عندما ذهبت لمشاهدة فيلم «نوارة» اخترت حفلة الظهيرة، ليس فقط لكونها أرخص من الحفلات المسائية، ولكن أيضا لقلة الإقبال على الحفلات الصباحية عموما وهو ما يتيح فرصة أكبر للاستمتاع بالفيلم حيث الهدوء النابع من قلة عدد المشاهدين، فليس هناك من ينغص عليك متابعة الفيلم بالغمز واللمز والتعليقات الساخرة، وليس هناك من رضيع أذنب أبواه في جلبه إلى تلك القاعة المظلمة ما دفعه للبكاء والصريخ طوال الوقت. كانت تجربة ممتعة، لذلك عندما قررت الذهاب لمشاهدة فيلم «محمد خان» الجديد «قبل زحمة الصيف» كان لا بد أن أختار حفلة الظهيرة.في فيلم «نوارة»، وفي صالة عرض تتسع لأكثر من 150 فردا، كان عدد الحاضرين في حفلة الظهيرة 13 مشاهدا فقط، من بينهم خمسة من أصدقائي كنت قد أقنعتهم بضرورة مشاهدة هذا الفيلم. أما في فيلم «قبل زحمة الصيف» فلم يتجاوز عدد الحاضرين الرقم 7، من بينهم أنا وصديق لي، وهو ما يعيدنا إلى السؤال القديم الجديد: لماذا لا يذهب الجمهور إلى الأفلام الجيدة؟.


هل هي حقا أفلام جيدة؟

إذا ما تأملنا خريطة هذا الموسم السينمائي سنجد أنها تزخر بعدد كبير من الأفلام ما بين الكوميدي والأكشن والدراما، منها أفلام لأسماء كبيرة في عالم السينما مثل المخرجين «محمد خان» بفيلمه «قبل زحمة الصيف»، و«يسري نصر الله» بفيلمه «الماء والخضرة والوجه الحسن»، والمخرجات «كاملة أبو ذكري» بفيلم «يوم للستات»، والمخرجة «هالة خليل» بفليمها «نوارة»، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الأفلام الخفيفة أو التجارية.ومن بين الأفلام التي يمكن وصفها بالجادة والجيدة، تم طرح ثلاثة أفلام فقط حتى الآن وهم: «نوارة» لـ«هالة خليل» و«قبل زحمة الصيف» لـ«محمد خان» و«حرام الجسد» للمخرج «خالد الحجر». ولكن لماذا نصف هذه الأفلام تحديدا بأنها جيدة؟، هذه هي المعضلة التقليدية.هل نحكم على الفيلم بعيون الجمهور وبالنظر إلى مدى إقباله على مشاهدة هذا الفيلم دون غيره بدور العرض؟، أم نحكم عليه بعيون النقاد ولجان التحكيم بالمهرجانات الفنية المرموقة؟. وفي ظل الوضع المتردي للسينما المصرية خلال العقدين الماضيين وربما أبعد من ذلك، وتغول الأفلام التجارية والسيئة وهيمنتها على المواسم السينمائية المتتابعة، هل تصلح الإيرادات المادية للفيلم كمعيار للحكم عليه؟.


ثنائية الإنتاج والتوزيع

تلخص تلك المعضلة أزمة السينما المصرية في العقود الأخيرة.، فشركات الإنتاج لا تحكم على الفيلم إلا من خلال مردوده المادي؛ ومن ثم تسعى إلى إنتاج أفلام خالية من أي قيمة فنية ننعتها تأدبا بالخفيفة والتجارية. يعمد صناع هذه الأفلام إلى تقديم كل ما يثير الجمهور ويلعب على غرائزه.ولكن المشكلة لا تكمن في عنصر الإنتاج بقدر ما تظهر جلية في التوزيع. وبالعودة إلى الخريطة السينمائية لهذا الموسم، ففيلم «نوارة» الذي تم طرحه في 23 مارس الماضي تم رفعه منذ أيام قليلة بعد أقل من شهر، على الرغم من الإقبال الكبير الذي شهده الفيلم والنجاح الذي حققه في أسابيعه الأولى؛ وذلك بحجة عدم توفر القاعات وازدحام الموسم السينمائي. وكان الفيلم قد طرح بأكثر من 40 دار عرض في القاهرة والإسكندرية وعدد من المحافظات مثل الدقهلية والشرقية والإسماعيلية. كذلك فيلم «حرام الجسد» والذي بدأ عرضه في 30 مارس الماضي بعدد من صالات العرض تجاوز الثلاثين تم رفعه أيضا قبل انقضاء الشهر الأول، ولا تتوفر أية معلومات عنه بموقع «السينما» (قاعدة بيانات السينما العربية) وغير متاح بأي دار عرض.أما فيلم «قبل زحمة الصيف»، والذي تم طرحه في 13 إبريل الجاري فقد بدأ عرضه في 22 صالة 15 منها بالقاهرة، و6 بالإسكندرية، وصالة وحيدة في الزقازيق بمحافظة الشرقية. وبعد أسبوع واحد تقلص هذا الرقم ليصل إلى 8 فقط، أربعة منها بالقاهرة، وأربعة بالإسكندرية.وفي المقابل سنجد أن الأفلام التجارية والخفيفة، أفلام مثل «اللي اختشوا ماتوا» لـ«غادة عبد الرازق» يعرض في 41 دار عرض، وفيلم «علي ربيع»، «حسن وبقلظ» يعرض في 45 دار عرض، وفيلم «فص ملح وداخ» لـ«عمرو عبد الجليل» يعرض في أكثر من 20 دار عرض.


