عادة ما يتم النظر إلى يهود مصر على أنهم طائفة واحدة متحدة القلب والهدف، دون اعتبار لانقساماتهم المذهبية والعرقية التي تحكمت بشكل كبير في مواقفهم من مختلف القضايا. ترسخت هذه النظرة أكثر بعد تهجير اليهود المصريين قسرًا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ويمكن اعتبارها نتيجة من نتائج حالة العداء القومي تجاه «إسرائيل» بشكل خاص واليهود بشكل عام.

ستحاول السطور التالية تمحيص هذا الادعاء، والنظر بصورة أكثر دقة إلى فسيفساء الجالية اليهودية في مصر قبل اندثارها، اعتمادًا على كتابي «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات» للدكتور محمد أبو الغار، و«شتات اليهود المصريين» للمؤرخ الأميركي جوئل بنين.


ربانيون وقراءون

انقسم اليهود المصريون بحسب الانتماء المذهبي إلى طائفتين:

1. اليهود الربانيون:

انتمى إلى هذه الطائفة أغلبية اليهود الموجودين في مصر، ويؤمن أتباعها بالأسفار الـ39 من التوراة بالإضافة إلى التلمود الذي يشرح أبحاث أحبار اليهود في شؤون العقيدة والقانون والتاريخ الديني، كما يؤمنون بالبعث للصالحين منهم، وبالمسيح المخلص الذي سيأتي آخر الزمان لينقذ الناس ويدخلهم في ديانة النبي موسى.

كانت طائفة الربانيين هي الأغنى في مصر بسبب انتماء معظم أثرياء اليهود إليها، لذا فإن معظم المعابد الكبيرة الفخمة كانت تابعة لها، وأغلب العلاقات الاقتصادية والصناعية والسياسية كانت تتركز بيد أبنائها.

2. اليهود القراءون:

طائفة صغيرة انتمى إليها أقل من 10% من يهود مصر. هناك اختلافات عقائدية جوهرية بينهم وبين الربانيين لأنهم يؤمنون بالتوراة فقط ولا يؤمنون بالتلمود كمصدر من مصادر الديانة والتعاليم اليهودية -يُشبّهون بالمسلمين القرءانيين الذين لا يتخذون الحديث كمصدر تشريعي.

وتختلف طقوس القرائين كثيرًا عن الربانيين، مثل اختلاف طرق الذبح، وطقوس الحياة يوم السبت، كما أن لديهم تقويمًا يهوديًا مختلفًا. وكانت العلاقات بين الطائفتين متوترة، حيث يرى بعض حاخامات الربانيين أن ديانة القرائين هرطقة وأنهم مارقون على اليهودية، أما القراءون فكانوا يمنعون الزواج من الربانيين.

كان اليهود القرائين أكثر اندماجًا في المجتمع من الربانيين لعدة اعتبارات أولها طول إقامتهم في مصر، إذ ترجع إحدى الروايات وجودهم في مصر إلى عهد عمرو بن العاص الذي منحهم قطعة أرض لتكون مقبرة للطائفة وأعفى المنتسبين إليها من الجزية، حسبما ذكر جوئل بنين في كتابه «شتات اليهود المصريين».

والاعتبار الثاني هو سكن أغلب القرائين في حارة اليهود وسط القاهرة، واحتكاكهم بمختلف طبقات المجتمع بحكم عملهم كصُياغ وتجار ذهب، وكذلك ارتداؤهم ملابس عوام المصريين وتحدثهم باللغة العربية، يقول بنين عن القرائين: «لم يكن من الممكن تمييز حياتهم عن حياة جيرانهم المسلمين».


سفارديم وأشكيناز

انقسم يهود مصر عرقيًا إلى طائفتين هما:

1. اليهود السفارديم:

وهم اليهود الشرقيون الذين قطنوا بلاد الشرق- ومن ضمنها مصر- لقرون طويلة، وينقسم هؤلاء بدورهم إلى قسمين آخرين؛ أولهما اليهود المصريو الأصل الذين عاشوا في مصر لأجيال متعددة وتكلموا بلغتها وشربوا عاداتها ونالهم من الأذى ما نال المصريين.

ويدخل في هذه الفئة أغلب اليهود القرائين وبعض الربانيين ويشكلون نحو 10 آلاف/ 15% من جملة الجالية اليهودية في مصر، حسبما ذكرت المؤرخة الألمانية «جودرن كرامر» في كتابها «اليهود المصريون». وعمل أغلبهم عمالًا وحرفيين وكانوا من الفقراء الذين لا يختلفون في شيء عن عامة الشعب المصري؛ لا في الشكل ولا المظهر، ولم تكن لغتهم تحمل أي لكنة أو لهجة مختلفة.

والقسم الثاني من السفارديم هم اليهود الشرقيون ذوو الأصل الأسباني الذين طردوا في نهاية القرن الـ15 من أسبانيا وارتحلوا في جنبات الدولة العثمانية قبل أن يستقر بهم المقام في مصر، وكذلك اليهود الذين قدموا إلى مصر من دمشق وإستانبول وحلب والقدس في النصف الثاني من القرن 19 بسبب ازدهار الاقتصاد المصري.

وسرعان ما تولى المنتسبون إلى هذه الفئة قيادة الطائفة في مصر؛ لكونهم أكثر علمًا وثقافة وخبرة بالتجارة وعلاقات دولية ومعرفة باللغات الأجنبية حيث كان جزء كبير منهم يتحدث بالفرنسية.

