ضاعفت صدمة فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، من صخب الجدل حول مدى صلاحية النظام الديمقراطي الغربي، ومدى قدرته على تحقيق مصالح الشعوب، ومدى تعبيره عن آراء الناخبين، لا سيما بعد رجحان كفة اليمين البريطاني في الاستفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي، وما صاحب ذلك من صعود الأحزاب اليمينية في غرب أوروبا بصورة جعلتها أقرب للفوز بالسلطة من أي وقت مضى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وانهيار الفاشية والنازية، وثار النقاش حول مدى صدق تعبير النظام الديمقراطي عن أفراد الشعب الذين يتم توجيههم عبر وسائل الإعلام التي يملكها أصحاب النفوذ، بل حتى مدى صحة وموضوعية قاعدة الأغلبية، وحقيقة أن الديمقراطية قد تكون مطية سهلة لأعدائها – وقاتليها فيما بعد.

فبرغم شعارات حملة ترامب المليئة بالزينوفوبيا أو ما يُسمى بكراهية الأجانب، والتي لا تتسق مع الثقافة الأمريكية والمجتمع الأمريكي المنحدر أصلا من عرقيات مختلفة، ورفضه من قبل أغلبية الأمريكيين – بل والمصوتين – إلا أنه جاء بطريقة ديمقراطية سليمة بنسبة 100%، وهي – بالمناسبة – نفس الطريقة التي وصل بها هتلر لحكم ألمانيا.

ففي الولايات المتحدة التي خرجت منها نظرية «نهاية التاريخ» التي تزعم أن الديمقراطية الليبرالية تشكل مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي في تاريخ البشرية، يطل علينا ترامب بنزعات يمينية متطرفة بشكل مذهل، مؤذنا بانتهاء عهد تولي الولايات المتحدة لدور «الراعي الرسمي للديمقراطية» حول العالم.


الأمريكيون لم يعودوا يتمسكون بالـديمقراطية التي يتغنون بها

ففي مقال نشرته الكاتبة الأمريكية كاثرين رامبيل في صحيفة «واشنطن بوست» حذرت من أن تمسك الشعب الأميركي بالديمقراطية بدأ في الاضمحلال، وأن ترامب بنوازعه العلنية للاستبداد، ورؤيته التي تتطلع إلى رئاسة بسلطات شاملة، اختار توقيتًا مناسبًا للترشح للرئاسة، مشيرة إلى أن ترامب ربما لم يكن هو الذي أنشأ نزوعًا للاستبداد، بل إن النزوع للاستبداد الذي بدأ ينمو ويتعزز في أميركا، هو الذي أفرز شخصا مثل ترامب.

وقالت رامبيل إن كثيرين يعتبرون ترامب تهديدا خطيرا للديمقراطية، ورجلا قويا لا يهتم كثيرا للروادع التي توضع أمام السلطة التنفيذية من قبل السلطات الأخرى مثل الإعلام والدستور، مستشهدة بما نشرته مجلة «الديمقراطية» التي حذرت من أن الأميركيين أصبحوا أكثر تقبلا للأفكار المعادية للديمقراطية حتى من قبل ترامب، الذي تعهد للصحفيين بإقرار قوانين تحد من حريتهم وتعيين قضاة في المحكمة العليا يتبنون أفكاره.

التهديد هنا ليس للديمقراطية التي تعني التداول السلمي للسلطة، بل إلى «الديمقراطية الليبرالية» التي تُعنَى بحماية حقوق الأقليّات والأفراد

وبالرغم من أن الولايات المتحدة كدولة مؤسسات عريقة، لا تؤثر شخصية الرئيس في رسم مسار الدولة بها كغيرها من الدول، إلا أن ما يعزز المخاوف بشكل أكبر في حالة ترامب أنه يأتي في وقت يتمتع فيه الجمهوريون لأول مرة بالأغلبية في الكونجرس ومجلس الشيوخ بالإضافة إلى الرئاسة، الأمر الذي يمنحه صلاحيات غير مسبوقة.

وعلى الجانب الآخر من الأطلسي يهدد صعود الأحزاب اليمينية في الغرب الأوروبي بتقويض التجربة الديمقراطية ذاتها التي طالما تغنت بها هذه الدول، أو إعادة تعريف الديمقراطية بما يفرغها من مضمونها، والحقيقة أن صعود الأحزاب اليمينية وتنامي نزعة العنصرية، كل منهما سبب ونتيجة للآخر؛ فالنزعة العنصرية هي التي أنتجت التيارات اليمينية التي استغلت بدورها تلك النزعات وعزفت على أوتارها في معاركها الانتخابية.

وإن أردنا الدقة فالتهديد هنا ليس موجهًا بالأساس إلى الديمقراطية التي تعني مجرد التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة، بل إلى «الديمقراطية الليبرالية» تحديدا التي – بالإضافة إلى ما سبق – تُعنَى بحماية حقوق الأقليّات والأفراد وهذا نوع من تقييد الأغلبية.


