«الأيديولوجيا»، هل قابلت هذه الكلمة الغريبة من قبل؟ هل سبق أن سمعت متحدثا في الإعلام يؤكد أنه «غير مؤدلج»؟ هل سألك أحدهم من قبل عن «أيديولوجيتك»؟ هل الأيديولوجية إذن تهمة أم صفة لكل إنسان؟ هل هي مرادف للكلمة العربية البسيطة «المذهب»؟ أم أن لها معنى خاصا يجب أن نتعرّف عليه؟ هذه المقالة تحاول أن تشرح مفهوم الأيديولوجية واستخداماته المختلفة عبر التاريخ.


المصطلح والدلالة

هنالك إشكالية تعريف قائمة فيما يخص مصطلحات العلوم الإنسانية؛ فهي ليست كالعلوم الطبيعية قياسية موضوعية في دلالاتها لا مجال للرأي فيها؛ إنما هي ذاتية تخضع لنسبية المنظور الفردي والاجتماعي، تحتمل التأويل وتخضع لواقعها؛ لذا عند استعراضنا لمفهوم الأيديولوجيا فلا سبيل لتجاوز الإشكالية على سبيل القطع ولكن يمكننا على الأقل أن نستعرض مجموعة من التعريفات نتمكن عن طريقها من إبراز المشترك وإعادة التعريف.

كان أول ظهور للمصطلح على يد الفرنسي ديستوت دوتراسي (1754 – 1836) حيث ورد في كتابه «حول ملكة التفكير».

تتكون الكلمة من مقطعين «idea» وتعني فكرة، و«logos» وتعني علم أو دراسة. وعند تركيب اللفظين يصبح المصطلح «علم الأفكار» الذي يعرفه دوتراسي على أنه «العلم الذي يدرس الأفكار، بالمعنى الواسع لكلمة أفكار، أي مجمل واقعات الوعي من حيث صفاتها وقوانينها وعلاقتها بالعلائم التي تمثلها».

لم يترجم المصطلح إلى نظير مُرضٍ في اللغة العربية، وإن حدثت بعض المقاربات كنحت اللفظ اللاتيني وصبه في قالب تصريفي عربي، كما فعل «العروي» الذي اقترح تعريبها على وزن أفعولة فيقول: أدلوجة.

ومنها: أداليج، وأدلوجات، وأدلج إدلاجًا ودلج تدليجًا؛ وهو الأمر الذي وصفه «المسيري» بالجرس القبيح الذي لا يستدعي شيئًا للعقل، ورأى بدلًا من ذلك أن بالإمكان ترجمة المصطلح إلى كلمة «قول» والتي تعني: رأيا أو معتقدًا، لكن تلك الترجمة وذاك التعريب لم يلقيا رواجًا في مجالات الثقافة في مجمتمعنا العربي الذي تداول اللفظ كما هو «أيديولوجيا»، لا «أدلوجة» العروي، و لا «قول» المسيري.

ظل المفهوم كما وضعه دوتراسي مدة من الزمن؛ أي علم الأفكار المعني بدراستها بشكل عام. لكن مع قيام الثورة الفرنسية ونضوج ثمارها الفكرية التي تبنت المادية باعتبارها منهجًا علميًا يستبعد الميتافيزيقا، ومع ازدراء اللفظ سياسيًا على يد نابليون بونابرت تطور المفهوم إلى دلالة أخرى.

كان الإيديولوجيين جمعية فلسفية تنتهج المادية كما أنها تعارض أحلام نابليون الاستعمارية، الأمر الذي جعل نابليون يناصبهم العداء؛ فأطلق عليهم –باحتقار شديد– اسم جماعة الأيديولوجيين؛ فأخذ التعبير منحى ازدرائيا قصد به نابليون «ذوي الفكر الذهني البعيد عن الواقع».


الدلالة وفق الاستخدام

1. الأدلوجة كقناع (وعي زائف): مجموعة القيم والأفكار التي تتبناها جماعة ما، فتؤثر في فكرها وتجعلها ترى الأشياء تبعًا لمنطقها هي لا منطق الأشياء؛ فهي معرفة وهمية غرضها إنجاز فعل اجتماعي يحقق مصلحة تلك الأفكار والقيم.

