في روايته الجديدة «صوت الغراب» يواصل الروائي «عادل عصمت» مشروعه السردي الذي بدأه منذ سنوات بروايات مثل «حياة مستقرة» و«حكايات يوسف تادرس» وغيرها، في رسم عوالم شخصياته الباحثة عن الحياة والتحرر والتحقق، والتي تسعى بكل ما أوتيت من معرفة إلى الخلاص من قيود الحياة ومشاكلها الراهنة، فإذا كان بطل «حياة مستقرة» يسعى للم شتات أسرته وعائلته وفوضى حياته «بالحكاية» ومن خلال الإخلاص «للحكي» في حد ذاته كطقسٍ وطريقة في فهم ما يدور حوله، وكان سعي «يوسف تادرس» لأن يجد خلاصه بعد كل ما مر به من أزماتٍ في حياته «بالفن»، فإننا في «صوت الغراب» إزاء بطلٍ آخر ومعاناةٍ إنسانية مختلفة يسعى بطلها للخلاص من خلال فكرة الطيران!

تبدو الفكرة «فانتازية» بالأساس، ولكنها جذّابة في الوقت نفسه، لاسيما أن «عادل عصمت» يضعها أمام القارئ منذ بداية الرواية هكذا بكل بساطة، ويعبّر عنها بطله داخل الرواية التي يستخدم فيها «تيار الوعي» ليحمل أفكار البطل وهمومه ومشكلاته ورؤيته للعالم بشكل سلس ومباشر، ويهيئ القارئ تدريجيًا لقبول هذه الفكرة بل والاقتناع التام بها، ثمّة شخصية روائية تراقب العالم كله من بُعد في البداية لا تلبث أن يتغيّر مظهرها الخارجي الذي يلاحظه الناس، ثم تستطيل أظافره ويشعر بالريش قد نبت في جناحيه، وبدأ يحدث صوتًا خاصًا ومميزًا هو «نعيق الغراب».

«الغراب» وليس غيره من الطيور، بكل الموروث الثقافي والديني الذي نحمله له، وبكل ما تشير إليه تفاصيل الرواية من حكايات، الغراب ذلك الطائر الوحيد الذي جعله الله معلمًا للإنسان يعلمه «كيف يواري سوأة أخيه» حيث تحتفي الرواية بالعلاقات بين «الأخوة» بشكل خاص، وحيث يحفل موروثنا الشعبي من جهةٍ أخرى بكل ما يجعل «الغراب» بلونه الأسود وصوته الزاعق مثيرًا للضجر والتشاؤم، ولكنه يأتي هنا مسالمًا، ويأتي صوته كمحاولة أخيرة للتحرر بل ومعادلاً لحالة من الصمت وضياع قدرة البطل عن التعبير بالنطق والكلام.

يرسم «عادل عصمت» في الرواية الخطوط العريضة للبطل الإشكالي المغترب الذي عاش حياته كلها في سعيٍ حثيث نحو عالم لا يفهمه فيه أحد:

سنوات طويلة من معاصرتي لطريقتهم في التفكير تجعلني على يقينٍ من أنهم لن يتمكنوا من حل المشكلة، ولن يعرفوا ما في قلبي، لن يعرف أحدٌ تلك الفكرة التي تشكلت عبر زمنٍ طويل حتى وصلت إلى ذروتها في تلك الظهيرة، لم يكن الأمر كما ظنوا، لم يكن أوان الطيران قد جاء، ربما كانت فكرة الطيران تفكّر في جسدي ربما اقتربت من يقظتها وحاولت أن تتجسد، لقد حدث هذا في غفلة مني، كنت أفكّر في الثقل، وكيف أنه عائق أمام الطيران، وأتابع الحركة غير المنتظمة للحشرات، وأفكر أنها كلما خفت أصبحت قادرة على الطيران لكنها محكومة بخفتها… سوف أكبر رغمًا عنهم حتى لو حبسوني كما فعلوا الآن، لن يمنعني أحد من أن أقف على سياج الشرفة وأطير.. وسوف يجيء اليوم الذي أحرك فيه أجنحتي الثقيلة السوداء وأحلق..

