يُثير هذا المقال الذي كُتب قبل أكثر من مائة عام، وبالتحديد في العام 1913م دهشة القارئ؛ ذلك أنه يكشف زيف الغرب تجاهنا، ويُعرّي حقيقته حين يفضح صراعه على المصالح، ويكشف أن الهوية والدين أساس الاختلاف معنا، إن هذا الوعي المبكر بالصراع مع الغرب، وبحقيقة أوروبا، إنما يتمثّل في كونه رؤية عربية عثمانية الهوى والانتماء، فهذا المقال كُتب في أيام العثمانيين الأخيرة، وهو للمفارقة كُتب في الشام، هذه البلاد التي تنهش فيها اليوم أنياب الغرب ومصالحه، وهو بهذا الحال يعطي لنا درسًا أن الوعي لم يغب عن هذه الأمة أبدًا، وحتى وهي في أشد مراحل ضعفها وترنحها قبل سقوط الدولة العثمانية بأيدي هذا الغرب المتصنع لقيم الحرية والعدل!


دموع التماسيح!

لم يبقَ ريبٌ بِنِيَّات دول أوروبا نحو دولة الخلافة بل نحو سائر الدول الإسلامية. فقد برح الخفاء وظهر الصبح لذي عينين، واتضح أن ما يتشدّق به أعاظم رجال الحكومات الأوروبية مِن محبة العدل، وكراهية الظلم، والعطف على المظلوم، والأخذ بيده؛ ليس في الحقيقة إلا من الدعاوى التي لا يُستطاع التصديق بها ما دُمنا نرى كل يوم بُرهانًا جديدًا يَنقض هذه الدعاوى الباطلة. وإلا إذا كانوا على ما يزعمون من المبادئ الفاضلة، وحب الإنسانية لذاتها، أو النفور من الجور والتعدي، فلماذا تشب هذه الحروب، وتُضرم هذه النيران، وتذهب أرواح بني الإنسان ضحية الطمع والهمجية وهم ساكنون؟!

تشب هذه الحرب الهائلة، وتذهب تلك الأنفس البريئة وفي إمكان أصحاب هذه المزاعم الموهومة منعها أو عدم حدوثها، وهم لا يفعلون ثم لا يخجلون من ادعائهم أنهم رُسل المدنية، ومحبو الإنسانية، ورافعو أعلام العدل، ومثال الأخلاق الفاضلة، والكمال المجسم، إلى آخر ما يتبجحون به، ويُوافقهم عليه زُمرة من ضعاف الأحلام، وعشاق الأوهام.

فمن اكتفوا ببهرج المدنية الظاهرة عن الوصول إلى الحقائق الواضحة، والبينات الراجحة، وما عهد الحرب الطرابلسية ببعيد؛ فقد اتفقت كلمةُ العقلاء على استهجان احتلال الطّليان لطرابلس بدون سبب ما يوجب ذلك؛ إلا حب الاستعمار، وتوسيع الممالك، وقام بعض أرباب العقول المستنيرة من الغربيين يُقبِّحون هذا العمل الممقوت، ويحضّون حكوماتهم على مساعدة العثمانيين، فأبت تلك الحكومات أن تسمع نداء الحق حتى انتهت هذه الكارثة على ما لا يرضى به محبو العدل والإنسانية.


دليل ثانٍ على ادعاء الضمير!

يقول مثيرو الحرب البلقانية أنها حرب دينية وأنهم يريدون أن يثأروا للصليب من الهلال، ثم بعد كل هذا يوجد فينا من يُنصّب نفسه حكَمًا فيرى أنها غير دينية

