نقلت شبكة «سي إن إن» عن مصادر مطلعة بالبيت الأبيض قولهم إن البيت الأبيض شرع في بحث إجراءات عزل ترامب، وإن المحامين المؤيدين له بدؤوا بالفعل في بحث الأسانيد والطرق القانونيّة لمعارضة قرار العزل حال صدوره، وحتى هذه اللحظة لم تثبت أو تُنْفَى هذه الشائعات.

منذ اليوم الأول وعدم الارتياح المُتبادل بين ترامب ومؤسسات الدولة الأمريكيّة يبدو جليًا، ولكن كان الرهان على أنّ دولة المؤسسات والتكتلات الاقتصاديّة سوف تقوم بتشذيب جنون ترامب، أو توجيهه بما يخدم مصالحها أو – على الأقل – بما لا يتعارض معها، الأمر الذي أثبتته الأحكام القضائيّة المُتتابعة، التي أوقفت العديد من القرارات التنفيذيّة المُباشرة التي أصدرها ترامب.لكن بعد فضيحة المعلومات السريّة التي أفشاها ترامب يبدو أن أصحاب النفوذ في الداخل الأمريكيّ والعديد من أعضاء الفريق الرئاسيّ أنفسهم قد أدركوا أن ترامب أشد جنونًا من أن يتم التنبؤ بتصرفاته، فكما نقلت جريدة نيويورك تايمز عن مصادر مجهلة من موظفي البيت الأبيض والذين وصفتهم الجريدة بـ «المُخلصين الذين تم اختيارهم من قِبل ترامب بعناية»، أنّ هناك حالةً من الازدراء لترامب والسخرية منه ومن قراراته، وأن الموظفين بداخل المكتب البيضاويّ لا يحترمون ترامب بالشكل الكافيّ.بل ذهب ديفيد بروكس، الباحث الاجتماعي، إلى أبعد من ذلك؛ فوصف ترامب بـ «الطفل». الطفل الذي يقوم بإفشاء معلومات في غاية السريّة من أجل إبهار بعض الضيوف. والذي طلب من رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية إعفاء أصدقائه من بعض القوانين، وأنّه لا يفهم توابع أعماله الخطيرة؛ ولهذا يجب أن لا نندهش حين نجده هادئًا بخصوص ما قام به. ومما سبق يُمكننا القول إنّ المُحيطين بترامب يرون أنّ الجهود المُضنيّة التي تُبذل من أجل إصلاح ما يفسده ترامب يُمكن أن تُوجه لحلٍ أكثر كفاءةً، وهو «استبدال ترامب». والبديل المنطقي هو نائب الرئيس، مايك بنس.

على خطى «فرانك أندروود»

فرانك أندروود
فرانك أندروود

يُقدم لنا المُسلسل الأمريكيّ الشهير «هاوس أوف ذا كاردز» شخصية فرانك أندروود، شخصية وصولية تسعى إلى السلطة بأي شكل؛ ونجح عبر الارتباط بابنة مسئولٍ سياسيٍ أن يصل إلى مجلس الشيوخ، ومن ثم تتوالى الأحداث ليصير نائبًا للرئيس، ولكن كانت عيناه ثابتتين منذ البداية على كرسي الرئيس وليس النائب؛ لينجح بدهائه في إحراج الرئيس وافتعال المشاكل من حوله، ثم يأتي هو ليُخلّص الرئيس من تلك الورطة، وهكذا. حتى ينجح في نهاية المطاف بإقناع الرئيس بالتخليّ عن منصبه لصالحه؛ ليتخلى الرئيس عن منصبه وهو يقول «شكرًا فرانك، أنّك ستحل مكاني، وستحميني من المُساءلة».فكيف إذًا يُمكن تنفيذ الخطة ذاتها على أرض الواقع، وما هو السند القانوني الذي يُمكن بناؤها عليه، وهل مهام نائب الرئيس تسمح له بتنفيذ تلك الخطة؟