2. اليهود الأشكيناز:

هم اليهود الفقراء الذين هاجروا من روسيا وبولندا إلى مصر في أواخر القرنين 17 و19 وأثناء الحرب العالمية الأولى وفترة ما بين الحربين. ومثل هؤلاء 8% فقط من يهود مصر، حيث كان عددهم نحو 5 آلاف نسمة في أعلى تعداد لليهود المصريين، حسبما ذكر محمد أبو الغار في كتابه «يهود مصر من الازدها إلى الشتات». وكان أغلبهم يسكنون في درب البرابرة ويعملون في مصانع السجائر والحرف البسيطة، وكانت اللغة التي يتحدثون بها «الييديش» وهي لغة يهودية قديمة كان يهود شرق أوروبا يتحدثونها حتى خمسينيات القرن 20.


كيف أثر اختلاف طوائف وأعراق اليهود على موقفهم من القضايا الكبرى؟

سرعان ما تولى السفارديم قيادة الطائفة في مصر؛ لكونهم أكثر علمًا وثقافة وخبرة بالتجارة وعلاقات دولية ومعرفة باللغات الأجنبية.

لعل أبرز قضيتين محوريتين يهمنا معرفة آراء مختلف طوائف وأعراق يهود مصر فيهما هما قضيتا الهوية والانتماء والموقف من الحركة الصهيونية وإسرائيل، وفي هذا يمكننا القول:

-كان موقف اليهود القرائين والمصريين الأصليين من الربانيين من هاتين القضيتين واضحًا وبسيطًا؛ هويتنا مصرية ونرفض الحركة الصهيونية وإسرائيل. كما ذكرنا أعلاه فإن أصول طائفة القرائين تعود إلى عهد عمرو بن العاص وأنهم لا يتميزون عن باقي المصريين في الشكل أو الهيئة أو اللغة واللهجة، وكانت هذه عوامل حاسمة في شعورهم بمصريتهم.

كما كانوا يشاركون في الأعياد والمناسبات الرسمية فيهنئون «الشعب المصري» بعيد الأضحى، ويسير حاخامهم الأكبر توفيا ليفي بابوفيتش في جنازة شيخ الأزهر محمد المراغي، بل وتنتقد جريدة الطائفة «الكليم» بابوفيتش لتقصيره في زيارة شيخ الأزهر الجديد مصطفى عبد الرازق وتحية الملك فاروق عند عودته من الإسكندرية إلى القاهرة، حيث رأت أن ما فعله الحاخام يعزل الطائفة عن محيطها المجتمعي.

يقول بنين:

لقد كانت الطائفة القرائية ذات صبغة ثقافية مصرية عربية عميقة، على حين ظلت يهودية حتى النخاع حسب رؤيتها الخاصة لذاتها. وهذه الرؤية تشمل حبًا ذا أساس ديني لصهيون -أرض إسرائيل
، لكن لم يكن هناك أي ارتباط منظم بالصهيونية السياسية.
لم يكن لاتحاد الشباب الصهيوني بالقاهرة أية روابط مع القرائين، ولم يهاجر إلى إسرائيل من القرائين، بين عامي 1948 و1956، سوى عدة مئات من الشباب مخالفين نصيحة الحاخام الأكبر بابوفيتش، وظل أغلب القرائين في مصر حتى الستينيات.

– موقف اليهود الربانيين الأشكيناز كان بسيطًا هو الآخر؛ نحن لسنا مصريين ولا نشارك أهلها عاداتهم ولا نتحدث اللغة العربية بل ولا نرغب في تعلمها حتى، ومقامنا في مصر مؤقت إلى حين قيام «إسرائيل». وكان الأشكيناز يشكلون العماد الأساسي للاتحاد الصهيوني المصري منذ نشأته، كما كانوا من أوائل المهاجرين إلى إسرائيل نظرًا للوضعية الممتازة التي حظي بها أبناء عرقهم هناك وتسيّدهم على باقي الأعراق اليهودية.

-موقف اليهود الربانيين المنتمين إلى السفارديم الجدد، الذين استقروا بمصر في النصف الثاني من القرن 19 ومطلع القرن 20، كان موقفًا مركبًا ومعقدًا بعض الشيء، فالطبقة الفقيرة منهم كانت أقرب إلى عوام المصريين في الملبس والمأكل، وكانوا يستخدمون اللغة العربية ويتكلمون باللهجة المصرية وبالتالي يمكن القول إن هويتهم مصرية.

أما الطبقتان المتوسطة والثرية فكان أكثرهم يحملون جنسيات أجنبية ويتحدثون بالفرنسية ويعلمون أبناءهم في مدارس أجنبية خاصة، وكانوا يحبون مصر لأنها المنجم الذي أثروا منه، مع وجود استثناءات بالطبع كانت ترى أن مصر وطنهم.

وكان موقف الربانيين المنتمين إلى السفارديم الجدد من الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل معقدًا كذلك، فمن ناحية تحمس بعض شباب الطائفة، خاصة أبناء الطبقة الوسطى، إلى الحركة الصهيونية ودعموها بالمال والوقت، وتولى جاك موصيري- نجل عائلة موصيري ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي الكبير- رئاسة الاتحاد الصهيوني المصري الذي أُسس في العام 1917.

ومن ناحية أخرى، رأى أغلب الربانيين من أبناء الطبقة البرجوازية- مصدر تمويل وواجهة الطائفة- في الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل خطرًا داهمًا على وضعهم الاقتصادي والاجتماعي المميز في مصر، وخشو إن هم انتقلوا إلى إسرائيل أن يكونوا في مرتبة أدنى في ظل تنامي نفوذ الأشكيناز هناك وتسيدهم على باقي الأعراق، كما يقول أبو الغار.

المراجع
  1. يهود مصر من الازدهار إلى الشتات – محمد أبو الغار
  2. شتات اليهود المصريين – جوئل بنين