فصل من التاريخ نورده، لأنه يوشك أن يتكرر. أبطاله هم الراحل حديثًا حجة الإسلام علي أكبر هاشمي رفسنجاني، وصديقه حجة الإسلام السيد محمد خاتمي، وكلاهما كانا رئيسين للجمهورية الإسلامية الإيرانية. كذلك الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بطلنا الثالث.

اندلعت الثورة الإيرانية في فبراير/شباط من العام 1979، ورحل الشاه إلى الولايات المتحدة، لينصِّب الخميني حكومة مؤقتة يقودها مهدي بازركان، وهو ليبرالي ذو ميول إسلامية، عيّنه رئيس الوزراء محمد مصدق رئيسًا لشركة النفط الوطنية بعد تأميمها، وله تاريخ من النضال في مواجهة الشاه، حتى أودع السجن في عام 1961.

وقع الخلاف مبكرًا بين الرجلين، في معركة غير متكافئة، عندما أراد بازركان في مارس/آذار قبيل الاستفتاء الشعبي على إقامة الجمهورية الإسلامية، منح الجمهور الإيراني خيارًا ثالثًا، هو «جمهورية إسلامية ديمقراطية»، وهي الرغبة التي عارضها معسكر رجال الدين الذي يتزعمه الخميني.


الجمهورية «الإسلامية» وهزيمة الليبرالي الأول

كان الخميني ذكيًا بالقدر الذي يجعله حريصًا بعد الثورة على الحفاظ على الدولة، وليس تقويضها، وهو ما جعله يختار بازركان -رجل الدولة السابق- كأول رئيس للوزراء. لكنه كان حريصًا على إنشاء الجمهورية الإسلامية، وهو ما بدا حينها خيارًا شعبيًا، إذ حاز خيار الموافقة نسبة تسعة وتسعين بالمائة من جملة المصوتين، الذين هم عشرون مليونا من جملة واحد وعشرين مليونا، ما يشير إلى أنه كان خيارًا للإيرانيين ولم يكن للخميني ورجال الدين وحدهم.

تضاءل على حساب ذلك المعسكر المعتدل، أو ما يمكن اعتباره ليبراليًا متدينًا، الذي مثله حينها بازركان وبعض من رجال حكومته، ووُضع الدستور الإيراني بعد ذلك، بمشاركة غالبية من رجال الدين، ضمن المجلس التأسيسي المنتخب لهذه المهمة، والمعروف حاليًا باسم مجلس الخبراء.

جاءت حادثة السفارة الأمريكية، في ظل معركة الدستور، كردة فعل على استضافة الولايات المتحدة للشاه المريض محمد رضا بهلوي، إذ طوّق السفارة الأمريكية بطهران أربعمائة من الطلاب الجامعيين، أُطلق عليهم فيما بعد «طلاب مسلمون من متبعي خط الإمام». كانت هذه الحلقة الأولى الفاصلة بين الليبراليين ورجال الدين، وحينما أدرك بازركان أن الإمام لن يأمر الطلاب بالإفراج عن الرهائن الذين ظلوا رهن الحبس أربعمائة وأربعة وأربعين يومًا، تقدم باستقالته.


التمكين للجمهورية الناشئة

لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، أعطت الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988) قبلة الحياة لنظام الجمهورية الإسلامية، بعدما تعرضت لأزمة اقتصادية وسياسية خانقة على إثر أزمة الرهائن، والتصدعات الداخلية التي نتجت عن استقالة حكومة بازركان.

وتوسعت سطوة الدولة في الشارع الإيراني، بدءًا من سياسة التأميم للممتلكات الخاصة، وفرض أسعار جبرية على التجار، والاستبدال بمؤسسات الشاه الأمنية مؤسسات الثورة. أُلغي السافاك والحرس الإمبراطوري، وتم الاستبدال بهما جهاز الاستخبارات وقوات القدس. بسطت وزارة العدل يدها على كامل النظام القضائي، وأعلنت وزارة الثقافة الحرب على الثقافة الإمبريالية، وأعيدت كتابة مناهج التعليم، وفرضت الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام، وجرت مأسسة التغيرات الاجتماعية بخفض سن الزواج ورفع الوصاية عن برامج حماية الأسرة وغيرها.