نائب الرئيس ليس شيئًا، ولكنّه قد يُصبح كل شيء

تلك كانت كلمات جون أدامس – أول من تولى منصب نائب الرئيس في عهد جورج واشنطن – والتي تُؤكد حقيقة واحدة، وهي أن نائب الرئيس ليس له أي سلطة ما لم يصبح هو الرئيس. فكما يقول الشارع الأمريكي إنه ليس هناك وظيفة لنائب الرئيس سوى مراقبة صحة الرئيس، حيث لا يصبح منصب نائب الرئيس مفيدًا إلا في حالة خلو منصب الرئيس بالاستقالة أو الإقالة أو الوفاة أو عدم قدرته على أداء مهام وظيفته. ويُذكر أيضًا عن توماس مارشال، الذي خدم نائبًا للرئيس الأمريكيّ الأسبق ويلسون، قوله: «إن امرأة كان لها ولدان، أحدهما ذهب إلى البحر، والآخر أصبح نائبًا للرئيس، ومنذ ذلك الحين، لم يُسمع أي خبر عن أي منهما».ويقتصر دور نائب الرئيس فقط على رئاسة شرفية لمجلس الشيوخ الأمريكي، وهى رئاسةٌ لا تُعطيه حق المشاركة في النقاشات، أو حتى التصويت على القرارات، إلا في حالة تعادل الأصوات. ولكن قرب النائب من الرئيس يسمح له بالقيام بأدوار استشارية في مجالات داخلية وخارجية. ومما يجدر ذِكره لنؤكد أن فرانك أندروود ليس أول من يصل إلى الرئاسة من باب منصب النائب، فقد حدث الأمر تسع مراتٍ في التاريخ الأمريكي، منهم جون أدامس، حيث «أصبح كل شيء» كما أراد لنفسه، بانتخابه ثاني رئيس للولايات المتحدة بعد جورج واشنطن. ومنهم من لم يصل إلى الرئاسة، ولكنه كان الرئيس الفعلي، إذ تم اتهام ديك تشيني نائب الرئيس جورج بوش الابن بأنه يُشرف على إدارة موازية لتحريك رئيسه.


كيف لـ«بنس» أن يفعلها أو كيف يكون الانقلاب الدستوري؟

مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي

لكي تتم إقالة ترامب من منصبه يجب أن تثبت خيانته المباشرة، أو يثبت تلقيه رشوة، وهما أمران وإن كان من الصعب إثباتهما، على الرغم من التحقيقات الدائرة حول التدخل الروسي من عدمه في الانتخابات الأمريكية، فإنّ الشبهات تزداد حولهما يومًا بعد الآخر، خاصةً بعد إقالة جميس كومي مُدير مكتب التحقيقات الفيدراليّة، والذي حدث على خلفية التسريبات الأخيرة كما أُعلن، لكن ادعاءاتٍ تسرّبت تفيد بأن الإقالة كانت بسبب طلب ترامب منه إيقاف التحقيق حول علاقة مايك فلين مستشار الأمن القومي السابق بروسيا.فإذا كان خيار الخيانة أو الرشوة أمرًا بعيدًا فإنه بعد حادثة تسريب المعلومات الأخيرة، أصبح من الوارد جدًا أن يقع ترامب تحت طاولة ا لتعديل الخامس والعشرين من الدستور الأمريكيّ لعام 1967، والذي ينص على أنّه يجوز عزل الرئيس إذا قام نائب الرئيس وأغلبية مستشاري الرئيس بإبلاغ الكونجرس أن «الرئيس لم يعد قادرًا على أداء مهام وظيفته أو تصريف أمور المكتب البيضاوي»، وإذا قام الرئيس بالطعن على هذا القرار، فيجب عليه إقناع ثلثي أعضاء الكونجرس بكفاءته للقيام بمهامه في مدة لا تتجاوز 21 يومًا، وإلا فسيصبح تصويت ثلثي الكونجرس على قرار العزل أمرًا نهائيًا؛ ليُصبح نائب الرئيس رئيسًا.على الرغم من أن هذا التعديل كان موضوعًا لحالاتٍ مثل اغتيال الرئيس، أو تعرضه لسكتةٍ دماغيةٍ، أو إصابته بمرض آلزهايمر، مثل حالة الرئيس ويلسون -وفقًا لتقريرٍ قديمٍ نشرته الإنتدبنت- فقد أصيب عام 1919 بالشلل التام، وظل عاجزًا عن الحركة لشهوٍر، لكن زوجته -بمعاونة الأطباء- استطاعت إخفاء هذا الأمر عن العامة، وتمادت في إخفاء مرضه بتوقيع بعض الوثائق نيابةً عنه. لكن يُعد قصور ترامب عن أداء وظيفته قصورًا من نوع آخر، كما ذكرنا في مقدمة المقال، وهو الأمر الذي لن يجد بنس – إن شاء – أو المعارضون صعوبةً في إثباته، وهو كذلك ما لا يُعتبر من السهل إنكارُه من قِبل المُؤيدين.ومما يُقوي فرص حدوث تلك الفرضية هو شعبية ترامب التي انخفضت مُؤخرًا لتصبح 40% وفقًا لـ «استطلاع غالوب»، وأردف التقرير أنه منذ عام 1946 إذا انخفضت شعبية الرئيس عن 50% فهذا يعني أنّه فقد تأييد ما يُقارب 36 مقعدًا في الكونجرس. هذا بالإضافة إلى حقيقة أن الجمهوريين يمتلكون 52 مقعدًا فقط في الكونجرس، بينما الأغلبية اللازمة لرفض قرار عزله هي 66 مقعدًا.

