قيود الظلم تحاصرني وسجون القمع تطاردني وسيوف القهر تعاورني في كل مكان! علمني شعري أن أصرخ لا أخشى جور السلطان إن كان ليَ السجن المأوى أو كان ليَ القبر المثوى بيتي وسجونك سيان موتي وحياتي وجهان نبقى أو يبقى الطغيان!

من قصيدة «وقائع محاكمة قلم شاعر» للشاعرة مروة دياب

كان هذا لسان حال ستة عشرة طالبًا وطالبة من بواسل الثانوية العامة (التوجيهي) في فلسطين، الذين أبوا إلا أن يصرخوا صرخة تفت في عضد عتاة الظلم، ومدنسي الأرض، ولتكون دمائهم العطرة، وأجسادهم الطاهرة وقودًا لإبقاء جذوة نيران المقاومة مشتعلة، وليجنوا من رحم الموت ميلادًا جديدًا لوطن ما زال يتجرع مرارة الأسر.

الشهادة خير من الحلم

الشهيدة دانيا أرشيد
الشهيدة «دانيا أرشيد»
مصطفى الخطيب، ودانيا أرشيد، وسوسن منصور، كان يراودهم حلم بمستقبل مشرق، يجتاز فيه كل منهم مرحلة الثانوية العامة، ليكون ذلك بداية الطريق الذي خططوا أن يسلكوه من أجل تحقيق الهدف.فقد كان ابن مدينة القدس الشهيد مصطفى الخطيب، الطالب بمدرسة الإبراهيمية، يحلم بعد إنهاء دراسته الثانوية بأن يلتحق بجامعة ألمانية لدراسة الهندسة الميكانيكية أو تخصص إدارة المستشفيات، إلا أن الاحتلال أنهى حياته وحلمه بأربع رصاصات استقرت في رأسه ورقبته.حيث أوضح والده المكلوم أن الاحتلال أقدم على إعدام مصطفى بدم بارد، وقال: «لو كانت الشرطة تنوي اعتقاله مثلًا لما أقدمت على إطلاق أربع رصاصات عليه، اثنتين بالرقبة واثنتين بالرأس. إطلاق النار بهذه الطريقة يؤكد نية التصفية، وعندما رأيته في المشرحة كان بقية جسده خاليًا من أية رصاصة سوى تلك الأربع».وكان مصطفى قد اُستشهد قبل دخوله للمدرسة، ويزعم جيش الاحتلال أنه كان على وشك تنفيذ عملية طعن، على خلاف كل الشواهد التي تنفي ذلك.
حتى قبل تنفيذها لعملية الطعن بساعات قليلة، كانت سوسن منصور تجتهد في مذاكرتها.
أمّا دانيا أرشيد، فقد كانت تشحذ همتها، منذ بداية العام الدراسي، للنجاح والتغلب على أي عائق يحول دون حلمها، فكانت دائمًا ما تتوجه إلى الله بالدعاء ليوفقها، ونظرًا لأهمية المسجد الإبراهيمي في نفوس الفلسطينيين، يقول والدها إن دانيا تعودت أن تُنهي دروس التقوية وتتوجه إلى المسجد للصلاة فيه والدعاء، لكن رصاص الاحتلال أبى أن تكمل دانيا طريق حلمها، حيث وُجدت عند بوابات المسجد الإلكترونية قرار الإعدام جاهزًا، فبادرها جنود الاحتلال بالرصاص بحجة محاولتها طعن أحدهم، ثم تركوها تنزف حتى الموت وماطلوا في تسليم جثمانها.فقال عنها والدها: «إن دانيا ليست ابنته فقط بل ابنة فلسطين التي تدفع كل يوم ثمنًا لعزتها»، لذلك فهو يستقبل المهنئين باستشهادها، مُبدِيًا ثقته بأن الله شرّفه بمنح ابنته ما هو أفضل من الثانوية العامة التي كانت تسعى لها، وما هو أفضل من أهلها ومدينتها.أما سوسن منصور، فكانت تحلم هي الأخرى بالتفوق، وكانت تقول: «سأفجئ أمي وأبي بالمعدل الذي سأحصل عليه في الثانوية العامة»، فقد كانت تجتهد في مذاكرتها حتى قبل ساعات قليلة من استشهادها.فتقول والدتها أم داوود: «يوم استشهادها كانت تدرس في المنزل منذ الصباح»، واستشهدت سوسن بعد محاولتها تنفيذ عملية طعن بالقرب من حاجز «رأس بدو» المقام على مشارف قريتها المقدسية، في 23 مايو 2016، فقررت أن تحصل على شهادتها في الآخرة، فرحلت وبيدها كتابها وسكينًا كان طريقهًا لهذه الشهادة.

