الماركسية أفيون الماركسيين.

هكذا وصفت الاقتصادية الإنجليزية الكبيرة جوان روبينسون الماركسية، لتعبر عن تحوّل الماركسية بالنسبة إلى الماركسيين إلى مسألة مزاج وإدمان وليست مسألة تفكير واقتناع، وعلى الجانب الآخر يقول ماوتسي تونج، زعيم الصين، في كتابه الكتاب الأحمر: «أن المبادئ الأساسية للماركسية لا يجوز أن تنتقض أبدًا». كما أن لينين قيصر الاتحاد السوفيتي أشار إلى البيان الشيوعي الذي أصدره ماركس وأنجلز سنة 1848م بقوله: «أنه ما زال حتى يومنا هذا مصدر الوحي والقوة الدافعة للبروليتاريا المكافحة والمنظمة في كافة أنحاء العالم المتمدن». ويعد قوله بمثابة الدعوة إلى الالتزام الأبدي والحرفي بالوحي الماركسي الذي نزل بالبيان الشيوعي دون أن ينحرفوا عنه بالاجتهاد قيد أنملة، وبذلك أغلق عقول الماركسيين وصاغهم في قالب جامد يتنافى مع التقدمية التي تدّعيها النظرية الماركسية.

وبين واقعية أستاذة كامبردج، وتعصب زعيم الصين والزعيم السوفيتي، نجد مفتاح المناقشة في عبارة أوردها أنجلز، في كتابه لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية:

لا يجب أن يزعم مفكر، أيًا كان، أنه بلغ الحقيقة المطلقة والنهائية، وأن أي فكرة هي وليدة ظروف معينة قد تكون صالحة أو غير صالحة في هذه الظروف بعينها، وإذا كانت هذه الفكرة ملائمة اليوم، فقد لا تصبح كذلك غدًا. ولذلك يجب أن يكف الإنسان عن طلب حلول نهائية وحقائق خالدة.

المادية الجدلية

ورث ماركس وأنجلز الجدلية أو الديالكتية عن الفيلسوف هيجل، ثم جرداها من المثالية وصبغاها بالمادية، بقولهما: «إن المادة هي التي سبقت الفكرة». فبينما كان هيجل يرى أن الوجود المادي ليس إلا صورة أو مظهرًا لتطور الفكرة المطلقة، رأى ماركس وأنجلز أن الفكر ما هو إلا انعكاس الطبيعة بما في ذلك فكرة الألوهية. وبهذا نسفا من اعتقادهما وجود الإله والدين، وعابا على المؤمنين أنهم يؤمنون بالله دون أن يكون معهم دليل مادي يبرر هذا الإيمان، ووصفا الإيمان بالخيال؛ انطلاقًا من مسلمة ماركسية تعتبر أي اعتقاد لا يقوم الدليل المادي على إثباته هو من محض الخيال. وسميت هذه الفلسفة بــ «المادية الفلسفية»، وهذه الفلسفة لا تقتصر على تقرير أن كل شيء يحمل في باطنه نقيضه، بل اعتبرت أن التناقض هو أساس وسبب الحركة والتطور، وترى في عمومية التطور دليلًا أو إثباتًا لعمومية التناقض.

إلا أن الجدلية الماركسية أو المادية الجدلية تعرّضت لاحقا للكثير من النقد خاصة مع ظهور الوضعية المنطقية والفلسفة التحليلية. ففي كتابه «الفلسفة ومنطق تركيب الكلام» (1935)، وتحت عنوان «رفض الميتافيزيقيا»، رأى رودولف كارناب رائد الوضعية المنطقية أن المادية الفلسفية لماركس لم تقدم دليلًا ماديًا على صحتها، وبالتالي فقد وقعت في المحظور الميتافيزيقي الذي قامت أساسًا للتنصل منه. وهو نفس ما ذهب إليه وايت في كتابه «عصر التحليل» (1955) بقوله:

الحديث عن أن العالم الخارجي موجود مستقلًا عن إدراكنا، يشترك مع القول بأن العالم الخارجي غير موجود ولا وجود إلا لأذهاننا، وبالتالي فإن كليهما كلام ميتافيزيقي خال من المعنى.

أما برتراند رسل الناقد اللاذع للماركسية فقد حرص على تجريدها من صفة العلمية التي حاولت أن تختص به نفسها، حيث أكد في «مقدمة حديثة للفلسفة» (1957)، أن عناصر الفلسفة الماركسية التي استمدت من هيجل كلها غير علمية، أي أنه ليس هناك أي سبب على الإطلاق للاعتقاد بصحتها.