ومع ذلك كله فالرواية لا تتمحور فحسب حول ذلك الفرد في مواجهة المجتمع، وإنما وعلى عادة «عادل عصمت» في رواياته السابقة، يتمكن من عكس صورة كاملة لتلك العائلة التي نشأ وتربى فيها ذلك الفرد/البطل، ويحيط بأفراد العائلة من خلال أجيالٍ ثلاثة على اختلاف أزمانهم والأحداث السياسية التي مروا بها، لنكتشف أن هناك جذورًا لذلك الاختلاف والتمرد لدى رجال تلك العائلة ونسائها على السواء، منذ جيل الجد الأكبر «مندور البري» الذي عاصر ثورة 1919 وكان اختفاؤه مثارًا لتأليف الحكايات والأساطير حوله، ثم جد البطل «بدوي» الذي أغرم في آخر حياته بالفتيات الصغيرات، ثم جاءت حادثة وفاة عمته «سعاد» بعد اتهامها بالحب حدثًا فارقًا في تلك العائلة!

بعد إحاطته بما يمكن أن نطلق عليه «أخبار العائلة» بشكل سريعٍ وموجز، يركز الكاتب على الشخصية/البطل، ذلك الذي يبدو بطلاً إشكاليًا بامتياز، تقوده المصادفة إلى عالم «الدراجة» ويشعر لأول مرة بالخفة والحركة ويحلم بالطيران، ثم تقوده الحياة إلى العزلة، وتقوده العزلة إلى التفكير في الناس والحياة، ويجد نفسه شغوفًا بشكل كبير بالتلصص على حياة الناس وأجسادهم، لا كممارسة عابرة، ولكن للمزيد من التأمل ومتعة الاستكشاف:

من الصعب الإفلات من الفتنة بالبعيد والخفي والسري، ربما هي شهوةٌ ولدت بها، إحدى سماتي مثل بصماتي وملامحي، ميلٌ لا يمكن تفسيره بحوادث حياتي، فلم أكن قد تجاوزت الخامسة عشرة، إنها الهبات الخاصة بكل كائن تُلقى في قلبه صدفة، شهواتٌ خاصة جدًا، لا يمكن فهمها تقودني، وكل ما فعلته أنني سمحت لها أن تتواجد، وعشت أفكاري على نحوٍ سري، منتبهًا لما فيها من خيال، حتى وصلت إلى اللحظة التي بدأ فيها الحنين إلى الطيران.

السرد عند «عادل عصمت» مكثّف وذكي، لو صح أن نصف سردًا بالذكاء، ذلك أنه يستطيع أن يُلم بشخصيات روايته مهما كثر عددهم بشكلٍ متقن ودون أن يُفلت القارئ من التركيز معه في أدق التفاصيل، فمن يظن أنه استطاع أن يلم بعائلة كاملة منذ ستينيات القرن الماضي مع أطيافٍ من الماضي، حتى وصل بنا إلى العصر الحالي كل ذلك في أقل من مائتي صفحة، كما يبدو حرص الكاتب على رسم المشاهد المعبّرة بالغًا، فلن ينسى القارئ المشهد المصوّر بعناية وكـأنما بلقطات التقطيع السينمائية الذي يهجم فيه البطل على أخيه الأكبر «حسن» حينما يعارض سفر أخته للتعليم في القاهرة، أو المشهد الآخر، الذي يكتشف فيه البطل أن حبيبته «ابتسام» أجهضت نفسها؛ لكي لا يفتضح أمرها معه، كل ذلك من خلال كلمات قصيرة ودون حشوٍ أو إسهاب، أو غيره من المشاهد التي تأتي محكمة ويبقى أثرها.

شخصيات الرواية مرسومة بإحكام، وإن كان التركيز على عرضها من وجهة نظر البطل/ الراوي الذي يبدو يلملم ما يعرفه من حكايات تلك الشخصيات ويستعيدها بشكلٍ موجز وبسيط في الوقت المناسب، وفي الوقت نفسه يفسح المجال لبعض الشخصيات لكي تعبّر عن نفسها بشكل أكبر، كما يفعل السارد مع أخت البطل «مريم» بحيلة بسيطة وهي «المذكرات» التي تركتها في غرفتها بعد السفر، ليكشف عن عالم خاص لشخصية بدا أنها تحتل مركزًا تاليًا لبطل الرواية ومؤثر في السرد وإن لم يكن بنفس القدر، يمكننا أن نعد بعض الشخصيات في الرواية كعلامات على التمرد ومحاولة التحقق منها ما يخبو ويخفق تمامًا (مثل العمة سعاد) ومنها ما ينجح ويفلت بالفعل (مثل مريم في هذه الحالة)، ومنها نمط آخر يكون سعيه الأكبر في محاولته الجادة للتغلب على ما يحيط به وتمسكه بالبقاء في نفس المكان، إنه الحالم بالطيران، بطل الرواية.

