لا يتذكرها الكثيرون، أو يتناسونها عمدًا لفرط ما جرى فيها من تجاوزات لخطوط حمراء وعنف غير منطقي، إنها حرب المخيمات، أحد فصول كتاب الكفاح الفلسطيني المسلح، وبالتحديد هي أحد سطور الحرب الأهلية اللبنانية.


الجذور

لم يعترف الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد يومًا بشعار «القرار الفلسطيني المستقل»، الذي اضطرت قيادة منظمة التحرير والثورة الفلسطينية لرفعه في لبنان في وجه قيادات عربية سعت طويلًا للإمساك بالورقة الفلسطينية ككارت إستراتيجي في لعبة توازنات القوى الإقليمية والتفاوض مع إسرائيل والغرب.

وكان النظام السوري بقيادة الأسد صاحب الهجمة الأشرس والأعنف على قيادة منظمة التحرير في حقبة لبنان الممتدة على طول سنوات عقد السبعينيات والثلث الأول من عقد الثمانينيات.

لم يكن غريبًا إذًا أن يتزامن دخول القوات السورية إلى لبنان في يونيو/تموز 1976، مع هجوم الميليشيات اليمينية المارونية اللبنانية بقيادة حزب الكتائب وبشير الجميل بالتعاون مع الجيش اللبناني على مخيمات تل الزعتر وجسر الباشا وضبية للاجئين الفلسطينيين في بيروت الشرقية بعد حصار طويل باركه النظام في دمشق.

ومع بداية ظهور نية قيادة منظمة التحرير بعد خروجها من لبنان في 1982 للتعاطي مع فكرة التفاوض مع إسرائيل، واتجاهها لترميم علاقاتها مع أنظمة عربية تجنح للسلام مع الأخيرة –وبالتحديد الأردن ومصر- دعم النظام السوري انشقاقًا كبيرًا عن حركة فتح، حيث شكّل المنشقون تنظيم «فتح-الانتفاضة»، الذي تعاون مع فصائل فلسطينية أخرى سورية الولاء مثل «الجبهة الشعبية-القيادة العامة» و«طلائع حرب التحرير الشعبية» (الصاعقة) في صدام عسكري مع القوات الموالية لياسر عرفات رئيس منظمة التحرير في طرابلس في 1983.


تقاطع مصالح قاتل

بعد خروج القوام الأساسي لقوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وتشتتها في أقطار عربية عدة، جرت محاولات كثيرة لتصفية بقايا الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان تحت شعارين، فكانت ميليشيات اليمين اللبناني ترفع شعار عدم العودة لأوضاع ما قبل 1982، حيث كان الوجود العسكري الفلسطيني الكثيف والمتحالف مع الحركة الوطنية اللبنانية اليسارية يزعج التركيبة المارونية اليمينية الحاكمة في لبنان.

وفي الوقت ذاته كانت دمشق والأطراف الفلسطينية المتحالفة معها في إطار جبهة الرفض (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقوات الصاعقة، والجبهة الشعبية-القيادة العامة، وجبهة النضال الشعبي) ترفع شعار رفض الحلول الاستسلامية التفاوضية، التي بدأت قيادة منظمة التحرير تجنح لها بعد قبول المجلس الوطني الفلسطيني في 1983 (مبادرة السلام العربية المطروحة في قمة فاس 1982).

أفرز اتحاد هذين الشعارين شعارًا ثالثًا التقت حوله مصالح دمشق وحلفائها مع مصالح الأطراف اللبنانية الرافضة للوجود الفلسطيني، وهو شعار منع التمدد (العرفاتي) خارج المخيمات، وهو المبرر الذي جرى تسويقه في منتصف الثمانينيات لتبرير حصار وقصف مخيمات فلسطينية عدة في لبنان، وتجويع وذبح الأهالي فيها، تارة بتهمة العرفاتية وأخرى بادعاء كون سكان المخيمات جميعهم من المقاتلين الفلسطينيين.


دور أمل

في هذا الإطار، كانت أفواج المقاومة اللبنانية (حركة أمل) الذراع العسكرية لحركة المحرومين تعبر عن تمرد أبناء الطائفة الشيعية في لبنان على التهميش الذي تعرضوا له طويلًا، وقد وجدت فرصة سانحة لملء الفراغ الذي خلفه الخروج الفلسطيني، وخلق معادلة جديدة تمثل فيها الطائفة الشيعية –أكبر طوائف لبنان عددًا – رقمًا يُحسب له حساب، بعدما شعرت بالثقة وبثقل وزنها مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران.

ووجد النظام السوري بقيادة حافظ الأسد فرصة جديدة لتحقيق مطلب قديم، هو السيطرة على القرار الفلسطيني وإحكام القبضة على الورقة الفلسطينية، لتصبح واحدة من أوراق لعبه داخل سوريا وفي تفاوضه مع الغرب وإسرائيل، ولتصفية نفوذ ياسر عرفات -الغريم اللدود للأسد- في لبنان الذي تراه سوريا باحة خلفية.

هكذا تحالف النظام السوري مع حركة أمل بزعامة نبيه بري، كما لعب اللواء السادس المنشق عن الجيش اللبناني والذي شُيّعت تركيبته دورًا كبيرًا في الحرب ضد المخيمات الفلسطينية في بيروت وجنوب لبنان.