المادية التاريخية عند ماركس

تعني المادية التاريخية عمليا أن العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد الحاسم في تفسير التاريخ، ومن ثمّ يمكن تفسير أية ظاهرة تاريخية مهما بلغت من التعقيد بردّها إليه. والحقيقة أن ماركس وأنجلز قد أشارا إلى أن العامل الاقتصادي عامل جوهري، ولكنه ليس العامل الوحيد في تفسير الظواهر المختلفة؛ بخلاف ما ساد بين كثير من أتباعهما. لكنهما لم يحددا بصفة رياضية ما هي الظروف الرياضية التي يمكن أن تجعل العوامل الاقتصادية أكثر أو أقل أهمية من غيرها من العوامل المؤثرة في سير حدث معين. وبالتالي عجزت الماركسية من تقديم مفهوم علمي لماديتهم التاريخية.


الفكر الاقتصادي عند ماركس

حاول ماركس تحديد ثمن السلعة في «نظرية القيمة»، وقال أنه وفقًا لتساوي التركيب العضوي لرأس المال، فإن الأثمان تتحدد وفقًا لكميات العمل المبذول في الإنتاج. إلا أنه تراجع عن ذلك التفسير وقال: إذا اختلف التركيب العضوي لرأس المال، فإن الأثمان تحدد وفقًا لكمية العمل المبذول في الإنتاج وكذلك للربحية، ثم أضاف قائلًا: «أن عنصر العمل له أهمية خاصة».

وبالتالي لم ينجح ماركس في إيضاح كيف أن كمية العمل المبذول في إنتاج سلعة معينة تحدد ثمنها، كما لم ينجح في إيضاح كيف أن عنصر العمل يفوق غيره من العناصر المؤثرة في نفقة الإنتاج، ولم ينجح في إيضاح علاقة الطلب بأثمان السلع، وهذا ما دفع الفيلسوف شارل بتلهايم في كتابه «الانتقال إلى الاقتصاد الاشتراكي»، مشيرًا إلى فشل النظرية الماركسية في تفسير الأثمان، إلى القول تحت عنوان: «حل مشكلة الأسعار»:

أن رأس المال وماركس لا يستطيعان الإجابة على المشاكل الجديدة ولذلك يجب أن ننتقل إلى الأيديولوجيات الفنية العديدة الأخرى للوصول إلى وسائل اقتصادية فعالة.
واستمر نقده لماركس قائلا:
لقد تمخض النقاش حول الأسعار عن نواحي ضعف خطيرة جدًا في النظم الاقتصادية الماركسية». وبذلك فقدت النظرية الماركسية جدواها العلمية.

ويأتي في المرتبة الثانية، نظرة ماركس لقضية استغلال الطبقة العاملة، فقد كانت فئة قليلة من الملاك الصناعيين في وقته تستأثر بثمار عمل ملايين من العمال المعدمين، ولذلك تصور ماركس أن سبب الاستغلال هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ففضل عليها الملكية الجماعية، إلا أن تطور قوى الإنتاج واختلاف المجتمع جعلا من المتعذر في فروع الإنتاج أن يمتلك المشروع فرد واحد، فظهرت الملكية الجماعية في صور مختلفة، منها الشركات المساهمة وملكية الدولة للقطاعات الإنتاجية الرئيسية بقصد الاستجابة الدائمة لتطور آليات الإنتاج، وهو ما جعل تحسين أحوال الطبقة العاملة وجهًا يعكس ما وصل له المجتمع من تنمية اقتصادية شاملة، وبالتالي افتقدت النظرية الماركسية شموليتها لأسباب العالم المعاصر.

ثم تناول ماركس بعد ذلك في المرتبة الثالثة رفاهية الفرد في المجتمع، وعلى الرغم من عدم توافر إحصائيات رسمية عن رفاهية الفرد في المجتمع الماركسي إلا أن إدراك ذلك المَعْلَم أكيد بمجرد النظر إلى أحوال المجتمع الألماني الشرقي مقارنة بالمجتمع الألماني الغربي، فبالرغم من أنهما شطرا ألمانيا وينتميان لشعب واحد إلا أنهما اختلفا من حيث المرحلة الحضارية بسبب اتباعهما أسلوبين مختلفين من حيث العقيدة الفلسفية التي تصوغ أسلوب التطور، وبالتالي فإن المجتمع الماركسي أثبت أنه قد يكون معرقلًا لفرص النمو، وبالتالي فإن رفاهية الفرد في المجتمع غير الماركسي تتزايد باطراد مع مجموع عوامل التقدم في هذه المجتمعات، الأمر الذي جعل الساسة الماركسيين يعيدون النظر في أساليبهم ويتجهون نحو اقتباس ونقل عوامل التقدم لمجتمعاتهم، وهو ما سعى له قادة السوفييت لتحقيق الرفاهية المجتمعية.