بين مايك بنس وأندروود

1. الطموح والإصرار

رغم الفشل الذريع والمُتتابع الذي مُني به بنس في بداية حياته عند أول دخولٍ له في مجال السياسة عام 1988، بعد أن حصل على شهادة الدكتوراه في القانون من جامعة إنديانا عام 1988؛ إذ لم ينجح في ترشحه للكونجرس عاميّ 1988 و1990، إلا أنّه قرر أن البدء بالقاعدة الشعبيّة أفضل، فبدأ الاشتغال بالأمور المحليّة في ولايته، فترأس عام 1991 مؤسسة للأبحاث حول سياسة ولاية إنديانا، ثم عمل عضوًا في شبكة (سياسة الولاية)، ثم أصبح منذ عام 1994 مقدمًا للبرامج الإذاعية بالولاية ثم التلفزيونيّة بين 1995 و1999. ثم تكللت محاولاته السياسيّة بالنجاح، إذ تم انتخابه في الكونجرس في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2000، وأعيد انتخابه لست ولايات أخرى على مدى 12 عامًا، ثم تولى مايك بين 2005 و2007 قيادة لجنة الدراسة الجمهورية، التابعة لمجموعةٍ محافظةٍ بالحزب الجمهوري، ثم انتُخب بين عامي 2009 و2011 رئيسًا لمؤتمر الحزب الجمهوري، ليشغل بعد ذلك منصب حاكم ولاية إنديانا منذ عام 2013.

2. النجاح الإداري

ومن الأمور التي تُعد مُغريةً للأمريكيين من أعضاء الكونجرس وعامة الشعب ولـمايك نفسه على حدٍ سواء، أنّ الرجل قد حقق نجاحًا كبيرًا في مدة أربع سنوات تولى فيها ولاية إنديانا؛ حيث انخفض مُعدل البطالة بمقدار النصف، وزادت نسبة التوظيف في الولاية كما لم تزد منذ 200 عام. وأنّه قد حقق المُعادلة الصعبة بخفض الضرائب على المواطنين وفي نفس الوقت زيادة نسبة الاستثمارات، ما رفع التصنيف الائتماني للولاية. مما يُرجّح كفته لدى الأمريكيين، ويجعله غير خائف من تجربة إدارة الولايات المُتحدة.

