شهدت بدايات أربعينات القرن الماضي ظهور مصطلح الألتراس في البرازيل، لينتقل بعدها هذا المفهوم إلى أوروبا الشرقية، تحديدًا يوغسلافيا في مطلع الخمسينات، ليؤسس معنًى جديدًا لتشجيع الفريق والولاء له والانتماء لحبه. في الوهلة الأولى، من يدرس هذه الظاهرة، سيصنّفها كونها تجمعًا عاديًا لأناس يحبون كرة القدم، ولهم شغف بفريقهم، لهم أسلوب خاص في التشجيع والتعبير عن هذا الحب. لكن من يدرسها جيدًا أو يكون جزءًا منها في لحظة ما «مثلى»، سيفهم أن هذه الظاهرة أكبر من ملعب كرة القدم، وأكبر من الفريق والمجموعة نفسها، بل هي ظاهرة اجتماعية سياسية تتجلى فيها العبثية الفوضوية مع الحرية الفكرية والممارسة السياسية.

و بما أن «الإنسان كائن سياسي بطبعه» كما قال كاسرر، فإنه لا يمكن تحليل أي فعل للإنسان عموما وخاصة إذا كان فعلًا يلامس الغير بعيدًا عن السياق السياسي بمفهومه الشامل. «الألتراس»، أو «الوحدة»، حركة بالأساس قائمة على الرفض؛ رفض النظام، رفض الدولة، رفض كرة القدم الحديثة التي طغت عليها الرأسمالية، رفض الشرطة، رفض الظلم والقمع.

هذا الرفض، الذي كان له تجلياته في أوروبا الشرقية عند بدايات سقوط الأنظمة في موجة «الثورات الملونة» طبعا بعيدًا عن الموقف منها، إلا أن هذه المجموعات جعلت من مدارج الملاعب هناك تنادي بسقوط الأنظمة الاستبدادية، ولكم في رومانيا وصربيا مثال كبير.

الألتراس، حركة بالأساس قائمة على الرفض؛ رفض النظام، رفض الدولة، رفض كرة القدم الحديثة التي طغت عليها الرأسمالية، رفض الشرطة، رفض الظلم والقمع.

إيطاليا هي الدولة الأكثر عراقة في احتواء هذه المجموعات، حيث تطورت الألتراس هناك، وظهرت معاني جديدة للتشجيع، وشعارات أخرى مقاومة للأنظمة، وأكبر شاهد على ذلك مجموعة «الفوسا دي ليوني» التابعة لفريق ميلان التي كشفت تدخل المافيا في رئاسة «ميلان» وفي اتحاد الكرة ليتم حلها في أواخر الثمانينات بقرار من المخابرات الإيطالية حينها.

بداية التسعينات كانت لحظة فارقة في عالمنا العربي، وخاصة تونس. ففي سنة 1995، تشكلت أول رابطة ألتراس باسم «وينرز العاصمة» والتي كانت تشجع النادي الإفريقي، إن لم نعتبر تلك هي المجموعة الأولى عربيا فهي الثانية؛ حيث أن هناك مجموعة في ليبيا كانت سنة 1989 لكن تم حلها في أسبوعين، لتبدأ كرة القدم العربية تأخذ منحًى آخر.

كرة القدم هذه اللعبة التي تأسر ملايين الناس، أرادت الأنظمة العربية تطويعها لها و توظيفها لسياساتها، وجعلها أفيونًا للناس، فكرّستها في أزماتها كحل لها، ونشرت بها العصبية والجهوية بين أبناء الوطن الواحد، وذلك ضمن إستراتيجيات الإلهاء المعروفة.

لكن كما ذكرنا سابقا، فإن ظهور أول رابطة ألتراس غيّر هذا كله. فمع بداية الألفية الجديدة، انتشرت هذه العقلية في تونس، فظهرت «الألتراس مكشخين» و «البريقاد روج» و «الفايترز» لتصبح هذه الظاهرة حديث الساعة ومحل أنظار السلطة.

سنة 2004 كانت نقطة التحول الأولى؛ أول أغنية مناهضة للنظام تحت عنوان «إذا السلطة والحكومة حكمت بأحكامها .. مالا قلي الحرية وين مكانها». ثم نهائي كأس تونس في نفس السنة، والذي تم التصفير فيه على رئيس تونس وقتها، وبدأت الأغاني والأهازيج الخارجة عن سياق الدولة، من «نشيد الحرية» لمجموعة «السوبراس سيد» إلى «أغاني الوينرز» و «البريقاد روج» التي كانت تتغنى بالحرية وضد الظلم و القمع؛ لتصدر الدولة التونسية قرارًا بمنع هذه المجموعات من النشاط سنة 2008 ومنعهم من دخول الملاعب بالأسماء، ومصادرة موادهم جميعا، ومنع ظاهرة «الدخلة» أو «التيفو» في البلاد، ليزيد بذلك الطين بلة أخرى.

مع بداية الألفية الجديدة، ظهرت الألتراس مكشخين والبريقاد روج والفايترز لتصبح هذه الظاهرة حديث الساعة ومحل أنظار السلطة.

هذا القمع لم يقلل من عزيمة هذه المجموعات التي تنظمت أكثر وأصبحت في شكل مجموعة واحدة لكل فريق تحت مسمى «الكورفا»، وهي عبارة عن كيان يجمع كل مجموعات الفريق، ليصدر ألبومات وأغاني كلها سياسية، يعلن فيها الثورة وسقوط الدولة والحكم للشعب، بداية بألبوم 2009 الذي أعلنت فيها «الكورفا نور» العصيان واندلاع الثورة في أغنية «تاستامون» ومرورًا بما أصدره «البريقاد روج» في أغنية «نديرو ريفولوسين» إلى أحداث 8 أبريل 2010 وسقوط ضحايا بالملعب الأولمبي بالمنزه بالعاصمة التونسية، وذلك بعد مشادات بين الجماهير والشرطة في ذلك اليوم الشهير في تاريخ تونس.

كانت أيام تحركات الشارع إبان الثورة التونسية، هذه المجموعات متصدرة المشهد إلى جانب السياسين والحقوقيين والمدنيين، وكانت المسيرات والصيحات تشهد على ذلك، وكانت الملاعب التونسية على الأقل شرارة من شرارات ثورة الحرية والكرامة رغم ما أراد منها النظام، وحولت تهمة الفوضى والشغب إلى قيمة الحرية والعدالة، لترسم «الألتراس» في تونس إحدى أهم الملاحم التي اتصل فيها السياسي بالشعبي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.