تبدو القراءة للروائية الإنجليزية ذائعة الصيت «فرجينيا وولف» مثيرة للعديد من الأسئلة والنقاشات وطارحة لكثير من الرؤى والأفكار، ليس فيما يتعلق بالكتابة النسوية فحسب ـ كما هو شائع عنها ـ ولكن في كل ما يتعلق بالثقافة والأدب والمعرفة ودورها في الحياة والمجتمع، ما يريد منها المرء وكيف يتم التعامل معها؟

ولئن تم التعامل مع «فرجينيا وولف» طوال العقود الماضية باعتبارها واحدة من مؤسسي الكتابة النسوية والداعين لها بقوة، فإن المطلع على كتابات «وولف» سواء الروائية أو التنظيرية ليلحظ بدقة كيف كانت مهمومة بالإبداع بشكله العام، حتى وإن شغلها موقفها كامرأة في المقام الأول، وكتبت ودافعت بكل قوة عما يمكن تسميته بحق المرأة في الكتابة ودورها المهم في الإبداع، بل واجب المجتمع في توفير المناخ الملائم لذلك.

وإذا بدأنا بكتابها «غرفة تخص المرء وحده»، الذي يعده الكثيرون بمثابة «مانفيستو الكتابة النسوية»، والذي كان مبحثها الرئيس فيه هو غياب إبداع النساء في العصور السابقة «القرن السادس عشر» لاسيما عصر شكسبير وما قبله، حيث تلاحظ وجود «النساء» كشخصيات في الأعمال الأدبية مؤثرة وفاعلة، ولكن لا وجود حقيقيا لها في كتب التاريخ، ولا نجد أي كتابات بأسمائهن، وتذهب إلى أكثر من ذلك حينما تضع مثالا تخيليًا لموقف المرأة في ذلك المجتمع حينما افترضت وجود «أخت لشكسبير» تمتلك نفس موهبته، وتسعى جاهدة لكي تكتب المسرح، وكيف سيتعامل الناس معها آنذاك.

وجدتني أتساءل هل يقول المرء عن إحدى تلك الوظائف إنها أرفع قيمة أو أكثر ضرورة، هل من الأفضل أن يكون المرء جالبًا للفحم أم مربية أطفال؟! وهل الخادمة التي ربت ثمانية أطفالٍ أقل قيمة وفائدة للعالم من المحامي الذي كسب مائة ألف جنيه؟ إن طرح مثل تلك الأسئلة لا جدوى منه، فهي أسئلة لا يقدر على إجابتها أحد، فالقيمة التناسبية بين الخادمة والمحامي ترتفع وتنخفض من حقبة لحقبة… فحتى لو كان في مقدورنا أن نقيّم موهبة ما في اللحظة الراهنة حق قيمتها فإن تلك القيمة لن تثبت وسوف تتبدل.

وعلى الرغم مما يظهر لنا بوضوح من هذه الفقرة في حديثها عن «المرأة» في مقابل «الرجل» فإننا يمكن أن نلمس ببساطةٍ أيضًا أنها تتحدث عن «المبدع» بشكلٍ عام في مقابل الرجل الذي يستطيع أن يربح أموالاً كثيرة من وظيفته، ويبدو ذلك أكثر حينما تتحدث «وولف» عن نظرة المجتمع وحاجته.

إلا أنه أيًا كان الأمر فإن وولف تذهب في نهاية دراستها إلى أن النساء وحتى القرن التاسع عشر لم يُشجعن على أن يصبحن فنانات، بل على العكس كان يستهان بهن، ويحرضن على ترك الانشغال بالفنون بصفة عامة، وتنتهي في كتابها ذلك أنه إذا أرادت المرأة أن تكتب الأدب فيجب أن تكون لها غرفة تخصها وحدها وبعض المال، ولا أظن أن ذلك المطلب الإنساني البسيط يقتصر على المرأة وحدها، بل هو ـ بلا شك ـ حلم كل مبدع!

أدبيًا برعت «فرجينيا وولف» في استخدام تقنية «تيار الوعي» في الكتابة، وهو تداعي الأفكار والخواطر كما تأتي عفويًا على العقل وكتابتها بشكلٍ مباشر، وربما شاعت تلك الكتابة بعدها في العديد من الروايات، ولكن الملاحظ أنها تستخدمها حتى في كتابتها النظرية، وهو ما نجده في «القارئ العادي» الذي ترجمته «عقيلة رمضان» ونشر في القاهرة 1971، وكذلك «غرفة تخص المرء وحده» الآنف الذكر.