3. الخلافات والاختلافات بينه وبين ترامب

على الرغم من كون بنس نائبًا لترامب، فإن هناك خلافاتٍ واختلافاتٍ جوهرية بين الاثنين، وهى خلافات منطقيةٍ بين ملياديرٍ يميل إلى التظاهر والاستعراض، وبين مايك الذي يحسب كل شيءٍ بدقةٍ مُتناهية. وهناك اختلافات أخرى تمتد جذورها إلى بدايات الحملة الانتخابيّة، فبنس يرفض قرار ترامب بخصوص حظر دخول المُسلمين، ووصفه بأنّه هجوميّ وغير شرعيّ. وكان بنس أثناء مناظرة مع تيم كين – نائب هيلاري كلينتون – قد هاجم فلاديمير بوتين وانتقد موقفه من مناصرة الأسد، ودعا إلى تدخلٍ عسكري في سوريا –رغم دعوته إلى وقف دخول اللاجئين السوريين – الأمر الذي عارضه ترامب بشدة آنذاك، ثم عاد الأخير فأنفذه في الأشهر الماضية.ومنها أيضًا الخلافات بشأن المثليين والإجهاض، فترامب وإن كان يعارضهما، إلا أنّه اختار «كاتلين جينر» أشهر مُتحولة جنسيًا لتكون مستشارته بشأن المثليين. ولكن على الجانب الآخر يقف بنس مناهضًا بشدة وشراسةٍ لزواج المثليين، وقد عمل في 2007 على مشروع قانون يقوم بإغلاق أي مُنظمة تقوم بالإجهاض، أو تُقدم مساعدة من أي نوع للنساء اللواتي يرغبن فيه.تلك الخلافات التي يحاول بنس أن يخفف من حدتها بتغريداته التي تتبع كل خلافٍ مُعلن مع ترامب، والتي يدعم فيها ترامب، ويعلن فيها سعادته بوجود بجانب رفيق الانتخابات ترامب.

4. الشعب يُريده!

وعطفًا على الاختلافات بين الرجلين، فالشارع الأمريكيّ هو الآخر يُصر على وجود فارقٍ بين الرجلين، ولا يُحاسب بنس بما يجنيه ترامب؛ فوفقًا لاستطلاع جامعة سوفولك، فإن بنس هو الشخص الوحيد في الإدارة الحالية الذي ظل محافظًا على تقييمٍ إيجابي بين الشعب الأمريكي.حيث تصل نسبة تأييد الأمريكيين له – ومن ضمنهم المُعارضين لترامب – إلى 47%، ما يجعل بنس يتفوق على كل المُنافسين الآخرين في الإدارة، ومن ضمنهم ترامب ذاته، بـ 11 نقطة.

5. إصلاح ما أفسده ترامب

مايك بنس، الولايات المتحدة، دونالد ترامب
ومما يقوي نظرية خطة فرانك أندروود جهوده الحثيثة لإصلاح الخلافات التي يخلقها ترامب داخليًا وخارجيًا منذ الأيام الأولى من حكمه،
ومنها الخلافات التي حدثت إثر مكالمة هاتفيةٍ لترامب مع رئيس الوزراء الأسترالي بشأن اتفاق سابق تم عقده مع أوباما، بخصوص اللاجئين. وكذلك الخلافات مع الصين، والتي نجح بنس في تهدئتها، والتوصل إلى حلولٍ وسط بين الطرفين.ويُعد بنس هو القبلة المُزدوجة التي يقصدها ترامب حين يريد الوصول إلى الكونجرس، فكما قال ترامب سابقًا: «أنا لا أريد كلبًا مُهاجمًا، بل أريد نائبًا يستطيع إيصال وجهة نظري بهدوء». والقبلة التي يقصدها من يريد الوصول إلى ترامب، فالعديد من أعضاء الكونجرس ومُستشاري ترامب يفضلون التواصل مع بنس لهدوئه ولباقة حديثه.
وختامًا، قد سرت في الساعات القليلة الماضية شائعةٌ – لم تثبت ولم تُنفْ – عن أن البيت الأبيض شرع في بحث إجراءت عزل ترامب، وأن المُحامين المُؤيدين له بدؤوا بالفعل في بحث الأسانيد والطرق القانونيّة لمُعارضة قرار العزل حال صدوره، نُقلت الشائعة عن «سي إن إن» التي قالت إنّ الخبرَ جاء عن مصادر مُطلعة في البيت الأبيض، قد يكون الخير حقيقة، أو مكذوبًا، أو محاولةً لجس النبض؛ إلا أنّه في كل الأحوال لا تبدو الأيام القادمة من التاريخ الأمريكي مُستقرةً داخليًا، فقد تُهدئ الصفقة المهولة التي عقدها ترامب مع المملكة السعودية -ما يُعد إنفاذًا لوعده بأنّه سيجعل المملكة تدفع ثمن حماية أمريكا لها- من نقمة الأمريكيين عليه قليلًا، إلا أن هفوات الرجل وسقطاته تفوق يومًا بعد يوم طاقة احتمال المُؤيدين قبل المُعارضين.