ما بين توجهات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب والصعود الروسي، أصبح مصير بقاء أحد رموز الحرب الباردة محل شك، وهو حلف شمال الأطلنطي «الناتو»، حتى وصفه ترامب بأنه «عفى عليه الزمن»، أما روسيا اعتبرته من «مخلفات الحرب الباردة» مطالبةً بتشكيل نظام عالمي جديد، ويقابل التشكيك الأمريكي والترقب الروسي، تخوف أوروبي من اندثار مظلتهم الأمنية في وجه الدب الروسي المتحفز للثأر، وتثير هذه التحولات السريعة والمفاجئة سؤالًا جوهريًا حول ما إذا كان حلف الناتو سيبقى أم سيكون من ركام الماضي، وهل سيخرج منه أعضاؤه تباعًا كما تركت بريطانيا الاتحاد الأوروبي؟


هل عفى عليه الزمن حقًا؟

طالب ترامب مرارًا حلفاء الولايات المتحدة في الناتو بزيادة نفقاتهم العسكرية، وتحمُّل جزء من أعباء الدفاع عن أنفسهم، ليس فقط خلال حملته الانتخابية، ولكن بعد توليه الرئاسة رسميًا، إذ لا يزال مصرًا على ذلك، وهذا المطلب طرحه الرئيس السابق باراك أوباما من قبل منتقدًا «الراكبين مجانًا» من الدول الأوروبية، والتي تستغل بلاده في الدفاع عنها.

وأعلن ترامب في تصريحات له يوم 18 فبراير/ شباط الماضي استمرار تأييده للناتو لكنه انتقد ضعف إنفاق أعضائه، قائلًا: «علينا أن نتجاهل الإطارات وأصداء حروب الأمس، نقود معارك لم تعد تساعدنا، أنا أؤيد الناتو، ونحمي العديد من الدول في الحلف ودول غنية جدًا، ولكن العديد من البلدان في الناتو لا تدفع فواتيرها».

وتدلل هذه التصريحات وغيرها على أن ترامب لم يعد يرى الحلف أداة لمواجهة الحروب كما كان في السابق، أو الدفاع عن قيم معينة ولكن أداة تستخدم مقابل المال، والأخطر من ذلك أنه اعتبر الحلف «عفى عليه الزمن» وبات عبئًا على دافع الضرائب الأمريكي، وبالتالي ليس من مصلحة أمريكا الالتزام بمنظومة عسكرية عديمة الفائدة.

ولم تأت التصريحات والمواقف من ترامب فقط بل من أركان إدارته، فقد أعلن نائبه مايك بينس خلال حضوره مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي في ألمانيا، 21 فبراير/ شباط الماضي أن الرئيس الأمريكي يرغب بتحقيق «تقدم فعلي بحلول نهاية عام 2017»، بشأن عدم تقيد عدد من دول الحلف بنسبة النفقات العسكرية والمقدرة بـ 2% من إجمالي ناتجها الداخلي، وكانت دول الحلف قد اتفقت على هذه النسبة عام 2014، على أن يتم التقيد بها من قبل الجميع بحلول العام 2024.

وعلى الوتيرة نفسها أوصل وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس رسالة مشابهة خلال اجتماع وزراء دفاع الحلف، وهدد بأن الولايات المتحدة قد تخفف من التزاماتها إذا فشل الحلفاء في تسديد ما يتوجب عليهم.


هل تكون أوروبا على أهبة الاستعداد؟

كشف مجىء ترامب عن هشاشة الناتو، وقد تبدى ذلك من قبل في ضعف موقفه تجاه الأزمة الأوكرانية، فلم يستطع فعل شيء لوقف ما حدث هناك أو التصدي لضم روسيا لجزيرة القرم رغم أن ذلك كان في عهد أوباما، وقبل انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، والآن أصبح الأمر أكثر صعوبة، فترامب سيتبع الآن سياسة «الدفع مقابل الحماية»، ونظرته للحلف ستختلف عن سابقيه، فهو رمز لليبرالية والرأسمالية الغربية، وأداة الغرب العسكرية في الحفاظ على قيمه.

