الإنسان الذي صنع معجزاته كلها لم يتمكن حتى الآن أن يتخلص من الجانب الشرير فيه، الجانب الذي يتمثل بالشق الحيواني الذي يخالط إنسانيته، الشق الذي يجعله مفترسا ومتوحشا أكثر من الوحوش نفسها كما يرى ممدوح عدوان في كتابه حيونة الإنسان، الإنسان الوحش يظهر في ظروف معينة، يحيل صاحبه إلى شيء مفترس، يحمل صورة الإنسان، وهوية لا تنتمي للإنسان، الإنسان الوحش يظهر في عتمات السجون متمثلا بشخصيات الجلادين، ويظهر في الحكومات المستبدة متمثلا في الحكام الديكتاتوريين، ويظهر على مستوى الأفراد الذين يصبحون فتاكين لمجرد أن يجدوا الفرصة لفعل ذلك.

من خلال رواية (يسمعون حسيسها) ينقلنا الكاتب أيمن العتوم في رحلة مؤلمة تدور في دهاليز سجون النظام السوري، الذي لم يبتدئ توحشه من الحرب الأخيرة، بل ابتدأ مسيرته في التوحش منذ مجرزة حماة في الثمانينيات من القرن الماضي.

رواية يسمعون حسيسها تنتمي لما يعرف بـ (أدب السجون) وهو الأدب الذي يناقش التجارب الإنسانية المختلفة التي تتم داخل السجن، التجارب التي يحكيها شخص عايشها وذاق مرارتها، ويحاول من خلال السرد أن يخفف من عبء ألم الذاكرة، كما يحاول من خلالها نقل بعض معاناته للقراء ليعرفوا أن جدران الحياة ليست كلها وردية، بل إن بعضها مخيف لأنه يصطبغ بدماء ولحوم المعذبين في المجتمعات المقهورة تحت بيادات الأنظمة المستبدة.

تبتدئ الرواية بحكاية الدكتور إياد الأسعد الذي يُقبض عليه بتهمة الانضمام لخلية إرهابية حاولت اغتيال الزعيم، تسرد هذه الشخصية كل وقائع التعذيب ببشاعتها بأحداثها في آتون الرواية، تفصل طرق إفراغ الإنسان من هويته وتحويله إلى مسخ بين الحيوان والجماد، على مدى ثلاث عشرة سنة يعيش الدكتور إياد الأسعد تجربة الموت أكثر من مرة، يعيش أهوال التعذيب والإهانة، ويعيش تجربة فقد الأحبة وتناقص عددهم، إما بفعل الإعدامات الجماعية، أو بفعل الأمراض الفتاكة كالكوليرا أو الجذام أو السل نتيجة عدم الاهتمام بنظافة عنابر المساجين.

بين المهجع (27) والمهجع (34) تدور أحداث هذه الرواية، نتعرف على عامر الزعيم وعلى العقيد الطيب، على الشخصيات الإيمانية لبعض المساجين، نتعرف على الأبرياء وعلى المجرمين، نعيش أحداثاً مؤلمة تودي بأصحابها كما حدث مع محمود الفحام، نتعرف على شخصيات استثنائية مثل قسطنطين صروف، العجوز وأبنائه الثلاثة شهاب وعلي وأخيهما الصغير الذين يعدمون في نفس اليوم ليبقى فؤاد والدهم فارغاً ويموت كمداً بعد حين، المهندس أحمد شقيق الدكتور إياد، وكيف يعدم في أحد حفلات الإعدام التي كانت تتم كل سبت وأربعاء.

يعيش الدكتور إياد أكثر من تحدٍ في السجن، تحدي التعذيب، وتحدي الأمراض القاتلة التي واجهها كل السجناء وأودت بحياة الكثير منهم، وتحدي لوعة فراق أحبته وافتقاده لطفلته لمياء، وتحدي السجن الانفرادي، وتحدي تطاول الزمن عليه وعلى غيره من المساجين، ثم ينتهي به المطاف بإفراج نتيجة لعفو رئاسي، ويخرج من تلك التجربة المؤلمة بعد أن يقضي زهرة شبابه في آتون الويل والعذاب عند زبانية السجن.

الرواية من حيث البنية الفنية شملت العديد من الجوانب الإبداعية في استخدام اللغة الوصفية العالية لإيصال الحدث للقارئ، المكان تتضح معالمه أكثر من خلال أسلوب الوصف، الزمن لم يركز عليه الكاتب كثيراً وكأنه يريد أن ينقل شعور انعدام الشعور بالزمن داخل أبواب السجن، وفي المقابل ركز الكاتب على عدد القتلى الذين كان يعدهم إياد الأسعد من خلال الخطوط التي ينحتها بظفره على جدار السحن، وكأنه بذلك يريد أن ينقل إيمانه العميق بأن الزمن والمكان لا قيمة لهما طالما أن الإنسان يقتل بدم بارد.

تعيش الدول العربية حاليا إرهاصات سياسية واجتماعية كبيرة نتيجة لحركة الوعي والتحرر التي تخوضها الشعوب ضد حكوماتها المستبدة، وضد التدخلات الخارجية السافرة التي تدمر مستقبلها، لكن في مشهد الإرهاصات الحالية لاتزال كفة الاستبداد هي الراجحة، ذلك يعني أن مشهد مهجع (27) و مهجع (34) سيتكرر ألف مرة، وذلك يعني أن مئات القصص يجب أن تروى عن هذه الملاحم البطولية، الحكي هنا ليس من باب التوثيق وحسب، بل من أجل بناء الوعي العام لدى المجتمع، الوعي الذي يجب أن يدرك أن الاستبداد لا يخلق خيراً للإنسان، بل يحول جزءا منه إلى وحش مفترس، يدمر كرامة المجتمع وهويته من أجل أن يرضي الجانب المتوحش من الإنسان الذي يفرض سطوته.

أدب السجون يعتبر من أنواع الأدب المهمة التي لم تأخذ حظها من النشر والمطالعة، ليس لأنها قليلة وحسب، بل لأنها لا تأخذ أهميتها أمام وضع التخدير الذي نعيشه لانتشار قصص الحب والغرام التي تغرق مكتباتنا العربية، قصص الحب والغرام قد تحتوي على جانب فني أدبي واجتماعي، لكن في مرحلة قاسية تعيشها مجتمعاتنا حاليا ينبغي أن نركز على بناء الوعي، الوعي الذي يجب أن يدرك المشكلة الحقيقية ليحلها، وأدب السجون أحد تلك الجوانب التي تساعد الوعي على أن يدرك مشاكله الحقيقية.