هذه قراءة جديدة لرواية قديمة، رواية لم تتحدث عن العصر الحالي، ولم تتناول أحداثها «ثورة» أو حتى «انقلابًا» بمفاهيمنا السياسية المعاصرة، وإنما لجأت إلى حدثٍ تاريخيٍ لا خلاف فيه، لكي تؤكد عددًا من الأفكار وترسّخ عددًا من المفاهيم الخطيرة التي يتم تداولها بين المجتمعات، متحضرها وبدويها، سواء في ذلك من كان منهم عالمًا وخبيرًا ومن كان منهم جاهلاً غريرًا.

يعود «محمد كامل حسين» في روايته «قرية ظالمة» إلى يومٍ واحد من التاريخ، ولكنه يوم «مشهود»، وهو ذلك اليوم الذي قرر فيه بنو إسرائيل -بإجماع الآراء- قتل نبي الله «عيسى» عليه السلام وصلبه، بعد أن جمعوا له «أدلة الاتهام» وساقوا كل الحجج القوية التي تجعله «مجرمًا» يجب أن يُقتل لحماية «المجتمع» منه ومن خطره وما يدعو إليه، هكذا بين عشيةٍ وضحاها يتحوّل نبي الله الذي يدعو للمحبة والعدل والمساواة بين الناس «مجرمًا» يجب أن يُحارب ويُقتل لكي يتخلص الناس من شروره!.


القرارات الحاسمة لا تبدو كذلك!

منذ البداية يبدو الأمر «محسومًا»، لاسيما بين أروقة السلطة وصانعي القرار، ولكن أحداثًا ومواقف بسيطة وعابرة يسلط عليها «محمد كامل حسين» الضوء داخل تلك الأروقة، توضّح بجلاء أن الأمر ليس على ما يبدو عليه، فها هو «رجل الاتهام» (ممثل وكيل النيابة في عصرنا الحالي) تستوقفه زوجته بحوارها البسيط لتجعله يستعيد التفكير في ذلك القرار الذي بدا له «لا يأتيه الباطل من بين يده»، لم يكن القرار سهلاً أبدًا، لا على المستوى الخاص (بين رجال السلطة) ولا على المستوى العام بين عامة الناس، وها هو التاجر الحداد يسعى جاهدًا لأن يبرر للعامل الذي يصنع الحديد الذي سيصلب عليه «المسيح» أن ما يقومون به لا إثم فيه:

إن أكبر الجرائم إذا وزعت على عدد من الناس أصبح من المستحيل أن يعاقب الله أحدًا من مرتكبيها، فنحن نحاجه بالتوراة، وهو لا يجوز أن يخالف ما جاء في كتابه، وإذا كان الذي يعلم الجريمة لا يصنع أداتها، والذي يصنع أداتها لا يعلم عنها شيئًا فإنها تتم في سهولة، إن هذا التوزيع يجعل الناس في حيرة، أين يقع عذاب الله؟ هكذا ترتكب أكبر الجرائم دون عقاب، ألا ترى أن الله والناس لا يعاقبون أحدًا على ما يُرتكب في الحروب من فظائع يرتعد من هولها كل من يسمع بحديثها؛ ذلك أنها ترتكب باسم الجماعة، ولأن الذنب فيها موزع توزيعًا يجعل العقاب الرادع ظلمًا!.

لم يقتصر الأمر على موقف «بني إسرائيل»، قادتهم وعامتهم، من قرار صلب المسيح فحسب، بل بدا أن أمر «الاختلاف» سمة عامة طالت الجميع في هذه الليلة، فلم يكن السيد «المسيح» وحده في هذه المصيبة التي ستودي بحياته، بل كان من حوله أتباعه المخلصين من «الحواريين» الذين يأتمرون بأمره وينتهون لنهيه، ولكن الخطب جللٌ هذه المرة والمصيبة محدقة بالجميع، فها هو نبي الله يتآمر عليه الناس ليقتلوه، فكيف يكون تصرفهم المثالي؟!، هل يتركون نبي الله يقتل؟.

