عندما يتأمل المرء في التاريخ ويمعن النظر في تطورات الأحداث يجد أن معظم الأحداث العظام المؤثرة في مسار التاريخ والمحولة لمجراه عندما تحدث في بداياتها لا يراها الكثيرون بذات أهمية، ويصعب جدا التنبؤ بمدى ضخامة التأثير الذي سوف تحدثه لاحقا، من العسير تخيل أن اغتيال ولي عهد النمسا سوف ينتج عنه حرب يروح ضحيتها أكثر من 10 ملايين إنسان، ومن غير المحتمل توقع أن انتحار بائع عربة خضروات احتجاجا على وضع اقتصادي في تونس سيؤدي لاندلاع ثورات الربيع العربي التي سينتج عنها زوال عروش 4 حكام عرب في عام ونصف!

لهذا الأمر تعد عملية التنبؤ بالمستقبل هي الغرض الرئيسي لمعظم العلوم التي تبدأ بغرض تفسير الظواهر، ثم تنتقل لوضع قوانين يمكنها التنبؤ بمستقبل الظاهرة، ومن ثم الاحتراز لما ما هو قادم، ثم تنتقل للتحكم في معطيات القوانين، وبالتالي التحكم في النتيجة والسيطرة على المستقبل.

وفي سياق قضية التنبؤ بمستقبل العالم تلك سمعنا الكثير من النبوءات من العوام غير المتخصصين منذ أن انتخب الشعب الأمريكي ترامب رئيسا عن احتمالات قيام حرب عالمية ثالثة، والواقع أن أي قارئ لتاريخ الحرب الباردة يمكنه بكل سهولة أن يستبعد تماما هذه الفرضية.

العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تقم فيه حرب واحدة بين أي دولتين من دول العالم الأول مطلقًا، جميعها إما حروب بين دولة عظمى ودولة حقيرة (مثل حرب فيتنام – حرب الخليج الثانية – الاحتلال السوفيتي لأفغانستان) أو حروب ما بين دول العالم الثالث (حرب أكتوبر – حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق – الحرب الهندية الباكستانية حول إقليم كشمير)، وإما حروب أهلية داخلية وجماعات تمرد مسلحة وسواها (الحرب الأهلية في لبنان – حروب إسرائيل ضد حماس – الحرب الأهلية في اليمن)… إلخ، وهو ما يعرف بالحرب المحدودة التي تتم في إطار إقليمي محدد ومستوى استخدام التسليح فيها له سقف محدد.

لا شك أن القوى العظمى ربما تستخدم هؤلاء الوكلاء لتمثيلها في معركتها ضد قوة عظمى أخرى، ولكن في جميع المناسبات التي ظهرت فيها بوادر اندلاع حرب بين قوتين عظميين من بعد الحرب العالمية الثانية سرعان ما تنسحب إحداهما فورا، والأمثلة على ذلك كثيرة أيضا (أزمة السويس 1956 – أزمة صواريخ كوبا 1962– الحرب الكورية 1950).

والسبب الرئيسي في هذا الوضع هو توازن الرعب النووي، فمعظم القوى العظمى تملك مخزونا من السلاح النووي قادرا على إنهاء الحياة على كوكب الأرض عدة مرات، ولو دخلت في حرب كبرى ضخمة فلن تتورع عن استخدامه لتفادي الهزيمة، وهو خيار مأساوي، وبالتالي تتجنب جميع الدول العظمى في هذا العصر أن تدخل حربا ضد دولة عظمى أخرى، وذلك لأن حتى الانتصار في الحرب النووية هو انتصار كارثي بتكلفة ضخمة جدا من الخسارة تفوق أي مكاسب متوقعة من الحرب.

