عادت الأضواء إلى السماء مجددًا، سريعةً هذه المرة، حيث لم تمضِ سوى سويعات قليلة على اختفاء آخر خيوط الضوء، لكنها عادت هذه المرة بفعل نيران المدافع وصواريخ الطائرات.

فتحولت سماء غزة إلى كتلة من اللهب، وبدلاً أن من يُهلل المعتدي صاحب هذه الغارات ابتهاجًا بنصره، كانت جنود الاحتلال ترتجف على الحدود، وكأنّ كل قذيفة تسقط على القطاع إنما تسقط على قلوبهم، فتنزع الثبات وتلقي الرعب، فالمقاومة لا زالت حية.

وفي المقابل، لم يبك الرُضّع، ولم ترتجف الأطفال، فقد أدركوا أبعاد المعادلة، شهدوا جبن العدو وضعفه، وأيقنوا ببسالتهم وقوتهم، فعلموا أن النصر حليفهم لا محالة.


في البدء كانت سديروت

بعد ظهر الأحد 21 أغسطس/آب 2016، سقط صاروخ – قادمًا من قطاع غزة – وانفجر داخل أراضي مستوطنة سديروت الحدودية دون أن يتسبب في وقوع إصابات أو أضرار.

وقع الصاروخ في شارع «هنيحاليم» بالقرب من محطة القطار وكلية «سابير» في سديروت، بحسب الشرطة، وتم استدعاء خبراء متفجرات للمكان للتعامل مع الصاروخ، حيث طُلب من المستوطنين الابتعاد عن المنطقة للسماح لخبراء تفكيك القنابل في الشرطة بالحفاظ على السلامة الكاملة في الموقع.

ذكر الإعلام الإسرائيلي أن إطلاق الصواريخ من غزة عادة ما تقوم به جماعات متطرفة صغيرة من دون موافقة حركة حماس.

وذكرت المصادر أن الصاروخ الفلسطيني قد خرج من بلدة بيت حانون الفلسطينية، ولم يُسفر عن وقوع أي إصابات إسرائيلية.

ويُذكر أن آخر صاروخ سقط على المستوطنة كان في الأول من يوليو/تموز 2016، ولم يُسفر أيضًا عن وقوع أي إصابات.

ورغم عدم وجود إعلان رسمي عن هوية الجماعة المسئولة عن إطلاق الصاروخ، يُرجّح أن من قام بذلك هي جماعة متطرفة تابعة لتنظيم داعش في غزة، دون علم حركة حماس أو التنسيق معها.

وقد ذكر موقع «تايمز أوف إسرائيل» أن: «إطلاق الصواريخ من غزة هو أمر نادر، وعادة ما تقوم به جماعات متطرفة صغيرة من دون موافقة حركة حماس التي تسيطر على القطاع، ولكن إسرائيل تعتبر أن حماس مسئولة عن أي هجوم صادر عن غزة».


غزة تحت القصف

جاء الرد الإسرائيلي سريعًا على صاروخ سديروت، ففي ظهر الأحد 21 أغسطس/آب 2016 شنت طائرات الاحتلال الحربية والمدفعية المتمركزة على الحدود عشرات الغارات صوب أهداف متفرقة شمال قطاع غزة.

وتجددت الضربات والغارات في العاشرة مساء اليوم ذاته، حيث ذكرت وكالة شهاب للأنباء أن طائرات حربية من نوع إف 16 قصفت عدة أهداف للمقاومة الفلسطينية في بيت حانون وبيت لاهيا شمال القطاع؛ مما خلّف أضرارًا مادية.

حيث أطلق الطيران الحربي الإسرائيلي في طليعة غارته المسائية 4 صواريخ على أراضٍ زراعية وأنفاق للمقاومة في بلدة بيت حانون، ثم قصفت بطاريات المدفعية المتمركزة في موقع إيرز العسكري بـ 10 قذائف أراض زراعية، وفي وقت لاحق قصف الطيران بصاروخ واحد عين نفق في البلدة.

وفي ذات الوقت شهدت بلدة بيت لاهيا قصفًا جويًا عنيفًا، حيث استهدف الطيران الحربي بأكثر من 30 غارة جوية نقاط رصد ومواقع وأنفاق للمقاومة الفلسطينية؛ ما تسبب بأضرار في المكان.

وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية إصابة 4 مواطنين بجراح طفيفة في مجمل الاستهدافات سابقة الذكر.


رسائل ليبرمان

وصف المحللون الفلسطينيون أن القصف المدفعي والغارات الإسرائيلية التي شهدتها غزة أمس، 21 أغسطس/آب 2016، كانت الأعنف منذ العدوان الإسرائيلي على غزة في يوليو/تموز 2014.

ووصف موقع «المصدر» الإسرائيلي هذه الغارات بأنها خرجت عن المألوف، فيما يتعلق بالتعامل مع إطلاق الصواريخ من قطاع غزة نحو المستوطنات، حيث جاء الرد الإسرائيلي هذه المرة غير مطابق للمرات السابقة حين كان سلاح الجو الإسرائيلي يردّ على نحو فوري ومحصور.