2. الأدلوجة كرؤية كونية: في ذلك المجال نرى أن الأيديولوجيا أقرب إلى الفلسفة من حيث كونها تتخذ أحكامًا مطلقة شاملة تعالج الفرد والكون والمجتمع. يقول العروي:

ليست الأدلوجة بالنسبة للفرد قناعًا بقدر ما تمثل أُفُقه الذهني، يجد الفرد فيها كل العناصر التي يركب منها أفكاره في صورة متنوعة، يوظف منها لأغراضه القليل أو الكثير، لكنه لا يستطيع القفز فوق حدودها؛ هي مرتعه الذهني والمنظار الذي يرى به ذاته ومجتمعه والكون كله.

3. الأدلوجة علم الظواهر: يقصد هنا بعلم الظواهر تفسير الأشياء معرفيًا وعلميًا، وتبرز الإشكالية بين موضوعية العلم وذاتية الأدلوجة، فالحق هو ما يطابق ذات الكون، والأدلوجة هي ما يطابق ذات الإنسان في الكون كما يقول العروي. يأتي الاختلاف بين الواقع والفكر هنا من الأسباب التي تضعها الأدلوجة أمام الذهن البشري من عكس مباشر لبنية الأشياء القارة الدائمة.


ماركس والمصلحة الطبقية

اعتمد ماركس (1818- 1883) نقد ما رسخته فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر، فإذا انطلق فلاسفة الأنوار من نقد تعاليم الكنيسة فإن ماركس أراد إثبات الحقيقة بنقد فلاسفته المعاصرين الذين رأى أنهم قد ورثوا أوهام أبناء ذلك القرن؛ حيث يقول:

ما هو الشيء الذي يبرر ادعائكم بأن فكركم وحده يعكس الحقيقة المطلقة؟ تفسرون أوهام الآخرين بحب السيطرة والتقليد والتربية الفاسدة، فكيف تفسرون نشوء فكركم النقدي؟ إنكم تقفون على أرضية فلسفة الأنوار وتستعيرون ماديتها وعقلانيتها، لكن ما كان جائزًا في الماضي لم يعد جائزًا في عهدكم بعد أن حدثت الثورة الفرنسية وكشفت عن تناقضات خفية، حين تحيون في ألمانيا فلسفة الأنوار ونقدها للأوضاع، إنكم تلغون التاريخ الواقعي، وبإلغائكم إياه تملئون أذهانكم بالأوهام وتُعرضون عن معرفة الواقع؛ فكركم إذن أدلوجي، غير علمي.

يرى ماركس أن تعزيز مبدأ الفردية الذي تبناه فلاسفة الأنوار قد عزز من ترسيخ الرأسمالية، وجاءت آراء الفلاسفة تبريرية تحاول الحفاظ على مصالح الطبقة البرجوازية وبالتالي فقد رأى أن الأيديولوجيا هي قناع طبقي يُستخدم لتبرير استغلال الطبقة العاملة.


نيشته وغل المستضعفين

يرى نيتشه (1844-1900) أن أوروبا عانت لألفي عام بعد سقوط الحضارة الرومانية من هيمنة الضعفاء، والتي تمثلت في النصرانية التي ورثت الخضوع والضعف من اليهودية.

إن نيتشه يرى أن الإنسان «حيوان» في المقام الأول، والعقل بعد ذلك أداة في يده يستخدمه في الوصول لأهداف غريزية، فإذا كان الإنسان صحيح الجسد كان صحيح العقل متماشيًا مع أهداف الحياة (الغريزة) والعكس؛ وقد اعتمد على اشتقاق الكلمات المستعملة في القاموس الأخلاقي حيث القوي النبيل يعني الصالح، والضعيف المغلوب يعني الفاسد.