فتوازن الرعب النووي هو ما خلق حالة من الجمود العسكري في العلاقات بين الدول النووية، فلا تجرؤ أي دولة نووية في الدخول في معركة مسلحة مباشرة مع دولة نووية أخرى.. ولكن متى يختل هذا التوازن؟

عندما تتمكن دولة من تطوير تكنولوجيا دفاعية تضمن لها الوقاية من أي ضربة نووية محتملة، وبالتالي لن تخشى الدمار من رد فعل الدول النووية التي ستحاربها، وإن تمكنت من ذلك فسيمكنها بكل سهولة إخضاع العالم كله بالتهديد فقط، بدون حتى إطلاق رصاصة واحدة، ولكن حتى ذلك إلى أمد، وهو أن تتمكن دول أخرى من تطوير نفس التكنولوجيا الدفاعية أو تطوير أسلحة تخترق هذه الدفاعات، ثم يتم العودة مرة أخرى لتوازن الرعب الجديد، وحتى يحدث ذلك فسيستمر الجيل الحالي من الحروب الصغيرة المحدودة على أراضي دول العالم الثالث.


الحروب المحدودة إذن

إذن فإذا أردنا الحديث عن مستقبل العالم أو آليات التغيير المسلحة فإننا هاهنا نتكلم عن نماذج الحرب المحدودة وحروب الوكالة، وبما أن الخيار النووي غير متاح في هذه المعارك فهي ستدور بالشكل التقليدي بنفس تيكتيكات الحروب الحديثة منذ الحرب العالمية الثانية مع تطور نوعي بالطبع في تكنولوجيا السلاح، ولكن أيضا حتى الأسلحة القديمة منذ عشرات السنين تستخدم، حيث تقوم الدول العظمى بالتخلص من الأسلحة القديمة المخزنة في الثكنات منذ عشرات السنين التي جرى الاستبدال بها أخرى أحدث منها عن طريق بيعها للطرف الذي تؤيده في إحدى الحروب المحدودة.

يوجد عشرات النزاعات المسلحة الصغيرة في شتى مناطق العالم الثالث، ويعد أبرزها أو أكثرها تأثيرا في مجريات السياسة الدولية الحرب الدائرة في سوريا وأفغانستان والعراق والصومال ونيجيريا وجنوب السودان وليبيا واليمن، أطراف الصراع هذه الحروب تدور بين ميليشيات صغيرة ومتمردين ضد حكومة الدولة، وأحيانا يتدخل في العمل العسكري دول أخرى مجاورة مثل تركيا في الحرب السورية، وفي الغالب أيضا نتيجة معظم هذه الحروب تنتهي بوضع من 3:

أولا: انتصار الحكومة الأصلية للدولة، وهو أمر طبيعي لأنها تملك قوات مسلحة وأجهزة تنظيمية وعلاقات دولية أكبر وأقوى من المتمردين، ومن نماذج حدوث ذلك الحرب الأهلية في اليمن في 1994، حيث انتصر علي عبدالله صالح على المتمردين الراغبين في الانفصال.

ثانيا: انتصار المتمردين، وهو أمر استثنائي عندما تكون حكومة الدولة ضعيفة جدا غير مرضي عنها دوليا، ويحظى المتمردون بدعم دولي أجنبي أو شعبية ضخمة عند سكان المنطقة، مثل سقوط نظام القذافي في ليبيا 2011.

ثالثا: هو عدم الانتصار واستمرار القتال لأمد طويل منهك لجميع الأطراف، وهو يكون في الحالات التي يحدث حولها نزاع دولي بين القوى العظمى، فتدعم إحدى القوى طرفا وتدعم قوة أخرى الطرف المقابل، أو حين يتفق الأقوياء على أن استمرار الحرب يمثل مصلحة ما لهم مثل ما يحدث في سوريا واليمن حاليًا.

في أغلب الأحوال ليحقق طرف ما انتصارا يكون هو الحاصل على الدعم الأكبر من القوى العظمى، ولكن ليس دائما، فيوجد سوابق تاريخية محدودة في صراع مسلح من ضمن حروب دول العالم الثالث المحدودة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حدث فيه انتصار للطرف الأضعف غير المدعوم من القوى العظمى الخارجية، ومثال على ذلك الثورة الإسلامية في إيران 1979، حيث كان الشاه مدعوما من الولايات المتحدة والخميني لا يدعمه سوى شعب إيران، وقد فرض نفسه وأفكاره على الساحة الدولية رغما عن أنف القوى العظمى آنذاك، و ما زال أثر هذا التحول في إيران يرسم واقعنا اليوم، إذن فمن الوارد أن يتمكن على غير العادة الطرف الضعيف من فرض نفسه على النظام العالمي إن أجاد إدارة المعركة واستغل هفوات الطرف الآخر جيدا، وعلى هذا يراهن الكثير من الأطراف الضعيفة غير المدعومة من القوى العظمى في حروب اليوم، مثل تنظيم الدولة الإسلامية وحركة حماس وجبهة فتح الشام وجيش الرب وتنظيم القاعدة وطالبان وفجر ليبيا والحوثيين وغيرهم.


