السؤال الذي لطالما راوغ أذهان الكثيرين من المهتمين بقضايا العالم المختلفة، إذ باتت لديهم صورة متخيلة عن الاتجاهات التي يتخذها العالم في مختلف قضاياه، التي تنحاز في أغلب المناسبات باتجاه الفاعل الأقوى، نحاول إذن تفنيد معنى القوة، وسرد بعض العوامل الأساسية التي تجعل الدول قوية.

ما هي القوة؟

حاول «جوزيف ناي»، رئيس مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي سابقًا، ومساعد وزير الدفاع الأمريكي في حكومة بيل كلينتون، تعريف القوة فقارنها بالطقس، الذي يسهل الحديث عنه أكثر من فهمه، ثم عاد فقارنها بالحب، الذي تسهل معايشته دون تقديم تعريف له، لكن إذا ما حاولنا تعريف القوة بالقدرة العسكرية التقليدية، التي تعني القدرة على سحق العدو، حينها ستكون الأسلحة النووية المحدد الرئيسي لمن هو القوي ومن هو الضعيف، وحينها أيضًا ستكون الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية أقوى دول العالم.

وإذا ما حاولنا تعريف القوة من حيث القدرة الإنتاجية للدولة من خلال إجمالي الناتج المحلي لكل منها، ستتصدر دول كالولايات المتحدة واليابان وألمانيا. مفهوم القوة إذن يبدو مراوغًا ومتطورًا بمرور الزمن، فمثلًا في القرنين السابع عشر والثامن عشر ساد اعتقاد بأن الحكومات التي تستطيع تعبئة أكبر عدد من الجيوش وإطعامها وتسكينها وفرض الجباية الضريبية على مواطنيها هي الأقرب للقوة من غيرها، وهي الأقرب لحسم الحروب والنزاعات لصالحها.

ثم كان القرن التاسع عشر حيث الثورات الصناعية وتطور الآلة والسكك الحديدية أكثر أهميةً من الزراعة وتجارة الخامات الأولية. وانقلبت الموازين التي تحددت في قرنين سابقين، فروسيا التي كانت شاسعة المساحة وبها الكثير من أساليب القوة الزراعية والإنتاجية المتطورة، إضافة للجيوش الجرارة إذا ما قورنت بألمانيا، لافتقارها لما كان لدى الألمان من سكك حديدية ووسائل حديثة للصناعة، بدت الأضعف.

ثم كان القرن العشرين حيث التطور التكنولوجي واستخدام الإنترنت لاختصار المسافات والأوقات، وتداول المعلومات، وتميزَ القرن العشرين عن الأزمنة السابقة له، بزيادة قوة الأفراد والجماعات غير الحكومية، وقدرتها على التأثير في السياسات الخارجية للدول. فهذه «جودي ويليامز»، سيدة شابة تعمل من خلال منزل متواضع في ولاية فيرمونت الأمريكية، تمكنت – من خلال عملها على الإنترنت لـ 6 سنوات – من تنظيم ائتلاف مكوّن من (1300) منظمة غير حكومية في (60) دولة، وقامت بصياغة اتفاقية دولية لمنع إنتاج وتخزين واستخدام الألغام الأرضية على مستوى العالم، وعلى الرغم من معارضة كل من روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال تنظيم حملات (لوبية) موجهة جمعوا توقيعات لـ 122 دولة، وحازت ويليامز جائزة نوبل للسلام لدورها الرائد في إنجاز الأمر. (معيار آخر من معايير القوة بدأت ملامحه ترتسم مع بدايات القرن العشرين).

بهذه التباينات المرتبطة بالأزمان، يقول «ريتشارد روزكرانس»، الأستاذ بجامعة هارفارد كيندي والعضو السابق بمجلس تخطيط السياسات بالخارجية الأميركية:

إن فهمنا لمعنى القوة قد تغيّر مثلما تغير العالم من الدولة الإقليمية إلى الدولة التجارية إلى الدولة بحكم الواقع حيث تكون المعلومات وجميع عناصر الإنتاج إجمالًا لها القدرة الهائلة على الحركة والتأثير.

نختتم الحديث عن معنى القوة إذن من حيث بدأنا، حيث جوزيف ناي يصنّف القوة إلى مادية/ملموسة، يمكن قياسها ومعرفة مدى تأثيرها، وأخرى غير مادية أو معنوية.فالقوة المعنوية بحسب «ناي»، هي تلك التي تجعل الآخرين يرغبون فيما ترغب فيه، ويرون فيك المثل والقدوة، فدولتين مثل تشيلي والصين لم يجبرهما أحد – بداية القرن العشرين – على قبول عرض ألمانيا بإرسال مستشارين عسكريين لكليهما، هما فقط اعتقدا أن الجيش الألماني هو النموذج الذي ينبغي الاحتذاء به والاستفادة منه! وكمثال آخر، فإن تطوير نظام عالمي لحقوق الإنسان جعل الدول مضطرة لصياغة مبررات لأفعالها في اجتماعات سنوية تُقام هناك في جينيف!