وعلى ذلك، يمكن القول إن الهجوم الإسرائيلي على غزة على هذا النحو الشرس وغير المسبوق، منذ عامين يكشف عن عدة دلالات وحزمة من الرسائل أراد وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد أفيجدور ليبرمان الكشف عنها:

1. أراد ليبرمان التأكيد على أنه لا يشابه غيره في التعامل مع الحركة، فعقيدته هي إلحاق ضربات قاسية ضد حركة حماس، ورغم أنه امتنع عن تصعيد لهجته فور دخوله المنصب منذ أشهر قليلة، إلا أنه لم يتخلّ عن إيمانه بأنه يجب على إسرائيل القضاء على حكم حركة حماس في غزة.

2. رغم تيقن إسرائيل أن حماس ليست المسئولة عن إطلاق صاروخ سديروت، إلا أن القصف الشديد، هو رسالة من ليبرمان لحماس، أنها مسئولة بشكل تام عن سلوك القطاع، وأن أي هجوم مستقبلي على المستوطنات الإسرائيلية، سواء من قبل الحركة أو غيرها، قد يكون بداية النهاية لها.

3. حاول ليبرمان إفساد فرحة الفلسطينيين وزهوهم بقوة المقاومة، عقب المهرجان والعرض العسكري الذي قامت به حركة حماس في رفح، جنوب قطاع غزة، في الذكرى الثانية لاغتيال ثلاثة من قادة كتائب القسام في غارة إسرائيلية خلال حرب صيف 2014.

4. حاول ليبرمان إثبات أنه رجل المهام الصعبة، وأنه قادر على تحمل مسئولية المنصب الذي تولاه، عكس الانتقادات واسعة النطاق التي تلقاها عقب توليه حقيبة الدفاع، حيث شككت المعارضة الإسرائيلية في خبرة ليبرمان العسكرية وقدرته على إدارة المشهد العسكري المُعقد على أكثر من جبهة. ينطبق الأمر ذاته على الضربات الإسرائيلية التي استهدفت جنوب سوريا، على حدود الجولان، بعد عدة زيارات قام بها مسئولون عسكريون إيرانيون، وبعد مناوشات سورية إسرائيلية هناك.


هل تشهد غزة حربًا رابعة؟

حاول ليبرمان إثبات أنه رجل المهام الصعبة، وأنه قادر على تحمل مسئولية المنصب الذي تولاه، عكس انتقادات المعارضة الإسرائيلية له.

ما زال قطاع غزة يعاني اقتصاديًا وإنسانيًا جراء الآثار المدمرة لحرب عام 2014، كما أن المقاومة تحاول إعادة بناء ترسانتها العسكرية مرة أخرى وتدريب كوادرها؛ حتى تستطيع المضي قدمًا في مسيرة التقدم النوعي التي بدأتها من عدة سنوات، وقد أتت أُكلها في الحرب الأخيرة.

وبالتالي لا يرغب سكان القطاع ولا المقاومة الفلسطينية في خوض حربٍ جديدة تقضي على الماء واليابس في غزة، وتُعطي إسرائيل ذريعة لتقويض إنجازات المقاومة العسكرية خلال العامين الماضيين، وهو ما لا يعني أن غزة غير مستعدة لمواجهة العدو الإسرائيلي في حربٍ جديدة، ولكن التوقيت في غير صالحها.

رغب ليبرمان في إظهار شخصية قوية وحاسمة تجاه المقاومة، دون خوض مغامرة عسكرية جديدة غير مضمونة العواقب.

الأمر الذي جعل رد فعل حماس – إلى الآن – محدودًا في مواجهة الغارات الإسرائيلية أمس.

أمّا ليبرمان، ورغم شدة الضربات التي وجهّها لقطاع غزة، وعدد الرسائل التي حملتها تلك الضربات، إلا أنه لا يرغب هو الآخر في خوض حرب جديدة ضد القطاع.

فهو يرغب في إظهار شخصية قوية وحاسمة تجاه المقاومة دون خوض مغامرة عسكرية جديدة غير مضمونة العواقب، فقد يكون ليبرمان الخاسر الأكبر جراء هذه الحرب؛ لعدة أسباب:

  1. قد تثبت هذه الحرب ضعف الخبرة العسكرية لليبرمان.
  2. قد تستنفر هذه الحرب قوة المقاومة الفلسطينية في القدس والضفة، وتعيد إنعاش الانتفاضة من جديد؛ مما يجرّ عواقب وخيمة على الداخل الإسرائيلي.
  3. نتيجةً لما سبق، قد يُضطر ليبرمان إلى استخدام القوة الباطشة – بشكلٍ غير مسبوق – ضد القطاع؛ مما قد يضع إسرائيل في حرج سياسي ودبلوماسي دولي، في الوقت الذي تحاول فيه استغلال تقاربها مع مصر، وإنجاز تسوية تخدم مصالحها.

ودليل أن ليبرمان لا يرغب في تصعيد الأمر، هو أن الغارات والمدفعية الإسرائيلية استهدفت أراضٍ زراعية، ومناطق مفتوحة غير مأهولة بالسكان؛ مما جعل الإصابات البشرية الفلسطينية محدودة.