لم تكن الثورة تفرض السيطرة على مؤسسات الدولة فقط، كذلك امتدت يدها لإنشاء دولة موازية، ومؤسسات تماثل مؤسسات الدولة. على سبيل المثال، مؤسسة المستضعفين، وهي مؤسسة غير حكومية، بلغ رأس مالها بنهاية الثمانينيات ما يربو على عشرين مليار دولار، ضمت مائة وأربعين مصنعًا، وأربعمائة وسبعين مشروعًا للتصنيع الزراعي، ومائة شركة بناء، وأربعًا وستين منجمًا، ومائتين وخمسين شركة تجارية، وفنادق، وجريدتي إطلاع وكيهان. على غرار مؤسسة المستضعفين، كانت مؤسسة علوي، ومؤسسة الشهيد، ومؤسسة الحج، ومؤسسة لاجئي الحرب، ومؤسسة منشورات الإمام الخميني، وهذه المؤسسات لبيان عِظَمها، وظفت لديها ما يزيد على أربعمائة ألف مواطن إيراني. ووصلت موازناتها مجتمعة إلى نصف موازنة الحكومة!


رفسنجاني وخاتمي: محاولة ضبط البوصلة

كان رفسنجاني ركنًا ركينًا في البيت الإيراني بعد الثورة، وله تاريخ نضالي قبلها، وله درجة علمية، «حجة الإسلام»، وهو الذي أقنع الخميني بـ «تجرع كأس السم» -على حد وصف الخميني- والقبول بقرار مجلس الأمن بوقف الحرب الدائرة منذ ثماني سنوات، وهو ما كان.

تولى رفسنحاني بعدها قيادة الجيش لمدة عام واحد، ثم ولي رئاسة الجمهورية بتدبير أعدَّ له بعد وفاة الإمام الخميني، إذ كان مُعدًّا لآية الله حسين منتظري أن يخلف الإمام، إلا أنه استقال في أواخر عهد الإمام احتجاجًا على حمامات الدم التي أراقتها الدولة لتثبيت دعائمها، وغادر إلى قُم وتقاعد هناك.

تولى السيد خامنئي خلافة الأمة، بعد وفاة الخميني، وترشح للرئاسة حجة الإسلام رفسنجاني بعدما ترك خامنئي منصبه كرئيس للجمهورية، وكان التفاهم بينهما حاضرًا حتى برزت نوايا رفسنجاني بضرورة إخضاع المؤسسات الدينية للدولة التي هو رئيسها.

وكان حينها رفسنجاني أقوى رجال البيت بعد وفاة الإمام الخميني، ولذا وجد لرغباته الأدوات التنفيذية، فأعلى من قيمة الليبرالية الاقتصادية وفتح المجال العام بدرجة كبيرة، ورفع يد الدولة عن الأسعار، كما حاول تقليص البيروقراطية التي أسسها الشاه وعظّمها الخميني الراحل. أعاد بعض الملكيات المصادرة بعد الثورة، وخفّض من وتيرة طباعة النقود، وقارب بين أسعار صرف الدولار الأمريكي في البنوك الرسمية والسوق السوداء، وأسس خمس مناطق للتجارة الحرة، وخفض الضرائب على الأعمال، وضُخت الأموال لتشييد البنية التحتية في مجالات التعليم والصحة والصناعة وغيرها.

ظل رفسنجاني مطبقًا لسياساته التحررية لثمانية أعوام، ورتب من بعده لحجة الإسلام، السيد محمد خاتمي، ولم يكن الرجل معروفًا نسبيًا بالقدر الذي كان عليه منافسه، أكبر ناطق نوري، الذي فضله خامنئي لكنه لم يفز في ظل الدعم اللامحدود من قبل رفسنجاني لخاتمي.

استغل خاتمي الفوز الذي حققه بـسبعين في المائة من أصوات الناخبين، فسار على خطى سلفه رفسنجاني، وساعدته بشكل كبير الطفرة التي حدثت في أسعار النفط مطلع القرن الحالي، وهو ما عزز من الدخل القومي للجمهورية. وسار خاتمي بعيدًا في علاقاته الخارجية، وزار عدة عواصم كطوكيو وموسكو ومدريد وروما وباريس، وأعرب عن أسفه على حادثة الرهائن الأمريكيين، واستأنفت بريطانيا علاقاتها مع طهران، بينما خفف الرئيس كلينتون الحظر الاقتصادي على طهران.

لختام هذا المشهد، بقي أن نذكر تعليقًا أوردته الجارديان البريطانية، لأحد الشباب من مرتادي الحفلات الخاصة: «في السابق كنا نتجمد من الخوف إذا سمعنا جرس الباب. بينما الآن، إذا ما حدث، نعرف أن شخصًا ما قد أتى متأخرًا».


جورج بوش: السير في الطريق الخطأ

في خطابه المتلفز، في يناير/كانون الثاني 2002، نسف الرئيس الأمريكي جورج بوش المساعي الإصلاحية لقرابة العشرة الأعوام بوصفه إيران خطرًا على السلام العالمي باعتبارها ضمن محور الشر، وذلك بعد ثلاثة أشهر من أحداث برج التجارة العالمي سبتمبر/أيلول 2001. جاءت هذه التصريحات وكانت الولايات المتحدة وإيران في انسجام تام مع بدء عودة المياه الدبلوماسية إلى مجاريها.