محمد ولبيب رفيقا الدرب

الشهيدين محمد هاشم زغلول ولبيب خلدون عازم
الشهيدان «محمد هاشم زغلول» و«لبيب خلدون عازم»
محمد هاشم زغلوان، ولبيب خلدون عازم، شابان من بلدة قريوت جنوب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة، ربطتهما علاقة صداقة قوية، فعاشا معًا وسلكا دروب الحياة سويًا، إلى أن استشهدا معًا، بعد أن نفذا عملية طعن أصيب بها مستوطن بمستوطَنة «عيليه» القابعة على أراضي بلدتهم.محمد الذي كان يدرس بالثانوية العامة (الفرع العلمي) عُرف بتفوقه في دراسته، وحصل على المركز الأول على صفه في السنة الماضية قبل استشهاده. ويقول والده أن محمدًا كان يُخطط لإكمال دراسته الجامعية وفق ما يسمح به معدله.أما لبيب كان يهوى الرسم، وكان يخطط لدراسة تخصص الديكور بعد حصوله على الثانوية العامة.ومعروف عن محمد ولبيب التدين والاستقامة في أوساط أهالي قريوت، وربطتهما علاقة صداقة قوية، وكانا يلتقيان يوميًا، خاصة وأنهما يدرسان بذات المدرسة.وحسب رواية الاحتلال، فقد تسلل الشهيدان ليلًا إلى مستوطنة «عيليه» على أراضي قريوت من الجهة الغربية، وانتظرا في فناء أحد المنازل داخل المستوطنة، وعندما حاول المستوطن الذي يقطن المنزل الخروج منه فجرًا، هاجماه بسكاكين وعصي كانت بحوزتهما. إلى أن أطلق جنود الاحتلال الرصاص عليهما بالقرب من مدخل المستوطنة، وتركوهما ينزفان إلى أن اُستشهدا.

شهداء ورثة شهداء

الشهيد محمد نبيل حلبية
الشهيد «محمد نبيل حلبية»

رغم الأجواء الماطرة والباردة في الأراضي الفلسطينية إلا أنه قد خرج المئات من الفلسطينيين للمشاركة في جنازة الشهيد محمد نبيل حلبية وإلقاء نظرة الوداع عليه، فقد كان الفتى هادئ الطباع، وتميز بعلاقته الطيبة مع الجميع.وكان ينتمي لعائلة حلبية، التي اشتهرت بتضحياتها المستمرة من أجل إعلاء هامة الوطن، فقبل نحو 14 عامًا استشهد جد محمد حلبية، الشهيد «درويش حلبية» خلال بناء جدار الفصل العنصري في قرية أبو ديس، حيث وقف حينها الجد درويش أمام جنود الاحتلال أثناء بناء عملية أجزاء من الجدار، وحدث بينهما مشادات كلامية، فقام أفراد من الجنود بالاعتداء عليه ودفعه عن تلة أدت الى استشهاده على الفور. وفي اليوم الأربعين لاستشهاد «الجد درويش» توفي نجله نبيل وهو والد الشهيد محمد حلبية.

لم يتردد محمد نبيل حليبة في تنفيذ عملية لطعن جنود الاحتلال، ليرتقي ملتحقًا بجده الشهيد، الذي سقط قبل 14 عامًا.
أما الطفل الباسل محمد، ذو الـ 17 عامًا، فقد تمكن من التسلل في وقت متأخر من الليل، وقام بتفجير عبوة ناسفة محلية الصُنع كانت بحوزته، على مدخل معسكر أبو ديس لجيش الاحتلال المقام على أراضي القرية، مما أدى إلى استشهاده.أما الشهيد خليل شلالدة، فقد كان كثيرًا ما يتألم لما يحدث لأقرانه وجيرانه من عمليات قتل من قِبل الاحتلال بدم بارد، إلى أن قام رصاص الغدر باستهداف شقيقه محمود شلالدة، مما عده خليل شرارة البدء للانتقام من أعداء الوطن.فتقول «أم خليل» أن خليل كان دائم الصلاة وقراءة القرآن، وبعد استشهاد شقيقه محمود كان حزينًا، وأقسم بأنه سينتقم من المحتلين الذين قتلوا شقيقه، وقد أوفى بوعده وذهب ليطفئ النار المشتعلة بداخله جراء عدوان الاحتلال على أبناء الشعب الفلسطيني.