وفي رواياتها لعبت «وولف» على المزج بين تصويرها للمجتمع وانتقادها لدوره في عدم إعطاء المرأة حقها، وبين كتابة أطرافٍ من سيرتها الذاتية وحياتها الخاصة التي نجد فيها ذلك الأثر أيضا، ذلك أن كثيرًا من النقاد والقراء اعتبروا رواية «إلى الفنار» سيرة ذاتية أدبية لطفولة «فرجينيا وولف» وحياتها المعذبة بين والدها ووالدتها، وفيها يبدو بوضوح موقف «فرجينيا» من الرجل والمرأة، حيث ترى المرأة (ممثلة في والدتها والسيدة رمزي) معطاءة تمنح نفسها الآخرين، سواء المقربون منها أو المجتمع بصفة عامة، ولا يبقى لها من نفسها شيء، بل ترى أن ذلك واجبه، بينما يظهر الرجل بكل أنانية حريصًا على نفسه في المقام الأول، لا يهتم بالآخرين ولا يلقي لهم بالاً إلا في حدود انتفاعه بهم!

وتعد رواية «الأمواج» من أهم رواياتها وأعقدها على السواء ـ كما يصفها الكثير من النقاد ذلك بأنها تتبّع فيها سيرة حياة أبطالها الستة من خلال استخدام تقنية تيار الوعي «المونولوج الداخلي» بين الشخصيات، كما أنها من جهة أخرى تعد رواية «أصوات» لأن كل شخصية فيها تتحدث عن نفسها، وربما هذا كله ما جعل هذه الرواية تعد من درر الأدب الإنجليزي الحديث.

أما كتابها «رواية لم تُكتب بعد» التي ترجمتها «فاطمة ناعوت» (والتي صدرت بعنوان الاثنين والثلاثاء في ترجمة أخرى) فيعرض طرفًا آخر من طريقة كتابة «وولف»، إذ نجدها تتعرض لفكرة كتابة الرواية نفسها، شارحةً عملية الكتابة، وكيفية خلق الحبكة والقصة وتفاصيل الشخصيات، يجد القارئ لهذه الرواية ارتباكًا واضحًا في السرد، ولكنه ارتباك مقصود لأنه تفاعل بين الوعي واللاوعي أثناء الكتابة وطريقة اختيار المفردات والكلمات لبناء عالم الرواية.

ولعل قارئ «وولف» ستقابله في البداية عثرات عديدة أثناء قراءته إذا لم يكن مدركًا وملمًا بهذه التقنيات التي تعمد إليها الكاتبة بحرص شديد، والتي يحرص المترجمون في كل رواية على أن يشيروا إليها لبيان طريقة السرد وأسلوبه كما تتخذه «فرجينيا» في رواياتها، ولكن المدرك لتقنيات الكتابة لا شك سيستمتع بهذه الأعمال بدرجة كبيرة، وربما يفاجأ لكونها رائدة حقيقية في الكثير من الأساليب السردية التي غدت شائعة هذه الأيام، في ترجمتها لمجموعة «أثر على الحائط» تذكر الشاعرة «فاطمة ناعوت» سبب افتتانها بكتابة «وولف» وحرصها على ترجمتها فتقول:

تأتي متعة قراءة وولف من «رياضة» العقل وجَهده في لملمة شذراتِ النصِّ المنثورة عبر السطور وفيما بينها. تضعُني قراءُة وولف على ذات المتعة التي كنت أخبُرُها أثناء حلّ مسائل الرياضيات ومعادلات التفاضل والتكامل المعقدة، أو متعة إثبات إحدى نظريات الهندسة الفراغية، حيث المعطيات قليلةٌ والمجاهيلُ كثيرةٌ. متعة إجهاد الذهن، التي ربما يشعرُ بها الرياضيُّ بعد تمرين بدنيّ شاق، يمرّن عضلاته فيه ويروضها، أو متعة راقصةِ الباليه التي تنفق يومَها في التدريب على أداء حركةٍ شديدةِ الصعوبة،والخطر، لكي تخلق لوحة بصرية فاتنة تسرُّ مَن رأى. أما الكلامُ عن براعة وولف الشعرية والشاعرية، وهي ترسم لوحاتٍ تشكيلية شديدَة العذوبة والتعبير بالكلمات أكثر منها تكتب سردًا أو قصة، فلا ينتهي.