والأوروبيون أصابهم الملل

وكما يؤكد إريك كوفمان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بيركبيك في لندن، أن الازدياد السريع في التنوع العرقي، يؤدي في المقابل لارتفاع دعم السياسة المعادية للمهاجرين، وهو ما زاد من شعبية أحزاب اليمين التي بدأت تحصل على أصوات ناخبين لم يصوتوا لها من قبل بسبب شعورهم بأن الأحزاب التقليدية لم تعد تمثلهم؛ وهذا بالضبط ما أدى إلى تصاعد موجة «تغيير النخب الحاكمة التقليدية» التي تجتاح غرب أوروبا.

فالنسب التي يحصل عليها حزبا الائتلاف الحاكم في انتخابات الولايات الألمانية، تتراجع لصالح حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، كما استطاعت دعاية حزب «استقلال المملكة المتحدة» اليميني أيضا كسب الأصوات في استفتاء يونيو برغم معارضة معظم قادة حزبي العمال والمحافظين، هذا إلى جانب الشعبية المتعاظمة لحزب الجبهة الوطنية الفرنسية إلى الحد الذي جعل زعيمته مارين لوبان تطمح في الفوز بالرئاسة في أبريل/نيسان المقبل بعدما كان حزبا منبوذا.

وفي النمسا التي كان منصب الرئاسة فيها حكرا على الحزبين الكبيرين (الاشتراكي والشعب) فإن المنصب شهد تنافسًا بين مرشحين أحدهما موصوم بـ«النازية» كان الفارق بينهما في الجولة الماضية 0.6% من الأصوات، لذا تنفست أوروبا الصعداء بعد خسارة المرشح اليميني في الثالث من ديسمبر/كانون الأول الجاري، إلا أن الملفت أن أحدث استطلاع للرأي أجري بعد الانتخابات كشف عن استمرار تصدر الحزب اليميني المتطرف، قائمة الأحزاب النمساوية الأكثر شعبية بواقع 34%[3]، أما في الولايات المتحدة فبالرغم من أن ترامب جاء من الحزب الجمهوري – أحد الحزبين الكبيرين – إلا أنه كان شخصية مرفوضة من قبل أبرز القادة الجمهوريين حتى أن رئيس مجلس النواب الجمهوري نفسه، بول رايان، كان قد أعلن عدم دعمه في الانتخابات [4].

وليس صعود الأحزاب اليمينية هو الخطر الوحيد الذي يهدد الديمقراطية الليبرالية في معاقلها، بل إن الأحزاب المحافظة نفسها بدأت تنحو إلى اليمين أكثر فأكثر في محاولة منها لإيقاف نزيف شعبيتها التي تتراجع لصالح الشعبويين، مما ينذر بتهديد قيم التعددية والحريات التي قامت عليها أسس الحياة السياسية في تلك المجتمعات منذ زمن طويل، وقد يأتي الوقت الذي تصبح فيه تلك القيم غريبة على تلك المجتمعات إذا استمر الصعود الشعبوي اليميني بهذه الوتيرة.

وتشكل هذه الظاهرة خطرًا على التماسك الاجتماعي فيها لأنها تقسم المواطنين بين مواطنين أصلاء أصحاب هوية نقية وآخرين دخلاء، إذا لم يمكن التخلص منهم، فعلى الأقل يجب معاملتهم على أنهم مواطنون من درجة ثانية.


لكن ما السبب؟ « تشومسكي» و «فوكياما» يجيبانك

صعود الأحزاب اليمينية ليس الخطر الوحيد الذي يهدد الديمقراطية الليبرالية، بل إن الأحزاب المحافظة نفسها بدأت تنحو إلى اليمين في محاولة لإيقاف نزيف شعبيتها

وكان المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ التي زعم فيها أن الحضارة الغربية بقيمها الحالية هي أقصى ما يمكن أن تصل إليه البشرية، قد عاد منذ عامين وأصدر كتابا جديدا بعنوان «النظام السياسي والتآكل السياسي» يركز فيه على الدول الغربية، وخصوصا الولايات المتحدة، فيتحدث عن تراجع التجربة الديمقراطية، ويقول: «لأن الديمقراطية هي نهاية التاريخ، فإنها لن تنهار، لكنها قد تتآكل».

ويؤكد فوكوياما أنه لكي تنجح الديمقراطية يحتاج المواطنون إلى اعتزاز غير منطقي بمؤسساتهم الديمقراطية، وتغيير الثقافة الاجتماعية القائمة على الاعتزاز بالانتماء إلى جماعات صغيرة على أساس الدين أو العرق أو أشكال أخرى من الاعتراف، وهي دون الاعتراف الشامل الذي تقوم عليه الدولة الليبرالية، أما الديمقراطية الليبرالية فتبدل الرغبة غير العقلانية في الاعتراف بالدولة أو بالفرد، باعتبار أيهما أعظم من الآخر، وتحل محلها رغبة عقلانية في الاعتراف على أساس المساواة.