كان اجتماع «الحواريين» وما دار بينهم في مجلسهم قبيل صلب المسيح، مشهدًا آخر من مشاهد الرواية المؤثرة ومركزًا حاسمًا لإدارة الأفكار وكيف يكون الاختلاف حتى بين أشد الناس حرصًا على الخير والصالح العام:

اجتمع الحواريون ينظرون فيما يجب عليهم عمله بعد أن أجمع «بنو إسرائيل» والرومان أن يصلبوا المسيح، ولم يكن على وجه الأرض أطهر منهم نفسًا أو أعظم خلقًا أو أنبل غرضًا، وكانوا يبحثون كيف يحقون حقًا لا مرية فيه، وكيف يمنعون ظلمًا لا ريب فيه. ولم يكن بهم ضعفٌ في العقيدة ولا في العزيمة، ولا تهيّب لخطر. ولم يستسلموا لشهوةٍ جامحة، أو أثرةٍ تخرج بهم عن جادة الصواب، بل كان يحدوهم حبٌ قويٌ خالص لوجه الله، ومع ذلك طال بهم الجدل واشتد النقاش، وتبادلوا تهمًا يعلمِ الله أنهم منها أبرياء، ولم يعصمهم من أن تدب بينهم البغضاء إلا صفاء نفوسهم وقوة إيمانهم.

اختلف الحواريون فيما بينهم، ففي الوقت الذي رأى فيه فريقٌ منهم أنهم لا يصح ولا يمكن أن يتركوا نبي الله يُقتل بين يدي هؤلاء العصاة، رأى فريقٌ آخر وبقوة حجة أكبر أنهم لا يمكن أن يعصوا أمر نبي الله، ولا أن يلجئوا للعنف والقتال وهو داعية الرحمة والتسامح، واختلف الفريقان كل الاختلاف، وحمل كل فريقٍ منهم حجته القوية بشتى الوسائل، ولكن الأمر انتهى إلى الاستسلام بالأمر الواقع، وليقض الله في أمر نبيه ما كان مفعولاً!. وبعد هذا كله، من حالة التردد والعصف الذهني العام بين أفكار كل فريقٍ وطائفة، يأتي رأيٌ راسخ وشديد الأهمية:


ظرف تاريخي ورواية متفردة

إني أترك سياسة العامة لغيري، فليس أمرهم من شأني، إنما يعنيني ألا يُبنى الخطأ على أمر يُنسب إلي، وإذا كنتم تريدون الحق الثابت فابحثوا عنه في غير هذه الدنيا أو عند غير الإنسان، وأنا لا أريد أن أكذب على العامة فأصبغ لهم رأياً بعينه صبغة الحق الثابت، ولا أريد أن أموه عليهم ولو كان ذلك خيرًا لهم. وإذا كنتم ممن يرون أن الكذب تُسوغه السياسة فاعلموا أن ذلك إنما يرجع إلى ما اختاره رجال السياسة لأنفسهم فهم يختارون أسهل السبل وأقربها إلى بلوغ غاياتهم وأقلها مشقة، وإنك لتراهم يتهافتون على الكذب ويتسابقون إليه حين يكون أسهل السبل إلى غاية يريدونها .. ولو اتبعوا سبيل الصدق لبلغوا هذه الغايات على ما قد يكون في طريقهم من مشقة وصعاب. وإذا كان من رجال الدين من يرى رأي أهل السياسة، فذلك أنهم يضعون السياسة فوق الدين أو يضعون سياسة الدين فوق الدين نفسه، وهذا هو الضلال المبين.