الفلسفة السياسية في الفكر الماركسي

إذا كانت الحرية السياسية لم تصل إلى أن تكون يقينا في بعض الديمقراطيات غير الشيوعية، فإنها محل شك في الديمقراطيات الشيوعية التي قال عنها لينين:

تلك المركزية الديمقراطية التي انتقدها الفيلسوف الماركسي والمفكر الاقتصادي الفرنسي جان بابي في كتابه «نقد من الأساس» (1960م)، حيث قال: «إن المركزية والديمقراطية مفهومان متعارضان يستبعد كل منهما الآخر، ورغم ذلك فإنهما غير قابلين للانفصال عن بعضهما في حياة الحزب الشيوعي»، ويمضي قائلًا: «إما أن يعطي الحزب اهتمامه الأكبر للمركزية على حساب الديمقراطية، فيتحول الحزب لمجرد دمية في يد قائد يسلب حرية أعضائه أو يحولهم إلى مجرد خدم طائعين معزولين عن الجماهير. وإما أن يعطي الحزب اهتمامه الأكبر للديمقراطية، ويصبح ناد للنقاش الفوضوي والثرثرة الأيديولوجية». وفي مواجهة هذا التناقض قال الحل المناسب لهذا التناقض يكمن في فن القيادة الصالحة الذي يمكن من معرفة التوفيق والتركيب بين مقادير المركزية والديمقراطية، ففي وقت المعارك تكون المركزية هي المظهر الأساسي، وفي فترات أخرى تتراجع المركزية ويحل محل الديمقراطية.


المجتمع الإنساني في مخيلة ماركس

لا يمكن للحزب الشيوعي من أن يسير سيرًا حسنًا إلا إذا اعتمد تطبيق المركزية الديمقراطية.
لقد قال ماركس في كتابه نقد برنامج جوتا:
تتميز مرحلة الانتقال من الناحية السياسية، بأنها مرحلة لا تزول فيها الطبقات تمامًا ويوزع فيها الناتج القومي حسب العمل، وهذه هي المرحلة الأولى من الشيوعية تمييزًا عن مرحلة أعلى ينعدم فيها التمايز الطبقي كلية، وتنقرض فيها الدولة ويتم توزيع الناتج القومي بين الأفراد بحسب الحاجة.

ويسمي ماركس المرحلة الأولى من الشيوعية بـ«ديكتاتورية البروليتاريا»، أي ديكتاتورية الطبقة العاملة، على بقية الطبقات المنتجة الأخرى.

وقد تعرضت نظرة ماركس للمجتمع للنقد، حيث أن مرحلة انقراض الدولة غير منطقية، لأنها تعني انقراض المصالح، وهي نظرة قاصرة، فلا يمكن لمجتمع أن يحقق اكتفاءً ذاتيا مطلقا من الموارد البشرية والمادية الاقتصادية، بحيث يمكن أن يغلق الحدود على نفسه ويستغني عن العلاقات الدولية استغناءً كاملًا. وإن افترضنا وجود هذا المجتمع لا نستطيع افتراض استبعاد الأطماع الاستعمارية في ظروفه الذهبية الاستثنائية، وبالتالي فلا بد من وجود هيكل للدولة متمثلًا في سلطة سياسية تدبر سلامته.

ومن تلك النقطة ننطلق نحو النظرية الاجتماعية الإنسانية لدى ماركس وأنجلز، والتي تثير التساؤل حول العدالة الاجتماعية والنزعة الإنسانية في المجتمع الشيوعي الذي لا تتولى سلطة إدارته، فقد سلم ماركس باستحالة تحقيق العدالة بين الناس جميعًا بمجرد اعتناق المجتمع للماركسية، وبالتالي فإن المجتمع لن يخلو من الصراع الطبقي وهو ما جعل البعض يرى أن النزعة الإنسانية لدى ماركس تخفي وراءها نزعة طبقية ديكتاتورية تحمل في طياتها الدموية، وقد فسر ذلك لينين في كتابه «الثورة البروليتارية والإلحاد»: “فبالرغم من أن الهدف النهائي من ديكتاتورية البروليتريا هو إلغاء التمايز الطبقي، فإن هذه المرحلة الأولى تشبه الديكتاتورية البورجوازية في أنها هي الأخرى ديكتاتورية طبقة ضد أخرى لا يحدها أي قانون ولا تكف عن اتباع أقصى أساليب العنف وبغير رحمة»، وبذلك فإن الماركسية قد جردت نفسها من الطابع الديمقراطي والإنساني، فعاجلًا أو أجلًا ستتحول الطبقة البروليتارية وهي الصفوة إلى طبقة متميزة، وبالتالي فالطبقية لن تتلاشى بعد تلك المرحلة الوسيطة.