وقد كتب أحد المراسلين الصحفيين الغربيين من طهران عقب الخطاب: «لام خاتمي خطاب محور الشر لبوش، لإغراقه إيران في أزمة ممتدة بإعطائه أوراقًا لمعارضيه المحافظين، وتجميده الإصلاح الداخلي»، وهو الجدل ذاته الذي أثاره أحد محللي المخابرات البريطانية، بأن هذا الخطاب شكّل حجر عثرة، حيث ملّك المحافظين أوراقًا، وعزز من موقفهم المعادي للأمركة، وساعد على إخراس الإصلاحيين. وكتب صحفي أمريكي: «أنقذ الرئيس بوش المحافظين بتسميته إيران جزءًا من محور الشر».

وكتبت النيويورك تايمز أنه منذ حدد الرئيس بوش إيران باعتبارها طرفًا في شركة الإرهاب الدولي المفتوحة لمهاجمة الأمريكيين، كان ذلك بمنزلة طوق النجاة للمحافظين في إيران، الذين حاولوا بدورهم استخدام انتعاش التباعد مع أمريكا لقمع الإصلاح في الداخل، وتقويض برامج الرئيس خاتمي الإصلاحية.

النقطة السلبية الثانية التي أثارتها الأزمة شق الصف الإصلاحي، فبعضه لم يعد يرى في آليات الإصلاح من الداخل خيارًا ناجعًا، وأن ثمة وسائل أخرى أكثر نجاعةً.

حاول الرئيس خاتمي مع ذلك استكمال التنسيق مع الولايات المتحدة، وهو ما ذكره الدبلوماسي الأمريكي زلماي خليل زاد في سيرته الذاتية المنشورة حديثًا عن لقاءات جمعت بين جواد ظريف – سفير إيران لدى الأمم المتحدة في حينها – ومسؤولين من الإدارة الأمريكية في مارس/آذار 2003، للتنسيق حول بعض النقاط المتعلقة بغزو العراق. ثم أُغلقت قناة الاتصال هذه بعدما اتهم الرئيس بوش في مايو/آيار 2003 إيران بإيواء عناصر من تنظيم القاعدة كانوا قد تورطوا في أعمال عسكرية معادية للولايات المتحدة على الأراضي السعودية وراح ضحيتها ثمانية أمريكيين.

وعلى إثر هذه الضربات المتلاحقة، تعطلت مسيرة الإصلاح في إيران، ليأتي للسلطة الشعبوي المتشدد محمود أحمدي نجاد.


ترامب يعاود الكرة ويهزم من تبقى من الإصلاحيين

يعاني المعسكر الإصلاحي في إيران اليوم كثيرًا، ورغم أنه في سدة الحكم، فإن السطوة التي يفرضها المرشد الأعلى بعدما تقوّت شوكته، تجعله هو المتحكم الأول والآمر الناهي في كل ما يخص الجمهورية داخليًا وخارجيًا، ولعل وفاة رفسنجاني تعزز هذه السطوة أكثر فأكثر.

ومع ما توصل إليه الرئيس روحاني في يوليو/تموز 2015 من اتفاق بين بلاده والدول الكبرى فيما يخص ملف إيران النووي، يدخل إلى البيت الأبيض رجل يميني شعبوي، أكثر تطرفًا ربما من جورج بوش، يعلن عن رغبته في تمزيق الاتفاق النووي خلال حملته الانتخابية، ليعيد الكرَّة ثانية.

الاتفاق الذي عنى للولايات المتحدة وإيران الكثير، ويتوقع أن ينتج من ورائه انفتاح اقتصادي، من شأنه أن يغير موازين القوة الاقتصادية التي يفرض الحرس الثوري الإيراني سيطرته عليها، وهذا سيجعل زمام الأمور ينفلت نسبيًا من يد التيار المحافظ. نقطة أخرى، تتمثل في كون الاتفاق مشروعًا إصلاحيًا يُبيِّض وجه روحاني وشركائه في محاولتهم لإنفاذ سياسات أكثر تحررًا.

لننتظر، فبداية العام الحالي أذنت بقرب موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية، المقرر لها أن تُعقد 19 مايو/آيار القادم، في ظل عالم يجر فيه اليمين بعضه بعضًا.

المراجع
  1. أروند إبراهيميان: تاريخ إيران الحديثة، عالم المعرفة، فبراير 2014.
  2. 3 بدائل لترامب تثنيه عن تمزيق الاتفاق النووي الإيراني
  3. U.S. Conferred With Iran Before Iraq Invasion