أزمة السينما المصرية

هذه المعضلة والمعادلة السينمائية الصعبة التي تقتضي التوفيق بين القيمة الفنية والمردود الاستثماري للشركة المنتجة، ليست بالجديدة على السينما المصرية، فطالما عانى منها كل مبدعي ورواد السينما الجيدة والجادة في مصر، فهي السبب الذي ألقى بالعبقري «أحمد زكي» في براثن الاكتئاب، والذي دفعه إلى التكفل بإنتاج بعض أفلامه ما عاد عليه بخسارة «العظم والسقط» كما يقول المثل الشعبي الشهير، وهي السبب الذي دفع بالعديد من المبدعين إلى الغياب الطويل بين كل عمل وتاليه، فترى «داود عبد السيد» يغيبه عقد كامل بين فلميه «مواطن ومخبر وحرامي» و «رسائل البحر»، وهي السبب ذاته الذي غيب «هالة خليل» تسع سنوات كاملة بين آخر أعمالها «نوارة» والسابق له «قص ولزق»، كما أن تلك المعضلة هي السبب في توقف بعض أعمالها مثل فيلم «الراهب» الذي بدأ تصويره بالفعل ولكن اضطرته العقبات الإنتاجية إلى التوقف إلى أجل غير مسمى.في أحد الحوارات الصحفية أشارت «خليل» إلى تلك المعضلة وأكدت أنها لم تغب عن الصناعة، حيث أنها قضت تلك الفترة في كتابة العديد من السيناريوهات التي لم تحظ بالطبع بقبول شركات الإنتاج، كما ضربت مثالا بالمنتج «رمسيس نجيب» الذي حقق تلك المعادلة الصعبة، فلم تمنعه من إنتاج فيلم جاد لـ«فاتن حمامة» و«عمر الشريف» في الوقت الذي يقوم فيه بإنتاج فيلم آخر لـ«إسماعيل يس» الذي يعرف أن إيراداته ستتكفل بتكاليف إنتاج الفيلمين معا، وعليه فلم يمتنع عن تقديم السينما الجيدة كما لم تضطره تلك المعضلة إلى الخسارة المادية.وتجربة «نوارة» من التجارب شديدة الدلالة على هذه الأزمة، فبعد سنوات من الغياب قررت «هالة خليل» أن تعود للسينما بنفسها، وأن تقوم بإنتاج فيلمها الخاص من خلال الجهود الذاتية، وبدأت بالفعل في العمل على الفيلم والاتفاق مع صناعه على التنازل عن جزء من أجورهم والتكافل من أجل إنتاج الفيلم بشكل مستقل، وهو العرض الذي قبله أغلب صناع الفيلم من الممثلين والفنيين، إلى أن وقع اختيار شركة «ريد ستارز» على الفيلم ليكون أول أعمالها، وبالفعل خرج الفيلم إلى النور، ولكنه لم يلبث أن تم رفعه من دور العرض دون أسباب واضحة، وهو ما يؤكد على أن أزمة السينما المصرية تكمن في التوزيع وليس في الإنتاج. ففي حين يسيطر على السوق السينمائية عدد محدود جدا من شركات الإنتاج تتحكم في عملية التوزيع، وفي ظل غياب تام للدولة سواء بدعم السينما الجيدة ماديا، أو بتقديم ضمانات لعدالة التوزيع والمنافسة، لن تصمد أفلام كـ«نوارة»، و«قبل زحمة الصيف» أكثر من شهر واحد، ولن تجد بصالات عرضها في حفلات الظهيرة أكثر من 7 أفراد.