في الرابع عشر من يوليو/تموز 2015، أطل جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، على العالم من شرفة فندق كوبورغ، من قلب العاصمة النمساوية، فيينا، ليعلن توصل بلاده لتسوية مع الدول الكبرى الخمس بشأن مشروع إيران النووي.

الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ في يناير/كانون الثاني 2016، رغم ما لاقاه من انتقادات وإدانات من الجمهوريين في الولايات المتحدة وبعض الفصائل المتشددة في إيران. لتنتهي ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ويأتي مرشح الجمهوريين للرئاسة الأمريكية، دونالد ترامب، و يصف الاتفاق بالكارثي، ويلوّح بإمكانية إلغائه.

في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني لهذا العام، خاض دونالد ترامب سباقًا انتخابيًا بدا محسومًا في البداية لمنافسته، حتى كانت المفاجأة التي جعلت العالم بأسره يعيد النظر في تصريحات الرجل، وكانت تؤخذ في كثير من الأحيان -قبل هذا التاريخ- على محمل الهزل. فترامب أصبح رئيسًا وبات يملك آليات إنفاذ ما صرّح به.

تمزيق الاتفاق من جانب الولايات المتحدة من شأنه أن يجعل المعادلة السياسية في إيران تميل في كفة المحافظين على حساب الإصلاحيين.

قبل أن نفرط المزيد من الجهد في الإجابة على السؤال المطروح على الساحة الدولية حاليًا فيما إذا كان ترامب صادقًا بشأن حديثه عن الاتفاق النووي وأنه بالفعل في طريقه لتمزيق الاتفاق أم أن هذا من غير المحتمل حدوثه، علينا الحديث عن الظروف التي وُلد فيها هذا الاتفاق وما تبعه من انعطافات داخلية في إيران وخارجيةً، فيما يخص الساحة الدولية.

فالاتفاق تولد عن جهد دولي جهيد لإثناء الجمهورية الإسلامية عن إتمام مشروعها النووي. تاريخٌ من العقوبات الاقتصادية فرضها المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية، على الجمهورية الإسلامية، ما أفقدها الكثير من الأموال، أفقدها في مجال الطاقة فقط ما قُدر بـ 160 مليار دولار، حتى أن الكثير من العقوبات طال شركات دولية لتعاونها مع الجمهورية في مجالات الطاقة، كشركة «بي دي إف إس آي» الفنزويلية، لانتهاكها الحظر الأمريكي.

الأمر الذي لم يَحُل بين إيران وبين مشروعها، وهو ما جعل العالم بقيادة الولايات المتحدة أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما التوصل لاتفاق تسوية تتنفس من ورائه إيران بعض الرخاء، وتلتزم أمام المجتمع الدولي في المقابل بتأجيل ملفها النووي، تحت رقابة دولية صارمة. أو الخيار الثاني (المكلّف) وهو إثناؤها بالقوة.

كان للإدارة الأمريكية (الديموقراطية) رؤية جعلتها تدافع عن الاتفاق داخليًا وخارجيًا، يعدد الأستاذ مصطفى اللباد آفاق هذه الرؤية، في مقالة له نشرتها صحيفة السفير (اللبنانية)، ويقول أن الاتفاق عنى لأمريكا حرمان إيران من إتمام برنامجها النووي طيلة فترة الاتفاق (15 عامًا)، كما فتح للشركات الأمريكية العابرة للقارات أسواقًا إيرانيةً متعطشة، ذات كثافة سكانية عالية، وهو أمرٌ لم يكن ليحدث في ظل العقوبات التي رُفعت بموجب الاتفاق.

الانفتاح الاقتصادي هذا من شأنه أن يغير موازين القوة الاقتصادية، التي يفرض الحرس الثوري الإيراني سيطرته عليها، وهذا سيجعل زمام الأمور تنفلت نسبيًا من يد التيار المحافظ. نقطة أخرى، تتمثل في كون الاتفاق مشروعًا إصلاحيًا يُبيض وجه روحاني وشركاءه، في محاولتهم لإنفاذ سياسات أكثر تحررًا.

هذا المأرب أتت ثماره في الانتخابات البرلمانية، التي أقيمت على مرحلتين في فبراير/شباط، وأبريل/نيسان لهذا العام، وانعكس الاتفاق النووي على نتائجها، باقتناص تحالف الإصلاحيين والمعتدلين 80 مقعدًا في مقابل 76 للمحافظين، وذهبت المقاعد الثلاثون المخصصة للعاصمة جميعها للتحالف المعتدل.