في ظني أن قراءة الرواية من واقع ظرفها التاريخي الخاص، وتخصيص كونها تتحدث عن «بني إسرائيل» على أنهم «اليهود» المعاصرون، فيه كثيرٌ من التحامل على الرواية، ولعل هذا ما أخذه د.صلاح فضل في تقديمه للرواية المنشور في نسخة مكتبة الأسرة عام 1997 على الرواية وكاتبها، إذ رأى أن الدعوى التي تقوم عليها الرواية للسلم ونبذ الحرب لم تكن مناسبة في ظرفها التاريخي الخاص الذي ظهرت فيه، فيذكر أن الرواية المنشورة عام 1954 في وقتٍ كان العرب فيه متحفزين لخوض الحرب ضد الصهاينة من «بني إسرائيل» الذين احتلوا أرض «فلسطين» في ذلك الوقت، ويرى أن دعوته للسلم تتناقض مع ما كان يجيش في صدور الكثيرين حينها من واجب الحرب واسترداد الحق المغتصب.

وأرى من جهة أخرى وبعد مرور كل هذه الأعوام أن الكاتب «محمد كامل حسين» لم يقصد الدعوة للحرب ولا للسلم على الإطلاق، وإنما قصد هدفًا أبعد من ذلك، وهو الهدف الذي يبدو لنا اليوم والأيام التالية حينما نقرأ هذه الرواية، وندرك على نحوٍ واضح كيف يمكن لكل من امتلك قوةً وبيانًا أن يغير الحقائق الراسخة، ويقلب الحق باطلاً، وهو إذ يوضح ذلك ويحكيه على لسان شخصيات روايته، فهو لا يأخذ جانب أحدهما ويترك الآخر. فبنو إسرائيل المقصودون في الرواية ليسوا هم «يهود» اليوم بالتأكيد، ولكنه جعل منهم ومن تلك الحادثة المعروفة التي لا جدال فيها معادلاً موضوعيًا واضحًا لما يرمي إلى أن يوضحه ويبينه للناس في كل زمانٍ ومكان، وهو كذلك ما نعيشه اليوم، ونتجرع مآسيه في ظروفنا الراهنة شديدة السوداوية، من أشخاصٍ وأجهزة إعلامٍ ومؤسسات تزيّن الكذب وتمارس الظلم والتدليس والقمع بدعاوى واهية مخادعة مثل «مواجهة الإرهاب» وغيرها، وهي في إطار ذلك تمارس كل الإرهاب و«البلطجة»، بل وتجد من يقف في صفها ويدافع عنها باستماتة!.

كذلك توضح الرواية بجلاء أن للحقيقة أكثر من وجه، وأنه ليس ثم فكرة واحدة مطلقة لا مراء فيها ولا جدال، بل كل الحقائق التي تبدو لنا راسخة قابلة للجدل ولإعادة التفكير فيها مرة أخرى، وأن المرء لا يجب أن يستسلم لفكرة ما لمجرد شيوعها أو ترديدها على نطاق واسع أو بشكل مؤثر، لاسيما تلك الأفكار التي تتعلق بحياة الناس ومصيرهم، والحكم عليهم.

في النهاية تبقى «قرية ظالمة» مثالاً واضحًا وصارخًا لكل قرية ظالمة، أو مدينة ظالمة، أو مجتمع ظالم على مدار التاريخ، وتبقى كعملٍ أدبيٍ من طراز خاص صالحة لإعادة القراءة والاستكشاف مع مرور الزمن.

كما تجدر الإشارة إلى أن المؤلف «محمد كامل حسين» ينتمي إلى جيل أدباء الخمسينات الذين لم يحظوا بالكثير من الشهرة، هذا بالإضافة إلى عمله كطبيب، بل يعتبر رائد طب العظام في مصر، كتب أيضًا كتاب (الوادي المقدّس) الذي عرض فيه عددًا من الأفكار المتعلقة بالدين والأخلاق والفرق بين أساس كل منهما، كما صدر له أيضًا مجموعة قصصية بعنوان (قومٌ لا يتطهرون).