ولم يبعد المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في رؤيته التي عرضها في أبريل/نيسان عام 2010،عن وصف الواقع اليوم بمنتهى الدقة، برغم أنها لم تلق قبولا في ذلك الحين، وهي رؤية مظلمة لمستقبل أميركا حيث حذر من أن صعود «رمز يتمتع بالكاريزما» في المجتمع الأمريكي سيكون خطرا على البلاد، لأنه قد يأتي بعده شخص يدفع الأمريكيين باتجاه صناعة أعداء داخل المجتمع [5].

ومضى تشومسكي يشرح نظريته قائلا:

أمريكا محظوظة للغاية بسبب عدم صعود رمز أمين ويتمتع بالكاريزما، فإذا وصل هذا الشخص، فإن هذا البلد سيكون في خطر حقيقي بسبب الإحباط والوهم والغضب المبرر وغياب أي رد متماسك على عدد من القضايا.
الغياب للإجابات المتماسكة يمكن أن يدفع أحد الأشخاص إلى التقدم للصدارة واقتراح أعداء محتملين للأمة الأمريكية مثل اليهود والمهاجرين غير الشرعيين والسود، وتصوير البيض باعتبارهم «أقلية تعاني من الاضطهاد»، وهو بالضبط ما فعله ترامب خلال حملته الرئاسية، عندما حرض على المسلمين والسود والمهاجرين.
وأضاف متنبئا بالأمر الذي تم بالفعل بدقة ووضوح:
لا أعتقد أن هذا سيكون بعيدا للغاية، وإذا كانت استطلاعات الرأي صحيحة فلا أظن أن هذا سيأتي من الجمهوريين ولكن من الجناح اليميني للجمهوريين والجمهوريين المخابيل، الذين سيكتسحون الانتخابات المقبلة.

وقال تشومسكي في حوار مع الوكالة الألمانية معلقا على فوز ترامب، أنه حصيلة مجتمع متداعٍ وماضٍ بقوة نحو الانهيار، وأنه ظاهرة فريدة من نوعها، لم تتكرر مطلقا في أي من الأمم الصناعية الغربية المتحضرة.

وتقول الصحفية في «نيويورك تايمز»، أماندا تاوب، أنها أمضت عاما كاملا في عمل تحقيقات عن صعود «الشعبوية البيضاء»6] تحدثت فيها إلى العشرات من علماء الاجتماع الذين اتفقت أبحاثهم جميعا على عزو الظاهرة إلى ثلاثة عوامل رئيسية هي: الخوف من التغيير الاجتماعي؛ الخوف من الهجمات الإرهابية والتهديدات الجسدية الأخرى، وأزمة الهوية التي يعاني منها الكثير من البيض الذين يكافحون لدعم موقفهم.

وذكرت تاوب أن عددا من علماء الاجتماع أطلقوا مصطلح «الناخب السلطوي» على الناخبين الذين لديهم رغبة قوية للحفاظ على نظام المجتمع، ويشعرون بالقلق الشديد من الغرباء، حيث يشعر السلطويون بتهديد كبير بسبب التغيير الاجتماعي، وهذا الخوف يدفعهم للجوء للقادة الأقوياء ودعم سياسات عقابية قاسية ضد المهاجرين والدخلاء مثلما فعل ترامب.

ويرى أستاذا العلوم السياسية مارك هيذرنجتون وإليزابيث سوهاي، أن الخوف من الهجمات الإرهابية والعنف، يمكن أن يجبر الناس على تفضيل القادة الذين يعطون الأولوية للأمن قبل كل شيء، بما في ذلك الحريات المدنية والمؤسسات الديمقراطية.

وقد انتشر هذا النوع من الخوف على نطاق واسع على مدى العقدين الماضيين، فإن معظم الأمريكيين يعتقدون أن الجريمة آخذ في الارتفاع، برغم انخفاض معدلات الجريمة بشكل كبير خلال تلك الفترة.

وعلى الرغم من ندرة الاعتداءات الإرهابية على الأراضي الأميركية، إلا أن ترامب لعب على هذه المخاوف، معلنا كذبًا خلال حملته الانتخابية أن معدل جرائم القتل في أمريكا كان عند أعلى مستوى له خلال 45 عاما، مطالبا بوقف هجرة المسلمين، لمنع وقوع هجمات إرهابية، مكررا اتهامات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بأن قبول اللاجئين المسلمين يعني استيراد الإرهاب، والجريمة.

ويفسر فوكوياما هذه التصدعات التي أصابت النموذج الغربي بأنها نتيجة غياب الصدمة التي تفيق الشعوب عندما تتعود على السلام والاستقرار لوقت طويل؛ فالنموذج المنافس قد انهار بسقوط سور برلين، هيمنت بعده القيم الغربية لأكثر من ربع قرن بلا منافس حقيقي، ما جعل الاستقطاب يعود اليوم مرة أخرى لكن ليس بين النموذجين الشرقي والغربي؛ بل بين أبناء النموذج الغربي نفسه؛ ما عزز من رجحان المخاوف من أن الديمقراطية الليبرالية تحمل مواد تفجيرها، وتتسع ثغراتها بمرور الزمن حتى تصل إلى درجة يتسع فيها الخرق على الراتق، ولات حين مندم.

المراجع
  1. الحزب الجمهوري يعيش فوضي بسبب ترامب