وإن أردتَ دليلًا ثانيًا على بطلان ادعائهم حب العدل والإنسانية، فها هي الحرب البلقانية التي شبَّت نارها، وحمي وطيسها، ولم تتحرَّك همة دولة من الدول العظمى لمنع حدوثها مع إمكان ذلك، وأعظم منه وأغرب أن دولتنا العلية العثمانية على أثر الانكسارات التي حصلت أثناء هذه الحرب المشئومة طلبت من الدول العظمى التداخل في الأمر، وتوقيف الحرب، فلم يَرُقْ في أعينهم حسم مادة البغي والظلم وحقن الدماء، فأجابوا بأن تكون المخابرة مع الدول المحاربة رأسًا، ولو كان الأمر على العكس، وكان هذا الطلب من دول البلقان المتحالفة على أثر انكسار أصابهم، أو فشل لَحقَ بهم لكان الجواب بالإيجاب، ولحرمونا مِن ثمرات انتصارنا، كما فعلوا في الحرب العثمانية اليونانية؛ فإنه بعد انكسار اليونان واستيلائنا على كثير مِن أملاكها، توسَّطَت أوروبا بطلب اليونان، وكانت النتيجة حرماننا مِن ثمرات انتصارنا، وتركنا أملاكها التي أخذناها بدماء رجالنا.

كلُّ هذا مِن الأمور المقررة التي لا يرتابُ في صحّتها كل من يريد أن يفهم الحقيقة، ومع ذلك يُقال عن منتقد ذلك بأنه متعصب. ويقول مثيرو الحرب البلقانية أنها حرب دينية وأنهم يريدون أن يثأروا للصليب من الهلال ولا يقال عنهم متعصبون، ثم بعد كل هذا وبعد تصريح دول البلقان، بأن هذه الحرب دينية، يوجد فينا من يُنصّب نفسه حكَمًا بذلك فيرى أنها غير دينية!


تفسير مجلة المقتطف للصراع الأوروبي

سأل سائلٌ أصحاب مجلة المقتطف الغراء: ما هي سياسة دول أوروبا الآن في المملكة العثمانية وإيران فأجاب بما نصه:

إن المحور الذي تدورُ عليه سياسة الدول الأوروبية هو مصالح شعوبها المالية؛ لأن الذين يديرون دفة السياسة هم رجال المال، ولو لم يكونوا متربعين في المناصب الحكومية، وتختلف أساليبهم في الوصول إلى هذا الغرض باختلاف بلدانهم ومستعمراتهم وقربهم وبعدهم؛ فإنكلترا كثيرة المستعمرات فلا يهمها أن تزيد مستعمراتها اتساعًا ليهاجر من يريد من شعبها إليها، ولذلك لا تطمع بامتلاك بلاد جديدة إلا إذا كانت صلة بين مستعمراتها، ولكنها تهتم أشد الاهتمام بحماية البلدان التي تُروّج متاجرها فيها، وتبذلُ جهدها في صدِّ مَن يريد امتلاكها إذا خافت أن يمنع ربحها منها، ولذلك كان شأنها الدفاع عن الممالك العثمانية ومملكة إيران، وحاربت الروس من أجل ذلك.

وأما الدول التي تطلبُ امتلاك المستعمرات لسُكنى من يريد من شعبها كألمانيا، أو التي تطلب أن يكون لها مواني بحرية لمتاجرها وبوارجها كروسيا وبُلغاريا، أو التي لرعاياها أموال كثيرة في بلاد وتخشى على أموالهم إذا اختلَّ الأمن فيها فتهتمّ بامتلاك البلدان؛ ترويجًا لمصالح شعبها، وحفظًا لأموالهم، وإذا تعذَّرَ عليها امتلاكها اهتمَّت بامتلاك مرفأ فيها، وبمراقبة ماليتها، ولا يخفى أن تضاربَ مصالح الدول ينوّعُ مطالبها، ويقال بالإجمال أنها تطلبُ أكثر ما يكون من الربح بأقل ما يكون من الخسارة، وقد زعم البعض أن الدول الأوروبية تريدُ بالدولة العلية (العثمانية) ودولة إيران شرًا؛ لأنها مسيحية وهما إسلاميتان. ولا أبعدَ عن الحقيقة مِن هذا الزعم؛ لأن محور حركات الدول الأوروبية الماليون، وأكثرهم من الإسرائيليين لا من المسيحيين، ولأن أكبر الدول الأوروبية المسيحية نصرَت الدولة العلية على روسيا وقت حرب القرم بالمال والرجال كما لا يخفى، ووطأتها بعضها على بعض أشد من وطأتها على الدول الإسلامية؛ فقد اجتاحَت مملكة بولونيا المسيحية واقتسمتَها، وحاربت ألمانيا فرنسا حربًا لم يشهد التاريخ مثلها، وامتلكت جانبًا منها وحاربت النِّمسا قبل ذلك وهي صديقتها الآن، وأثارت فرنسا الحرب على كل دول أوروبا المسيحية في عهد بونابرت ولو حالفته تركيا لاكتفى بمحالفتها، وأثارت إنكلترا الحرب على جمهورية الترنسافل المسيحية (في جنوب أفريقيا) وامتلكتها، وعضَّدت اليابان الوثنية في حربها مع روسيا المسيحية.