وتخوفًا مما طرحه ترامب، بدأت دول أوروبا تنفيذ طلباته بزيادة إنفاقها العسكري، إلى جانب تخوفها من التهديدات الروسية المتزايدة، مما فرض عليها تطوير نفسها، حيث لم تقدر أو لم ترغب الولايات المتحدة (أوباما) في توريط نفسها في نزاع عسكري من أجل أوروبا، فما بالنا بترامب الذي أعلنها صراحة.

وتعتبر ألمانيا الآن الدولة القائدة للاتحاد الأوروبي، اقتصاديًا لكنها عسكريًا ليست بالدرجة المطلوبة في مواجهة أي خطر روسي محتمل، وبداية بتقوية قدراتها العسكرية كشفت صحيفة «الإندبندنت البريطانية» في تقرير لها ضم الجيش الألماني 5 آلاف جندي إلى صفوفه، وذلك في زيادة هي الأولى من نوعها في عدد قواته منذ الحرب العالمية الثانية، كما تعتزم وزارة الدفاع رفع عدد جنود الجيش إلى 198 ألف جندي بحلول عام 2024.

ومما يزيد من مخاوف أعضاء الناتو وخاصة الدول الأوروبية، انعكاس خروج بريطانيا على أمنها، فقد كانت المملكة المتحدة إحدى دولتي الاتحاد التي لديها سلاح نووي، ولكن الآن أصبحت فرنسا بمفردها، وهي لن تقدر على قيادة وحماية دول الاتحاد، وبالتالي بدأت دوله التفكير في إنشاء جيش موحد إلى جانب منظومة نووية لأنها لن تعتمد بعد اليوم على مظلتي لندن وواشنطن.

ويعزز هذه المخاوف ما كشفته صحيفة دير شبيجيل الألمانية، من أن انتخاب ترامب أثار شكوك الناتو وبرلين حول استمرار مظلة واشنطن النووية في حماية أوروبا، ولهذا بدأت الدول الأوروبية تناقش إقامة مظلة ردع نووية، لحمايتها ومنعها من الاستغلال الأميركي، وفي حال إنشاء المظلة الأوروبية ستمولها ألمانيا وستقودها فرنسا.

ومن ناحيتها حققت بريطانيا هدف الناتو بالإنفاق العسكري حيث تخطت نسبة الـ 2% من الناتج المحلي، وهذا غير مرتبط في الواقع بمتطلبات الحلف، فلندن تريد توسيع دورها العالمي وبدا ذلك في خروجها من الاتحاد الأوروبي إلى جانب وضعها برنامجًا لتطوير وتحديث قدراتها النووية والمعروف باسم «ترايدنت».

اقرأ أيضًا:المملكة العظمى: استعادة الأمجاد بتطوير الترسانة النووية

ولدعم موقف حكومتها بتطوير نظام الردع النووي، أوضحت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في خطاب لها بمجلس العموم يوليو/ تموز 2016، أنه من الخطأ أن تتخلص بريطانيا من أسلحتها النووية، وعللت ذلك بوجود «مخاطر كبرى قد تظهر خلال السنوات الثلاثين أو الأربعين المقبلة».


هل روسيا جاهزة للمواجهة؟

حذرت روسيا مرارًا من تعزيز الحلف لأنشطته بجوارها أو ضم أعضاء جدد إليه على المحور الشرقي، فيما تجاهل الناتو هذه التحذيرات وعمل على دعم نفوذه في هذه المناطق، وهو ما اعتبرته روسيا تعديًا عليها واستهدافًا واضحًا لها.

وكان الناتو قرر خلال اجتماع له في يونيو/ حزيران 2016 نشر 4 كتائب عسكرية في بولندا، ودول البلطيق الثلاث، إستونيا، وليتوانيا، ولاتفيا، إلى جانب الاتفاق على إجراءات جديدة لتعزيز قدرات الردع، وتطوير القوة الدفاعية للحلف، ورفع مستوى وجوده في شرق أوروبا، وهذا شكل مصدر قلق كبير لروسيا وعدّته استهدافًا مباشرًا لها.