سعير «عاصمة الغضب الفلسطيني» يشتعل

الشهيد أحمد يونس الكوازبة
الشهيد «أحمد يونس الكوازبة»

حضرت الخليل «عاصمة الغضب الفلسطيني»، بقوتها المعتادة وقدمت عددًا كبيرًا من بواسل الثانوية العامة الذين ضحوا بأرواحهم من أجل عزة وصيانة كرامة الوطن المحتل، ففي جنازة مهيبة، يوم 6 يناير 2016، شيعت جماهير غفيرة من أهالي محافظة الخليل جثمان الشهيد أحمد يونس الكوازبة من بلدة سعير والذي استشهد بعد إطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي النار عليه بالقرب من مجمع مستوطنات «غوش عتصيون» شمال الخليل، بحجة طعن مستوطن.فبرصاصة واحدة دخلت من الجانب الأيسر العلوي تحت الإبط مرورا بالرئتين والرقبة والفك أدت إلى كسر الفك، وإحداث نزيف داخلي في الأمعاء والرئتين، أودت بحياة كوازبة الذي أراد أن ينتقم من ظلم الاحتلال لبني جلدته.أما شهيد بيت عينون هو الشاب عدنان عايد المشني من سكان قرية الشيوخ، استشهد برصاص الاحتلال على مفترق بيت عينون شرق مدينة الخليل. وقد أُطلق عليه الرصاص بشكل مباشر، مما أدى لإصابته بجروح خطيرة، وما زاد من تعقيد الأمر هو منع الاحتلال لسيارات الإسعاف الفلسطينية من الوصول إليه ما أدى لاستشهاده في ذات المكان، وحسب مصادر إعلامية إسرائيلية فإن عدنان قد حاول تنفيذ عملية طعن، فمن ثم أطلقوا عليه الرصاص الحي ليودي بحياته.أما «ملاك الشهداء» كلزار العويوي، كانت دائما ما تؤجل اختيار تخصصها في الجامعة عند سؤالها عنه، وتقول لوالدتها: «لسا يا إمي، لبعدين بفكر» ولكنها فكرت في طريق آخر، وهو طريق الشهادة.ولم يمنع كلزار جسدها الضعيف، من أن تعبر حواجز الاحتلال المنتشرة بأرجاء البلدة القديمة من الوصول إلى محيط الحرم الإبراهيمي لتحاول أن تنفذ عملية طعن هناك، دون أن تعبأ بالخطر الذي أحاط بها هناك، فأطلق عليها الاحتلال الرصاص دون رحمة، إلى أن فاضت روحها إلى بارئها.


من رحم «جنين» يولد الأبطال

حضرت الخليل بقوتها المعتادة وقدمت عددا كبيرا من بواسل الثانوية العامة الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الوطن.

تميزت بلدة جنين، على مدار تاريخ المقاومة الفلسطينية، بإنجابها للأبطال البواسل الذين دفعوا أغلى الأثمان ليشهدوا ميلادًا جديدًا لوطنهم المسلوب.نور الدين سباعنة بن بلدة قباطية في جنين، كان من المفترض أن يستعد للثانوية العامة، ولخوض فصل جديد في حياته المدرسية، لكنه فضّل خوض فصل أخير من حياته كتبته رصاصات الاحتلال الغادرة، حينما حاول مع ثلاثة شباب آخرين (اثنين منهم من عائلته) تنفيذ عملية طعن لجنود الاحتلال على مدخل نابلس.أمّا أحمد عوض محمد أبو الرب، من بلدة ‏قباطية، فقد اختار الشهادة، دون إتمام دراسته الثانوية، فاستشهد في 2 نوفمبر 2015 حينما طعن أحد جنود الاحتلال المتركزين على حاجز الجلمة شمال جنين.وبذلك أثبت هؤلاء الشباب، أن المقاومة ما زالت حية في نفوس كل من أراد أن يتنفس من طهر الحرية بدلًا من الغرق في ذل دنس الاحتلال، وأن من تلك الدماء الذكية ستُروى أرض الوطن المتعطشة للحرية.