ماذا إذن لو قرر ترامب تمزيق الاتفاق النووي؟ علينا في البداية أن نشير إلى نقاط محددة؛ أولها أن ترامب في معرض حديثه (الناقم) عن الاتفاق لم يقدم برنامجًا واضحًا ولا يبدو أنه يمتلك إلى الآن إجابةً على السؤال. ثانيها، أن البديل عن الاتفاق، إما إفساح المجال لإيران لتمضي قُدمًا في مشروعها النووي دون فرض أو قيد، أو أن يتجه ترامب للمواجهة العسكرية وهو ما يتعارض مع إعلانه الرغبة الأمريكية في الانعزال عن مشكلات العالم.

وثالثها، أن الاتفاق تم بين دولٍ ست، ولم يكن اتفاقًا ثنائيًا. إذن، سيتعين على ترامب، قبيل التوجه لتمزيق الاتفاق، إقناع الدول الأربعة الأخرى، وهذه مهمة لا تبدو هيّنة في ظل ما يتوجسه القادة الأوروبيون تجاه ترامب.

يقدم لوربر اقتراحات لترامب، تتلخص في مزيد من الضغوطات الاقتصادية الموجهة ضد مؤسسة الحرس الثوري، التي من شأنها تقليص أنشطته الداعمة للإرهاب

نقطة ملحّة أخرى مستلزمة للذكر، وهي أن الشركات الأوروبية سارعت عقب إعلان الاتفاق لاقتسام نصيبها من الكعكة الإيرانية، ولا يبدو سهلًا التراجع عن هذا بناء على رغبة رئيس الولايات المتحدة منفردًا.

بهذا الشأن قدّمإيريك لوربر، الباحث والأكاديمي المتخصص في شئون الاقتصاد والأمن المالي، ثلاثة بدائل لترامب، يمكنه فعلها للموازنة بين رغبته إذلال إيران، والإبقاء على الحد الأدنى الذي يمنع إيران من تطوير برنامجها النووي. أول هذه البدائل؛ التضييق الاقتصادي على مؤسسة الحرس الثوري الإيراني.

طبقًا للقانون الأمريكي، لا يجوز للشركات الأجنبية التعامل مع أي شركة يمتلك الحرس الثوري 50% فأكثر من رأس مالها، ولذا فالمؤسسة تعمد لتخفيض حصصها في الشركات التي تنتوي المشاركة فيها لـ 35%، مع زيادة أعداد هذ الشركات (ما يمكن أن نعتبره تمددًا أفقيًا).

يمكن لإدارة ترامب الأخذ بنصيحة لوربر في تخفيض قيمة الحد الأدنى للمشاركة مع شركات الحرس الثوري من 50% لـ 25%، ما يُخرج عددًا كبيرًا من هذه الشركات من الأسواق العالمية، وهو ما يعني مزيدًا من الضغط الموجّه، ليس بالضرورة على إيران كدولة، وإنما على المؤسسة الأكثر تطرّفًا فيها.

واحدة من العقوبات التي مُنيت بها إيران، في إطار برنامج العقوبات الأمريكية، التي رُفعت مع توقيع الاتفاقية، هو أن كافة المعاملات الدولارية الخارجية لإيران ينبغي وضعها أمام سلطة القضاء الأمريكي، بحُجة أنها في الأخير تتقاطع مع النظام المالي الأمريكي. ويقترح لوربر على الإدارة الجديدة إعادة فرض السلطة القضائية على المعاملات الدولارية الإيرانية خارجيًا، دونما فرض عقوبات جديدة، سواء أكانت المؤسسات الأمريكية طرفًا فيها أو لا، لمنع مزيد من الدعم والتعاظم لدور الحرس الثوري واستثماراته الخارجية.

وبينما كان الرئيس أوباما يمارس بروبجندا محفزة للشركات الأجنبية للإسراع إلى السوق الإيرانية رغبةً منه في إثراء الاتفاق، بإمكان إدارة ترامب ممارسة المزيد من الضغوطات عليها، إما للخروج من السوق أو منعها من التعامل بأي درجة مع وزارة الدفاع الإيرانية أو الحرس الثوري الإيراني، ويظن لوربر بهذه النصائح أن الولايات المتحدة في ظل ترامب لن تخسر ما أنجزه الاتفاق من تعطيل (سلمي) للبرنامج النووي الإيراني.


تبدو الاقتراحات التي قدّمها لوربر أكثر منطقية لتأديب إيران – إذا جاز التعبير -، ويبدو أن ترامب بالفعل عازم على ذلك، حتى أن خياراته للفريق المعاون تتماشى مع هذا الاتجاه دون مواربة، ونقصد هنا تعيينه لمايك بومبيو مديرًا لوكالة الاستخبارات C.I.A، الرجل المعروف بعدائه الشديد للنظام في إيران ومعارضته الشديدة للاتفاق النووي.