في الواقع لم تكن هناك مقولة أكثر خطأً فيما يخص اللعبة لأن الطرق التكتيكية التي تتميز بالمبادرة ومباغتة الخصم في مناطقه تحتاج إلى تدريبات أصعب وتركيز أعلى من تلك التي تعتمد على انتظار الخصم .. إذن كيف تدافع دون أن تتكتل أمام مرماك؟ الاجابة تكمن في الضغط العالي والضغط العكسي؛ تكتيك آخر نقله الجميع عن اللوكو حتى وإن لم يكونوا تلاميذ مباشرين له، بل وأنشئت حوله مدارس كاملة أبرزها على الإطلاق «جيجن بريسينج» كلوب الشهير.

قائمة سامباولي المجنونة للمونديال لم تضم إلا قلب دفاع واحد صريح هو خارا، ينضم له جاري ميديل ومارسيلو دياز ليبرو الوسط ذو القدرات الفنية المميزة فيما يعرف بالـ Deep Lying Playmaker؛ الطراز الذي شهد أفضل طفراته مؤخرًا بقيادة ألونسو وبيرلو وغيرهم، وهو الدور الذي سيؤديه «نزونزي» في اشبيلية على الأغلب، خط دفاع عالي بمسافة لا تقل عن 30 مترًا من مرماه يتمركز بعرض الملعب من الخط للخط لفتح اللعب وتوفير التغطية العكسية.

ثلاثي شيلي لحظة بدء الهجمة بوجود دياز في العمق بين قلبي الدفاع
ثلاثي شيلي لحظة بدء الهجمة بوجود دياز في العمق بين قلبي الدفاع

في المقدمة يضغط سامباولي بوسطه وهجومه وفقًا لمعايير محددة وتعليمات صارمة، فعكس ما قد يبدو للجميع فإن الضغط العالي لا يعني مجرد الركض في اتجاه الخصوم وانتظار الصدفة أو الأخطاء الفردية، بل خلق الظروف المؤدية لتلك الأخطاء ثم استغلالها وقت وقوعها فيما يعرف بالـ Pressing Triggers أو “محفزات الضغط”؛ سيناريو الضغط الشيلي يبدأ من ركلة للمرمى التي تخرج في احتمالين لا ثالث لهما؛ إما طولية ينتظرها دياز، فيدال وأرانجيز ثلاثي الوسط أو قصيرة لقلب الدفاع عندها ينطلق هجوم الروخا في العمق مجبرًا ثنائي القلب على فتح الملعب ومن هنا ينطلق سامباولي لإحتمالين آخرين؛ إما خروج الكرة لأحد أطراف الخصم فيميل هجوم ووسط الروخا مستغلين الخط كمدافع إضافي في مصيدة بديهية أو يضطر إرتكاز الخصم للهبوط بين قلبي دفاعه لتدوير اللعب عندها يعود العمق لمفاجأته من الخلف لأن خصم يواجه مرماه أثناء استلام الكرة هو الحالة المثالية للخطأ، إلا إذا كان بوسكيتس أو كروس بالطبع.

الخط هو أفضل مدافع في تاريخ اللعبة على الاطلاق

بيب جوارديولا

هبوط ارتكاز الخصم لاستلام الكرة بوجهه إلى مرماه يطلق إنذارًا بين صفوف الروخا بوجوب الضغط
هبوط ارتكاز الخصم لاستلام الكرة بوجهه إلى مرماه يطلق إنذارًا بين صفوف الروخا بوجوب الضغط
خروج الكرة للطرف ليس إلا محفز آخر في منظومة سامباولي للضغط العالي
خروج الكرة للطرف ليس إلا محفز آخر في منظومة سامباولي للضغط العالي

لهذا السبب كان فيرناندو يورنتي هو الوحيد الذي لم يمانع سامباولي رحيله هذا الصيف؛ لأن الأسباني العملاق البطيء غير قادر على تأدية نصف مهام سامباولي الهجومية على الأقل، ولكن هذا لم يُجنب إشبيلية خسارة فريق كامل تقريبًا برحيل جاميرو، بانيجا، كريخوفياك وكوكي؛ الرباعي الأبرز في صفوف الفريق عبر العامين الماضيين؛ ليحقق الأندلسيين ربحًا بلغ 25 مليون يورو بعد استبدال كل هؤلاء بفييتو، بن يادير، كرانفيتر، ميركادو، سارابيا، فازكيز، كيوتاكي وجانسو الرائع من ساوباولو .. صيف آخر معتاد لإشبيلية حيث لا يعني رحيل النجوم إلا الفرصة لصناعة المزيد منهم.