وقد تدّعي الدول أحيانًا أن الدافع لها إلى الحرب أمرٌ ديني كما ادَّعت روسيا وقت حرب القرم، وكما ادَّعت دول البلقان الآن، ولكن هذه الدعوة لا تثبت على نار الامتحان؛ فإذا اختلفت دول البلقان غدًا على ثغر احتلّته، أخذ بعضها بخناق بعض، وقد تُحالِف إحداها تركيا على محاربة حليفتها اليوم، ومِن المحتمل أن الدِّين اليوم كان من جملة الدوافع للحروب الصليبية الأولى، ولكنه لم يكن الدافع الوحيد ولا الدافع الأقوى، وإذا قلنا أن المصالح المادية هي المحور الوحيد الذي تدور عليه سياسات الدول لا تخطئ.


تحليل غير مكتمل!

يرى أصحاب مجلة المقتطف أنه مِن المحتمل أن الدِّين اليوم كان من جملة الدوافع للحروب الصليبية الأولى، ولكنه لم يكن الدافع الوحيد ولا الدافع الأقوى

فأنتَ ترى أنه استبعدَ جدًا أن تكون أوروبا متعصِّبة على المسلمين، والتمسَ لهم عذرًا فيما يصدُرُ عنهم مما يدلُّ على ذلك بأن إنكلترا كثيرة الأملاك لا تطمعُ في امتلاك بلادٍ جديدة إلا إذا كانت صلة بين مستعمراتها، وأن بعضها يطلبُ أن تكون لها مواني بحرية لمتاجرها، وبعض الدول يهتمّ بامتلاك البلاد التي تكون مديونة لرعاياها، محافظة على أموالهم إلى غير ذلك مِن الأعذار، فإذا كان يُوجد فينا مَن يقيم لهم الأعذار على تعدياتهم ومظالمهم، فليس ببعيد على مَن يريد اغتصاب بلاد غيره، وأعدَّ لذلك عُدَّته مِن القوة أن يعتذر بمثل ذلك، وإذا كان وجود أملاك دولة صلة بين أملاك دولة ثانية مُبيحًا للثانية امتلاك الأولى، سَهُلَ على كل دولة قوية أن تبتلعَ أملاك مجاوريها بهذه الحجة.

وأننا مع احترامنا لأصحاب «المقتطف» وتقديرنا معارفهم حقها، نستغربُ كيف يجعلون محاربة المسيحيين بعضهم بعضًا دليلًا على عدم التعصب على المسلمين؛ لأنه ليس مَن يدعي أنه لا تقع حرب ما إلا ويكون منشؤها الاختلاف في الدين، إنما المدعي أنه إذا نشبت الحرب بين دولتين مختلفتين في الدين يكون أقوى البواعث عن شبوبها اختلاف الدين، واعتماد أحد الخصمين على دولة أو دول أخرى من أهل مذهبه، يساعدونه وينصرونه سواء على الحق أو على الباطل، وأن الدولة العثمانية ما مُنيت بحرب مع أخصامها إلا وكان منشؤه ما ذكر والتاريخ أعدل وأحكم.


*نُشر المقال في مجلة الحقائق الدمشقية، العدد 24، بتاريخ 9 يناير (كانون الثاني) 1913م.