بقيت آثار «فرجينيا وولف» وقصة حياتها معينًا لا ينضب، وربما مثّلت حادثة انتحارها المأساوية حدثًا فارقًا توقّف الكثيرون عنده لرصده وتأمله، وربما لفت انتباه الكثيرين ممن كانوا لا يعرفونها، خاصة بعد تلك الرسالة التي تركتها لزوجها وكان فيها:

لا أعتقد أن شخصين من الممكن أن يكونا أكثر سعادة حتى جاء هذا المرض الرهيب. لا أستطيع أن أقاوم المزيد. وأنا أعلم أنني أفسد حياتك، وأنك دون وجودي يمكنك أن تعمل. وسوف تعرف. ترى أنني لا أستطيع حتى كتابة هذه بشكل صحيح. لا أستطيع القراءة. ما أريد قوله هو أنني مدينة لك بكل السعادة في حياتي. وقد كنت معي صبورا تماما وجيدا وبشكل لا يصدق. أود أن أقول ذلك
والجميع يعرفه. إذا كان من الممكن أن ينقذني أحد فسيكون أنت. كل شيء ذهب مني إلا اليقين بالخير الذي فيك. لا أستطيع أن أزيد إفساد حياتك بعد الآن. لا أعتقد أن شخصين من الممكن أن يكونا أكثر سعادة مما كنا نحن.

جمعت «فاطمة ناعوت» أطراف سيرة «فرجينيا وولف» الذاتية، وتجربتها في الكتابة الأدبية ورواياتها مع حوارٍ افتراضي متخيّل معها في كتابٍ أخذت اسمه من حادثة انتحارها الشهيرة تلك، فأسمته «جيوب مثقلة بالحجارة ».

وهكذا بقي عالم «فرجينيا وولف» مثيرًا للكتابة أيضًا، حيث نجد الكاتبة المصرية «أريج جمال» تتماهى مع عالم فرجينيا وولف وكتابتها وتستحضرها في قصةٍ لها بعنوان (موت فرجينيا) في مجموعتها القصصية الصادرة مؤخرًا (كنائس لا تسقط في الحرب):

هي كانت تَلعنُ الشوارعَ أصلًا، متى ساءت الأمور بالضبط، ساءت حين أصبحتْ تفكر لفتراتٍ أطولَ أثناءَ الليل، أفلَتها النومُ وترَكَها للأسئلةِ الكُبرى حول ما وراء الأفق، تسمعُ سيمفونيةَ موتسارت الأربعين تنتظرُ الإجابةَ مع نهايتِها، فلا تَحدث، وتستمر الموسيقى في التكرر، بينما تتمثل هي صورةَ صاحِبِ الشَّعرِ المشعث والثوبِ المنهمر، وتندمُ لأنها على الأقل لم تُرافِقه إلى المعرض، احتجبتْ حتى عن الألوان، كان هذا إلى جانب أوركسترا موتسارت يعني ضربًا مُرتفعَ الصوتِ جدًا في الجدار. لم يحتمِل الأبُ، ولا احتملت الجَدّة، نهضا مِن النوم، ينتويانِ تكسيرَ الجدارِ هذه المرةَ تمامًا، مِن دونِ أن تُفكر البنتُ صارت رأسُها مضروبةً في الجدار بعدد مراتٍ لا يمكن إحصاؤها، وفي مرةٍ واحدةٍ انفجَرت الرأسُ تمامًا وتشظّت الأسئلةُ والأفكار، وأصبحت البنتُ شَبَحًا على الجدار،لا وجود حقيقيا لها.

ولدت فرجينيا وولف في لندن عام 1882 وتوفيت في 28 مارس 1941، حيث انتحرت بعد أن ملأت جيوب معطفها بالحجارة وألقت نفسها في نهر «أوس» القريب من منزلها، عاشت حياةً قاسية، حيث توفيت أمها في طفولتها وتوفي والدها مصابًا بالسرطان عام 1904.

تلقت فرجينيا تعليمها في منزلها مع أختها، وأصيبت بالانهيار العصبي، ولكنها وجدت مخرجًا في الكتابة التي بدأتها بالمقالات وصدرت لها كتب «غرفة تخص المرء وحده» و«القارئ العادي»، كما تركت عددًا من الأعمال الأدبية، تنوعت بين الروايات والمجموعات القصصية المهمة، ترجم أكثرها للعربية، نذكر منها «إلى الفنار» التي صدرت مؤخرًا في ترجمة «إيزابيل كمال» عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وروايتها الشهيرة «السيدة دالاوي» ورواية «الأمواج» التي اعتبرها النقّاد تجربة فريدة في الكتابة الأدبية، ومجموعات «أثر على الحائط» و«يوم الاثنين أو الثلاثاء» و«جيوب مثقلة بالحجارة » من ترجمة فاطمة ناعوت وإصدار المركز القومي للترجمة.