الحل في السماء

وفي نموذج الحروب التقليدية الذي نتحدث عنه يعد أقوى وأهم سلاح على الإطلاق هو سلاح الطيران، فمن يسيطر على السماء يمتلك أرض المعركة، ويعد هذا السلاح حاسما في معظم المعارك، ولا يوجد تقريبًا أي معركة في التاريخ انتصر فيها طرف لا يملك سماء المعركة ضد طرف آخر يملكها.

وبما أن سلاح الطيران وكذا الدفاع الجوي سلاح معقد يحتاج لتكنولوجيا متطورة وتقنيات فنية معقدة وتدريب طويل الأمد وملايين الدولارات ومساحات واسعة من الأرض من المستحيل أن يتوفر سلاح في الجو لمن سميناهم بالأطراف الضعيفة غير المدعومة من القوة العظمى في حروب دول العالم الثالث المحدودة، وهي نقطة ضعف كارثية وخطيرة، فمهما طال بها الأمد إن لم تجد حليفا دوليا يملك سلاح جو ويمكن أن يعطيها غطاء جويا فهزيمتها حتمية مع مرور الزمن، أو على الأقل سيتم تحجيمها في مساحة محددة لا يمكنها الخروج منها أو التوسع على الأرض مثل تحجيم طالبان في جبال أفغانستان وحصار حماس في قطاع غزة.

إذن فلا جدوى من القتال والمعركة منتهية ومحسومة؟ لا.. فلا يوجد قواعد ثابتة في هذا المجال ولذا يصعب التنبؤ به، فمن الممكن ملاحظة تطور جديد غير مسبوق في آلية إدارة هذه الأنواع من الصراع في بعض الحركات المسلحة التي تمثل أطرافا غير مدعومة دوليا من قوى عظمى في هذه الحروب، وهو استخدام تقنية بسيطة كسلاح للجو لا تحتاج لمشقة التعقيد والتقنيات والتدريب والمساحات الواسعة والأموال الطائلة؛ إنها الدرونز.

الدرونز هي طائرات بدون طيار تعمل عن طريق التحكم عن بعد، وقد تطورت في الغرب بشدة لتستخدم في أعمال مدنية فأصبحت صغيرة الحجم جدا يسهل حملها وتخزينها ويسهل أيضا استخدامها والتحكم بها، والأروع أنه يسهل صناعتها أيضا، فهي ترتكز على نفس القوانين الفيزيائية البسيطة في حركة الأجسام، وبالتالي قد تستطيع أن تحل معظم مشاكل امتلاك سلاح الجو لدى الميليشيات المسلحة الصغيرة.

قد تمثل الدرونز الحل السحري الذي قد يستطيع أن يقلب طاولة الصراع المسلح في أماكن عدة ومن الملاحظ أن استخدامها بدأ في التجسس والمسح الجوي كما فعلت حماس في حرب الجرف الصامد في 2014، حيث حلقت أول طائرة عربية في سماء إسرائيل مطلقًا على مدى أكثر من 60 عاما من الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى إثر ذلك تم اغتيال المهندس محمد الزواري في تونس الذي يعتبر الأب الروحي لهذه الطائرة، ومؤخرًا طوّر تنظيم الدولة تقنية في الدرونز تنجح في إطلاق قذائف محدودة التأثير على أهداف العدو في سابقة تاريخية من استخدامها.

فهل يمكن أن نتنبأ بأننا نشهد اليوم زمنا قد يحدث فيه تحولات في مسار الصراعات القائمة في دول العالم الثالث؟ هل يمكن أن يظهر لنا شبيه لثورة إيرانية تفرض نفسها على النظام العالمي؟ ربما فمن يدري.