بالإضافة إلى رسم الشخصيات هناك رسمٌ دقيق لعوالم أخرى، يمكن اعتبارها «استكشاف الحواس»، فالبطل يكتشف الطيران بعد مغامرة بالدراجة، ثم تقوده مصادفة أخرى «للمنظار» فيستكشف متعة جديدة في النظر والتعرف على العوالم الخفية المستترة، حتى يقع بين يديه كتاب «الروض العاطر»، فيستكشف متعة أخرى في قراءة كتب الجنس العربية، تلك التي لم تكن بعيدة عن عالم «العطارة» الذي نشأ وتربى فيه، بل وعمل فيه أيضًا فترة من الزمن، وعرف علاقة الأعشاب بالأجساد، حتى تكونت فلسفته الخاصة التي عبَّر عنها بوضوح، «هذه الحياة لا تقيّد الجسد كما تدعي بل تحتفي به حتى لو كانت تحيطه بالملابس والعطور وتحفزه بالأعشاب».

ويدخل مع القراءة فيما بعد عالم الصور الفوتوغرافية، ثم شرائط الفيديو بشكلٍ متدرج وبسيط، واكتشاف العوالم التي لا تجيزها الرقابةـ، والتي ظلت هاجسه طوال الوقت، العوالم الخفيّة السريّة، غير المصرح بها، رغم أنها تصوَّر في بعض الأفلام، وهكذا نلمح درجات تطور المعرفة والخبرات التي يكتسبها بطل الرواية ممن حوله، وكيف تتغيَّر نظرته وتختلف عن رفاقه في نفس السن، إذ ينفر بعد فترة من مشاهدة تلك الأفلام، بعد أن انقضت متعة الاستكشاف، لينتقل إلى مرحلةٍ أخرى في البحث والتأمل، وهو ما يجعله في النهاية تلك الشخصية الاستثنائية الباحثة عن طريقة أخرى غير تقليدية للحرية.

اكتشفت أنني كنت أريد طوال الوقت أن أكون مصورًا، أحمل الكاميرا وألتقط اللحظات السريّة للناس، أخبرتها بأنني سأفتح ستوديو هو الأول من نوعه في المدينة لتصوير البنات، لن أصورهن عارياتٍ في البداية، سوف أبدأ بتصوير وجوههن، قلت بفخر أنا الوحيد في هذه المدينة الذي يمكنه أن يعرِّف كل بنت على جمالها الخاص، يمكنني أن أحاور الملامح حتى تبوح بوجهها الحقيقي.. يمكنني أن أضع يد كل فتاة على سرها على روحها الحقيقية.

من الإيغال في تأمل الجسد يأتي التعرّف على الروح، ومن التعرف على الروح تأتي محاولات التحرر من قيد الجسد والناس والحياة غير المجدية كلها، ربما لا تبدو رحلة بطل «صوت الغراب» في ظاهرها تلك الرحلة الفلسفية شديدة التعقيد التي نعرفها في روايات «نجيب محفوظ» «كالسراب» و«الطريق» مثلاً، إذ لا يبدو البطل موغلاً في التأملات مبتعدًا عن ممارسة الحياة، ولكنها في الوقت نفسه لا تقل عنهم في مجال بحث البطل وسعيه، وإن كانت تمر بظروف ومواقف اعتيادية تمامًا، ولكن ذلك الرصد وذلك التركيز على بعض تفاصيل الحياة دون غيرها يمنحها ذلك البعد الآخر، ويمنحها في الوقت نفسه قيمة المعرفة والتحقق.

تجدر الإشارة إلى أن «صوت الغراب» هي الرواية السادسة «لعادل عصمت» وتشكل لبنة مهمة في مشواره الإبداعي، ولاشك أنها إضافة مهمة في الأدب المصري خاصة والعربي بصفةٍ عامة،لرجلٍ يعيش في بلدته «طنطا» جاعلاً منها محور رواياته مما يمنحها خصوصية وطابعًا مميزًا، حصل «عادل عصمت» على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 2011، وفازت روايته «حكايات يوسف تادرس» بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة في العام الماضي 2016، ولاقت حفاوةً وإقبالاً نقديًا وجماهيريًا كبيرًا.