فليس هناك اختيار ولا حرية ولا معنى للمسئولية ولا محل للضمير، إن هدف الغريزة وهدف الفرد شئ واحد هو العلة الأولى والأخيرة لأي حدث، إلا أن الضعيف رأى مصلحته أن يقول للقوي أنت حر، لك الخيار ؛ ليحمله مسئولية ما يفعل، وليضعف إرادته بعقال الضمير المصطنع، هذا هو أصل الأخلاق.

يرى نيتشه أن الإنسان الضعيف أنشأ الأخلاق والثقافة والتربية لتعرقل من غلبة الإنسان القوي، وبالتالي تعطل من أهداف الحياة. إن الشيء المستور وراء الأدلوجة عند نيتشه هو غل المستضعفين وضحايا الحياة، الذين اخترعوا الثقافة والتربية ليعادووا ميول النفس الطبيعية.


فرويد ومنطق الرغبة

يقول فرويد (1856-1939) أن إنتاجات العقل تبريرات خلقها الإنسان المتمدن لمعارضة الرغبة الجارفة؛ معللًا قوله بالاستناد إلى طبيعة الإنسان الحيوانية.

ينطلق فرويد من تحليلاته النفسية للرغبة المكبوتة وراء الوعي على مستوى الأفراد والمجتمعات، فإذا قمنا بقياس تاريخ سيطرة العقل في المجتمعات الإنسانية نجدها فترة قصيرة جدًا؛ بما يعني أن تحكم العقل ما زال أمرًا سطحيًا يحجب حقبًا طويلة من سيطرة الرغبة التي يتموضع العقل تحت تصرفها كأداة تبريرية لأغراضها.

وفقًا لفرويد فإن الأفكار (الأيديولوجيا) هي أوهام تخدعنا بها الرغبة الإنسانية لتصل إلى هدفها، وتعرية الأوهام من صبغة الحق التي يلصقها بها العقل المخدوع هو واجب العلم. من تلك المجموعة من الآراء حول الأيديولوجيا نجد أنها تحتوي على سمة مشتركة وهي أن: الأفكار رموز لا تحمل حقيقتها، بل تستر حقيقة باطنية تكون في بعض الأحيان المصلحة الطبقية، أو الغريزة الإنسانية، أو الرغبة.


كارل مانهايم والأدلوجة السياسية

يقول العروي:

درس مانهايم (1893-1947) الفكر المحافظ الألماني كنمط عام تندرج تحته كل الأدلوجات التي ترمي إلى المحافظة على نظام اجتماعي معين.

لخص مانهايم قواعد عامة في تعريفه للأدلوجة السياسية في كتابه الإيديولوجيا والطوبى:

القاعدة الأولى: تسمى المنظومات الفكرية الفعالة في الميدان السياسي أدلوجة بالمعنى الضيق؛ وترتبط الأدلوجة السياسية بمصالح الفئات التي تتصارع لتصل إلى السلطة السياسية؛ والمصلحة تعني هنا المصلحة الاقتصادية الجلية. كل أدلوجة لكى تكسب الأتباع وتكون فعالة، ترى ذاتها حقيقة مطلقة وترى منافستها غلطًا وزورًا وتدليسًا.

القاعدة الثانية: ميز مانهايم بين الأدلوجة والطوبى؛ حيث عرَف الطوبى بأنها نوع من التفكير يتمحور حول تمثل المستقبل واستحضاره بكيفية مستمرة، وعرف الأدلوجة بأنها التفكير الذي يهدف إلى استمرار الحاضر ونفي بذور التغيير الموجودة فيه.

حينئذ فإن كل منظومة فكرية قد تكتسي صبغة أيديولوجية أو طوباوية حسب الظرف التاريخي الذي تظهر فيه والفئة الاجتماعية التي تستعملها؛ كانت الليبرالية في القرن الثامن عشر طوبى ثم انقلبت إلى أدلوجة في القرن اللاحق، كانت المسيحية أدلوجة في القرون الوسطى ثم أصبحت طوبى مضادة للطوبى الليبرالية داخل الفكر الرجعي في بداية القرن التاسع عشر.