وردًا على ذلك وعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين،باتخاذ إجراءات مضادة ضد تحركات الناتو، وتمثل ذلك في نشر نظام دفاع صاروخي متطور يشمل صواريخ «S400» و«إسكندر»، وهدد صراحة باستهداف الأهداف التي ستمثل خطرًا على بلاده، والمنتشرة في دول الجوار الروسي، قائلًا «سنجعل المواقع التي نرى أنها تهددنا أهدافًا لأنظمتنا الصاروخية».

اقرأ أيضًا:حرب باردة جديدة: برلين في مرمى الصواريخ الروسية

ورغم التهديدات الروسية بالتصدي لاستفزازات الناتو، إلا أنها غير قادرة على مواجهة الحلف، ولهذا تحاول كسر حدة الخلاف بدعوات التهدئة والحوار، فقد طالب ألكسندر غروشكو، مندوب روسيا الدائم لدى الناتو، دول الحلف بإعادة النظر في سياسة تخويف روسيا إذا أرادت مكافحة الإرهاب، والتعاون معها في ذلك.

أما وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف فاعتبر أن توسعة الناتو زادت من حالة التوتر في أوروبا، وحاول هذه المرة التهدئة خلال كلمة له بمؤتمر ميونيخ للأمن الشهر الماضي، داعيًا أعضاء الحلف إلى التعاون معًا من أجل إزالة مخاوف روسيا والغرب، ومواصلة الحوار.

وهنا تمزج روسيا بين آليتين لتحقيق أمنها تجاه الحلف؛ وهو العمل الدائم لتطوير قدراتها العسكرية وإطلاق التهديدات المتكررة، إلى جانب دعوات الحوار، فهي تريد إيصال رسالة بأنها قادرة على المواجهة، ودعوتها للتفاهم ليست ضعفًا وإنما لتجنب الصدام، والذي سيخرج منه الجميع خاسرًا فهناك قدرة على الردع المتبادل.


الإيمان بأوروبا كميزان لضبط البوصلة العالمية

رغم مهاجمة ترامب للحلف فإن بلاده بحاجة إليه، كما هو ضامن لأمن أعضائه بفضل وجود الولايات المتحدة فيه، حيث ساعد الحلف واشنطن في تقوية نفوذها ودعمه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وعاونها أيضًا في فرض قيمها وتصورها للنظام العالمي.

ويؤكد ذلك ما صرحت به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من أن قوة الولايات المتحدة تعاظمت بسبب الناتو، وذكّرت أعضاء الحلف بأن يدركوا قيمة منظومتهم العسكرية الجماعية، ولإدراك ميركل أن بلادها القائدة الآن لدول أوروبا، أكدت على زيادة ميزانية دفاع برلين هذا العام بنسبة 8%، مؤكدةً تمسك بلادها بتعهد زيادة نفقات الدفاع لتشكل نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي.

وبالنظر إلى مشكلة تحمل الأعباء المالية التي طرحها ترامب فهي ليست المعضلة الأساسية لبقاء الحلف، حيث التحدي الأكبر هو إيمان أعضائه بأهمية التعاون الجماعي والتي بدأت تتراجع في أوساط أوروبا والاتجاه نحو العزلة والانكفاء على مشاكل الداخل وصعود اليمين المتطرف، والذي يؤيد هذه الأفكار، فكما خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس مستبعدًا خروج دول أخرى وقد ينسحب ذلك على حلف الناتو.

اقرأ أيضًا:استفتاء إيطاليا: هل يؤدي إلى خروجها من الاتحاد الأوروبي؟

وختامًا؛ يمكن القول إن الحلف سيبقى مظلة جامعة لأعضائه، لأنه لن يقدر أعضاء الحلف وبخاصة الأوروبيون على مغادرته، لأنها مهما قويت كل دولة على حدة فلن تقدر على مواجهة روسيا منفردة، وكذلك واشنطن في حاجة للحلف لدعم دورها القيادي، لأنها إن تراجعت ستحل روسيا محلها، سواء بالتوافق مع هذه الدول أو التدخل بشكل سلبي فيها وإضعافها كما جرى في أوكرانيا، وهذا سيؤثر سلبًا على النفوذ الأمريكي.