يدخل مونشي

بالإضافة لـ«خوانما ليو» أحد الروافد المهمة لفكر البييلسيستا، سيحظى سامباولي بمساعدة أفضل مدير رياضي في الألفية الجديدة بفارق شاسع عن أقرب منافسيه؛ من الرائع أن تتمكن من ضم سواريث أو رونالدو بـ80 و90 مليون، بل من الرائع أن تمتلك 90 مليونًا من الأصل، ولكن الأروع أن تمتلك من يجلب لك بوجبا أو ألفيش مجانًا، وفي هذه الشريحة الأخيرة يقع «مونشي رودريجيث»؛ الرجل الذي قادت تعاقداته الأندلسيين لخمسة ألقاب يوروبا ليج في عشر سنوات، ولقب آخر لكأس الملك بالإضافة لسوبر محلي وآخر أوروبي، محققًا أثناءها ربحًا صافيًا بلغ 133 مليون يورو، 90 منها أتت من بنوك كتالونيا وحدها.

بالطبع تفهم لماذا يبدو هذا إعجازيًا لنادي لم يحقق إلا أربعة ألقاب في النصف قرن الذي سبق مونشي، ولكنك لن تفهم أبدًا لماذا بقى مونشي في الظل بينما تصدر «وودوورد» و«بيريث» عناوين الصحف، لأنه نفس العالم المجنون الذي منح بييلسا لقب اللوكو.

مونشي رودريجيث

http://gty.im/544892254

بالوب في المرمى، خط دفاع رباعي من ألفيش، كاسيريس، فازيو وأدريانو يتقدمه خط وسط من سيدو كايتا، كريستيان بولسن، راكيتيتش وخوليو باتيستا ولويس فابيانو وباكا في الهجوم؛ 11 لاعب لم يكلفوا مونشي سوى 25 مليون يورو وتم بيعهم بـ170، ناهيك عن جواهر قطاع الناشئين كراموس، نافاس، مورينو ورييس الذين أضافوا لخزائن اشبيلية 100 مليون أخرى.


عصر جديد

من بين كل اللافتات التي ترفع في الملعب لن تجد واحدة تشيد بالنتائج الاقتصادية

الأهم هو أن توقيت سامباولي كان مثاليًا للمرة الثانية في مسيرته؛ فبعد عقود طويلة من غياب التكافؤ المالي بين ثنائي المقدمة وباقي أندية الليجا تم إقرار إتفاق جديد يقضي بحصة شبه متساوية للجميع من أموال البث على غرار البريمييرليج، بالطبع من المرعب تخيل ما قد يفعله مونشي وإشبيلية بـ30 أو 40 مليون يورو إضافية كل موسم.

فبينما كان يحصل برشلونة وريال مدريد منفردين على ما يقارب 30-40% من اجمالي المبلغ، ينص العقد الحالي بتوزيع 50% من حقوق البث بشكل متساوي على الجميع، 25% أخرى مرتبطة بترتيب الفريق في الجدول، والربع الأخير متوقف على قدرة كل نادي على التسويق لمبارياته.

كل ما سبق يضعنا أمام مثلث مثير للغاية؛ مدرب حالم يمتلك هوسًا محببًا بالتفاصيل ومساعد عبقري يعتبره جوارديولا أحد أفضل مُنظري البييلسيستا ومدير رياضي لا يشق له غبار، أضف المزيد من أموال البث للخليط السابق وستدرك لماذا ينبغي على الجميع أن يخشى سامباولي.