محددات القوة

يمكن القول أن لدينا ثلاث محددات رئيسية نستطيع من خلالها تصنيف الدول من حيث القوة وهي (الحجم والقوتين العسكرية والاقتصادية)، نتطرق بعدها لمحددات جوهرية أخرى في معرض حديثنا عن قوة الدولة وثقلها على خريطة العالم السياسية.

1. حجم الدولة وقوتها العسكرية

يُعد عنصر الحجم واحدًا من المحددات الرئيسية/التقليدية في معيار القوة، رغم أن الكثير من المحللين والكُتاب يتناسونه أو على أفضل الأحوال يذكرونه في حواشي كتاباتهم!ويشمل الحجم السكاني كما يشمل الحجم الجغرافي. فالدول الأوروبية الكبرى (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) التي حظيت بمرتبة متقدمة في مؤشر التعداد السكاني مطلع التسعينات تراجعت لمرتبات متأخرة منتصف العِقد، بعد الصين والهند، اللتين شكلتا معًا نسبة 38% من سكان العالم، وكان الاتحاد السوفييتي قبل تفككه يحتل المرتبة الثالثة.

واليوم تحتل الولايات المتحدة مرتبةً متقدمة، وتعتبر الدولة الصناعية الوحيدة التي يستمر تعداد سكانها في التزايد بمعدل متوسط، وتمثل الهجرة بالنسبة لها نصف النمو السكاني. فالزيادة في المساحة تخلف ورائها حدودًا شاسعةً تحتاج للحماية، وهو ما يوفره التعداد السكاني الكبير. فالقوة تستلزم المزيد القوة للحفاظ عليها.

2. الاقتصاد: العامل الأكثر مرونة

المؤشر المرن، المعتمد بالأساس على السياسات التي تطبقها الأنظمة في مختلف الدول، فتجد مثلًا؛ دولًا مدمرة اقتصاديًا من جراء حروب هُزمت فيها أمثال اليابان وألمانيا، تنهض وتستعيد عافيتها وتقفز لمرتبة متقدمة، متفوقةً حتى على بعض الدول التي هزمتها في الحرب، كالاتحاد السوفييتي/روسيا الاتحادية المتراجعة اقتصاديًا في الآونة الأخيرة من جرّاء العقوبات وانخفاض أسعار النفط.

3. الجغرافيا تحكم

الدبلوماسي الفرنسي «جوليس كامبون» يعتبر الجغرافيا لأي دولة بمثابة العامل الأسياسي في تحديد سياساتها وتطلعاتها، وتشكل لبعض البلدان مصدر قوة عن غيرهم. تركيا على سبيل المثال، كونها الواصلة بين الشرق (الروسي)، والغرب (الأوروبي)، جعلها مهمة لتجارة الطرفين وأضفى عليها قيمة استراتيجية كبيرة، زادت من قوتها.

رأيناها كذلك تتفاوض مع الأوروبيين وبيدها ورقة اللاجئين السوريين (فقط) لأنها البوابة إلى أوروبا، وبيدها أن تفتح حدودها للجوء أو تغلقها. يذهب كامبون إلا أن الجغرافيا ليست مجرد عامل قوة للدول، بل هي المحدد الأهم في سياساتها الخارجية، فالدول تغير قاداتها ونظمها السياسية لكنها وبأي حال لا يمكنها الهروب من واقعها الجغرافي. وعليه يستطيع صانعوا السياسة والمحللون بسهولة إيجاد تفسيرات ملاءمة لبنية جيوش دول كبريطانيا العظمى واليابان المعتمدة على الأساطيل البحرية، فالجغرافيا هي التي فرضت عليهم ذلك.

4. مبادرات الطبيعة

واحدة من العوامل المهمة، والتي تجلت آثارها منذ القِدم، فالدولة التي حبتها الطبيعة بثروات طبيعية وافرة، مكنتها من زيادة حصتها من القوة بين جيرانها، فالبترول على سبيل المثال شكل عامل قوة لكثير من الدول، جعلها متقدمة في مقياس القوة على غيرها من الدول. الشيء المميز لهذا المحدد، أنه أبدًا لا يتمتع بالاستقلالية ولا يمكنه منفردًا إضفاء القوة على بلدٍ ما، دون ما سبق ذكره من العوامل، بل أحيانًا ما يكون مجلبةً للطمع من الدول الأقوى أو سببًا في الانقسامات الداخلية كما هو الحال في نيجيريا، على سبيل المثال.

5. الشخصية الاعتبارية

واحدة من العوامل التي يكثر الحديث بشأنها رغم أنه لليوم لم يُتح تفسير واضح بشأنها كمحدد للقوة، وهي العادات الثقافية والتاريخية للشعب. غير أن الدول الأكثر تجانسًا من ناحية العرق كاليابان تبدو أكثر صلابة من غيرها كالولايات المتحدة الأمريكية.

المراجع
  1. قراءة لأهم ما أورده الكاتب الأمريكي في الشئون الخارجية، روبرت باستور، في كتابه «رحلة قرن: كيف شكلت القوى العظمي بنية النظام الدولي الجديد»، والذي ترجمه للعربية السيد «هاشم أحمد محمد» ونشره المركز القومي للترجمة عام 2010م.