يقول العروي أنه يمكننا أن نقرر على العموم حسب مانهايم؛ أن الطوبى ذهنية الطبقات إبان صعودها والأدلوجة ذهنية الطبقات في حالة انحدارها.


هيجل وروح العصر

يعني مفهوم روح العصر التصورات الذهنية التي تحكم الفكر في عصر ما، وكان هذا هو الهدف والمنطلق النقدي في ذات الوقت عند هيجل ومن ورثه من الفلاسفة الألمان مثل هردر.

كما قلنا تميز القرن الثامن عشر بالعقلانية وتأليه العقل في الحكم على الظواهر، لكن مع اصطدام الحضارة الأوروبية مع غيرها من الحضارات في ذلك القرن واكتشافها لأنماط مختلفة من الحضارات لا تستعمل المقاييس الذهنية التي تبدو بديهية للأوروبيين، برزت إشكالية في كيفية التوفيق بين استخدام العقل كمنهجية، وبين العقل المجرد الذي دل تلك الحضارات على طرق أخرى؟

يكمن التعارض في روح العصر ذاته عند الأوروبيين في “العقلانية” واستخدامها المجرد في الحكم على واقع مغاير لا يمكن فهمه منفصلًا عن عصره وسماته التي ميزت الأخلاق والقوانين والنظم الاجتماعية التي تبدو في وقتها تبريرية أو بديهية لتلك النتائج.

يقول هيجل:

وبناءً على ذلك يستنتج العروي أن روح كل حقبة (إديولوجيتها) هي المنطق الكامن وراء كل إنتاجاتها، إذا لم نكتشفه فسنعجز عن فهم تلك الإنتاجات، إن روح العصر بمثابة المفتاح الذي يعيد الحياة إلى آثار الماضي.

مما سبق يمكننا الخروج ببعض السمات التي تميز مصطلح الإيديولوجيا:

عندما يواجه الباحث آثار حقبة معينة لابد له من إدراك روح تلك الحقبة لكي يدرك معنى دساتيرها وقوانينها ومذاهبها وعلومها وفنها، عليه أن يفهم الدولة التي ابتدعتها، والدورة التي تمثلها تلك الدولة في سير التاريخ العام.

1. الذاتية: في أي مجال استعرضنا فيه مفهوم الإيديولوجية نجدها تنطلق في حكمها على الظواهر أو الأفكار من منطقها الداخلي والذي يكون متسقًا مع ذاته لكنه ليس بالضروروة متسقًا مع ما حوله، وعند تبني الأيديولوجيا من قبل فئة من الناس فإنها تسعى لفرض ذلك الفهم الذاتي على المجتمع بأكمله، وعند نجاحها ينتقل ذلك المنطق الداخلي إلى المجتمع فيؤدي انغلاق الفئة وديكتاتوريتها في الفهم إلى انغلاق للمجتمع وديكتاتوريته مثلما حدث مع النازية.

2. الإطلاقية: توجد في بعض الإيديولوجيات وليس جميعها، حيث تعتمد الفكرة على صحة منهجها الفكري بغض النظر عن أثر التطور المجتمعي متخذة موقفًا متعاليًا على الزمن، يفسر الماضي بأدوات الحاضر أو في صورة أسوأ يكون التفسير توفيقيًا يهدف إلى خدمة تلك الإيديولوجيا.

3. الحركية: على خلاف الفلسفة التي تتخذ نهجًا يسعى إلى بلوغ الحقيقة في ذاتها، إلا أن الإيديولوجيا تميل إلى صب الفكر في الواقع، أي تعتقد بإمكانية تكييف الواقع الاجتماعي وفقًا لمقتضيات الوعي (وإن كان زائفًا).

من تلك التعريفات والسمات السابقة يمكننا أن نشير إلى تعريف يمكنه أن يكون وعاء عامًا يصح تطبيقه على ما سبق وهو ما قاله رشيد مسعود في تعريف الإيديولوجيا بأنها:

مجموعة المفاهيم التي تكونها جماعة من البشر عن أوضاعها في ظرف تاريخي معين.