كانت البداية المبكرة للحرب بعد الخروج الفلسطيني من لبنان أواخر 1982 بمناوشات خفيفة بين قوات أمل من جهة، وقوات منظمة التحرير المكلفة بحراسة المخيمات بالتعاون مع الشباب المسلح في المخيمات من جهة أخرى، لكن بعد توقيع اتفاق عمّان بين عرفات والعاهل الأردني الملك حسين في فبراير 1985، والذي مهد الطريق لقيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة ترتبط كونفيدراليًا بالمملكة الأردنية، تصاعدت سخونة حرب المخيمات إلى درجة الغليان.

بدأت قوات أمل واللواء السادس اللبناني مدعومين من الجيش السوري في حصار وتجويع المخيمات الفلسطينية في بيروت – خاصة مخيما شاتيلا والداعوق – والجنوب في صيدا وصور، وقصفها بالمدفعية، وقنص سكانها، ومحاولة اقتحامها، وهو ما فشلت فيه لاستبسال قوات المنظمة وشباب المخيمات في الدفاع، لذا كان القصف يتم بعنف مبالغ فيه.


ذرائع تستر مطامع

كان النظام السوري بقيادة الأسد صاحب الهجمة الأشرس على قيادة منظمة التحرير في حقبة لبنان الممتدة على طول سنوات عقد السبعينيات والثلث الأول من عقد الثمانينيات.

لبنانيًا كانت حركة أمل تروج لدورها في حرب المخيمات تحت شعار منع التمدد الفلسطيني خارج المخيمات، وسوريًا كان نظام الأسد يروج لدوره في الحرب تحت شعار إنقاذ القضية الفلسطينية من قيادة منظمة التحرير، التي راحت تبحث عن ثقب إبرة للتواجد بالقرب من الجغرافيا الفلسطينية مجددًا، وهو ما تجلى في اتفاق عمّان، الذي بالرغم من تملص عرفات منه وإعلان الأردن إلغاءه بعد عام واحد – في فبراير/شباط 1986 – فإن أمل استمرت في حصار وقصف المخيمات.

خلال الحرب على المخيمات الفلسطينية في لبنان، ارتكبت أطراف التحالف السوري المناوئ لعرفات فظائع لا تقل في هولها عن مجزرة صابرا وشاتيلا أو مذابح الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.

أما الأطراف اللبنانية التي اختارت الاصطفاف مع منظمة التحرير والدفاع عن المخيمات فكانت الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، والحزب الشيوعي اللبناني بزعامة جورج حاوي، وحركة الناصريين المستقلين (المرابطون) بزعامة إبراهيم قليلات، وكذلك التنظيم الشعبي الناصري في صيدا بزعامة مصطفى سعد.

وبالرغم من أن هذه الفصائل اللبنانية لم تقاتل صراحة إلى جانب قوات منظمة التحرير، ولم تشارك بقوات في الدفاع عن المخيمات، فإنها قاومت ضغوطًا وعقوبات سورية شديدة تحملتها ثمنًا لموقفها الرافض للانخراط في محور سوريا–أمل والمشاركة في مذابح المخيمات، أما الطرف اللبناني الذي شارك في القتال صراحة إلى جانب شباب المخيمات فكان حزب الله المنشق عن حركة أمل.

في كتابه (مغدوشة: قصة الحرب على المخيمات في لبنان)، يروي ممدوح نوفل، القائد العسكري للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والقائد العسكري العام لقوات الثورة الفلسطينية في لبنان في فترة حرب المخيمات، كيف تعرضت قيادات الفصائل الفلسطينية المتواجدة في دمشق لضغوط شديدة من جانب النظام السوري كي تعلن تأييدها لاجتثاث النفوذ العرفاتي في لبنان.

ويخلص نوفل إلى أن نقطة التحول في حرب المخيمات كانت عند انكسار قوة أمل العسكرية في معركة مغدوشة أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1986، حيث احتلت قوة مشتركة من فتح والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بلدة مغدوشة قرب صيدا وطردت منها قوات أمل، التي كانت قد بدأت تفقد شعبيتها في أوساط الطائفة الشيعية بسبب الفظائع التي ارتكبتها ضد الأهالي الفلسطينيين في المخيمات، وتزامن ذلك مع صعود نجم حزب الله كقوة شيعية بديلة لم تتلوث بما شاب سمعة أمل.

وكانت القوى المناوئة لمنظمة التحرير قد شعرت بالحرج لطول فترة الحرب وصمود المخيمات من جهة، والاستمرار فيها بالتزامن مع اندلاع الانتفاضة الأولى داخل الأراضي المحتلة من جهة أخرى،فأعلن نبيه بري في أوائل عام 1988 وقف الحرب على المخيمات الفلسطينية كهدية للانتفاضة.

خلال الحرب على المخيمات الفلسطينية في لبنان، ارتكبت أطراف التحالف السوري المناوئ لعرفات فظائع لا تقل في هولها عن مجزرة صابرا وشاتيلا أو مذابح الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، وكان مخيم شاتيلا بالذات شاهدًا على فظاعة هذه الحرب، إذ تسببت في مجاعة مخيفة داخل المخيم اضطر أهله بسببها لأكل القطط والكلاب، ودفنت جثث ضحايا الجوع والقصف بالجملة في مقبرة مسجد المخيم.

المراجع
  1. عبد الله أحمد محمود، "إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية: إشكالية الهيكلية والبرنامج"، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير من جامعة النجاح الوطنية، نابلس، فلسطين، 2007.
  2. ممدوح نوفل، "مغدوشة: قصة الحرب على المخيمات في لبنان"، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، رام الله، فلسطين، 2006.